د. بشير موسى نافع
ثم جاء الإصرار الإيراني على تولي المالكي رئاسة الحكومة ليثير مزيداً من الأسئلة حول السياسة الإيرانية في العراق، ليس فقط لتحدي هذا الإصرار للإرادة الانتخابية، أو لتوجهات المالكي السلطوية، ولكن أيضاً للدور الكبير الذي لعبه في تعزيز الطابع الطائفي للحكم والدولة، ربما على نطاق أوسع بكثير ممن تولى موقع رئاسة الحكومة قبله..
ثمة أزمة سياسية مستحكمة في العراق. وإن كان هناك عدد من البلدان في العالم في حاجة ماسة لحكومة فعالة، يلتف حولها الشعب، فلا بد أن يكون العراق في مقدمتها، ولكن القوى السياسية العراقية لم تستطع منذ شهور الاتفاق على تشكيل الحكومة العتيدة. الانتخابات البرلمانية لم تفرز قوة سياسية تتمتع بالأكثرية؛ ولكن المشكلة لا تتعلق بنتائج الانتخابات وحسب؛ فإلى جانب نظام انتخابي سيء، هناك نزعات سيطرة تحكمية تزداد بروزاً، وتدخلات بليغة وغير حكيمة من جارة العراق الكبرى: إيران.
الأرجح، أن الانتخابات في ظل النظام الدستوري والانتخابي الحالي لن تنتج مطلقاً قوة أكثرية. عندما ينقسم بلد ما على نفسه، طائفياً وإثنياً، وتقوم السياسة على أسس طائفية وإثنية، ستكون النتيجة الطبيعية انقساما مستديما في البنية السياسية. هذه ليست إيطاليا السبعينات والثمانينات، أو تركيا ما قبل العدالة والتنمية، عندما كانت الأحزاب السياسية عاجزة عن كسب ثقة وولاء أغلبيات شعبية في ظل نظام انتخابات نسبية، واعتادت البلاد تشكيل حكومات قلقة وقصيرة العمر في أغلب الأحيان. هذا نظام أقيم أصلاً ليجسد ثقافة الانقسام الوطني ويؤبده في الآن ذاته.
وما يزيد الأمور تفاقماً أن أحداً لا يعرف على وجه اليقين تعداد السكان، ولا طبيعة توزيع الأصوات الانتخابية على المحافظات والدوائر؛ وقد خضع توزيع المقاعد منذ إقرار الدستور الحالي للأهواء وموازين القوى، أكثر منه للحقائق الديمغرافية. ولفترة لا أحد يعرف إلى أي مدى ستطول، ستصوت الأغلبية الكردية للأحزاب الكردية القومية، التي تتبنى برامج وتسعى لتحقيق أهداف محدودة ولا تمت إلى البرامج والأهداف الوطنية لعموم العراقيين بصلة وثيقة. ومن ناحية أخرى، وبالرغم من التراجع النسبي في الخطاب الطائفي، فإن بروز أحزاب طائفية يعمل على إطالة أمد انشطار الساحة السياسية بين البرامج والقوائم الطائفية، المعلنة أو المستبطنة، من جهة، والبرامج والقوائم الوطنية، من جهة أخرى. وهذا تماماً ما جاءت به نتائج الانتخابات الأخيرة، وأحد أهم وجوه أزمة تشكيل الحكومة التي ولدتها هذه النتائج.
بيد أن الأزمة لا تقتصر على هذا البعد من الوضع العراقي الجديد؛ فقد تحول رئيس الحكومة السابقة، السيد نوري المالكي، الذي تقوم حكومته منذ الانتخابات بتصريف محدود لأعمال الدولة، إلى عامل تأزم بحد ذاته. أبدى المالكي عند اختياره مرشحاً لرئاسة الحكومة من قبل تحالف القوى الشيعية - السياسية زهداً ملحوظاً بالمنصب وامتيازاته. ولكن السنوات الأربع الماضية شهدت تحولاً حثيثاً ومطرداً في علاقة المالكي بالسلطة، من نشط حزبي معارض سابقاً، بأجندة إسلامية - طائفية كامنة، إلى حاكم متفرد لدولة تحبو في اتجاهات متعددة، غير واضحة الهدف، ورئيس حكومة متعددة الأطراف.
من جهة، حاول المالكي إعادة بناء صورته كحاكم وطني قوي، متحرر من الارتباطات الطائفية. ولوهلة قصيرة كاد أن ينجح بالفعل في إقناع العراقيين بتوجهاته الوطنية. ومن جهة أخرى، لم يتورع عن مواجهة قوى المعارضة المسلحة بعنف بالغ، وإجراءات اعتقال وتعذيب غير قانونية، وسياسات اجتثاث راديكالية للمعارضين السياسيين. وشيئاً فشيئاً، عمل على تهميش شركائه في الحكم، وبنى لنفسه مجموعة من المستشارين.
وبالرغم من ضعف سيطرة الدولة على الشأن الوطني، ومن الهشاشة الأمنية، ومن الانقسام السياسي العميق، ومن حرص العديد من القوى السياسية وغير السياسية على إضعاف العاصمة ومنعها من النهوض من جديد كمركز قوى وجامع، ما لبث المالكي أن تحول إلى دكتاتور صغير. ولا يجب أن يقلل أحد من براعة المالكي وقدرته على كسب ثقة قوى متناقضة، كالإيرانيين والأمريكيين.
لأسباب كثيرة، وجد الأمريكيون والإيرانيون أن المالكي حليف يعتمد عليه، وأن من الأفضل في هذه المرحلة الانتقالية التعامل مع شيطان تعرفه من أن تجرب ملاكاً لا تعرفه. الأمريكيون، لأن هدفهم الرئيسي في هذه المرحلة هو استتباب الأمن، ووجود حاكم قوي، قادر على اتخاذ القرارات الصعبة المتعلقة بالوضع الأمني، مهما بلغت الشبهات المحيطة بهذه القرارات. وعلى مستوى آخر، يجد الأمريكيون في استمرار الانقسام الطائفي، ما لم يتحول إلى صدام وتدافع أهلي مسلح، مصلحة لنفوذهم وتأمين هذا النفوذ لسنوات قادمة.
ولا يقل الموقف الإيراني من المالكي تعقيداً عن سياسة الأمريكيين تجاهه. ولفهم وتحليل السياسة الإيرانية في العراق، ثمة معطيات أولية في البداية لا يمكن تجاهلها. فبالنسبة لطهران، لا يضم العراق موروثاً دينياً شيعياً وحسب، بل ويمثل محيطاً إستراتيجياً حيوياً، تربطه بإيران حدود طويلة، بالغة الحساسية. والعراق فوق ذلك نافذة إيران الضرورية على المجال العربي، بكل ما فيه من شيعة وسنة، من أصدقاء وحلفاء وخصوم، من مخاطر آنية وبعيدة المدى، ومكاسب سريعة ومحتملة.
طوال قرون، شكل العراق مصدر قوة لإيران ومنبع خطر وتهديد، ولا يكاد يوجد حاكم إيراني واحد، منذ ولادة إيران الحديثة في مطلع القرن السادس عشر، لم يحاول الاستيلاء على العراق أو يفكر ملياً في ذلك. ولكن إيران الحالية، بالرغم من عوامل الاستمرار التي تربطها بالدول والسلالات الإيرانية الحاكمة السابقة، هي دولة مختلفة أيضاً.
تطرح إيران الإسلامية نفسها قوة إقليمية رئيسية، لا ترتكز إلى موقعها الجغرافي السياسي وثقلها الديمغرافي وثرواتها وحسب، بل أيضاً إلى خطاب إسلامي أممي وسياسة خارجية مستقلة.
ومن الواضح أن مقاربة إيران للشأن العراقي، بكل ما يعنيه العراق من أهمية، تحمل في داخلها احتمالات شتى. فقد تصب هذه المقاربة في دعم السعي الإيراني لتوكيد الذات والدور، على المستويين الإقليمي والإسلامي، وتساهم في تحصين إيران من المخاطر. وقد تؤدي أيضاً إلى إثارة الشكوك في حقيقة توجهات إيران الأممية، وفي الدور الذي تلعبه إيران على المستوى الإسلامي، وما إن كان هذا الدور يمثل إضافة للمجموع الإسلامي، بغض النظر عن الخلافات التقليدية بين أنظمة الحكم الإسلامية.
صدر عن القائد الإيراني الأعلى آية الله خامنئي في الأيام القليلة الماضية فتوى ملفتة للنظر، تعلقت بالجدل الانقسامي الذي أثارته تهجمات شيعي كويتي مغمور يقيم في الخارج على أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها.
وقد أكد آية الله خامنئي في فتواه على حرمة التعرض لذكرى السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ ولأي من زوجات النبي بأذى. تعكس مثل هذه الفتوى توكيد البعد الأممي الإسلامي في خطاب الجمهورية الإسلامية وتوجهاتها؛ وهو البعد ذاته الذي أسست له سياسات إيرانية طويلة المدى من المسألة الفلسطينية ومن الخطر المستمر الذي يتعرض له لبنان من التوجهات والاعتداءات الإسرائيلية.
ولكن السياسة الإيرانية في العراق تؤشر إلى اتجاه آخر. فمنذ تعرض العراق للغزو والاحتلال، عملت السياسة الإيرانية على أساس من معادلة براغماتية، محملة بالدوافع الضيقة وقصيرة النظر.
فبالرغم من الخطاب الإيراني الصارخ ضد الغزو والاحتلال، تقبلت السياسة الإيرانية الواقع الجديد وعملت على دعمه، طالما وفر فرصة لحلفاء إيران في العراق لتعزيز مواقعهم ودورهم، ووفر المناخ الضروري لتعزيز النفوذ الإيراني في الساحة العراقية ومؤسسات الحكم والدولة الجديدة.
وبالرغم من الأسئلة التي أثارتها هذه السياسة، فقد كان بإمكان طهران أن تبني علاقتها بالعراق الجديد على أساس وطني، وأن توسع نطاق هذه العلاقة لتشمل كافة الدوائر السياسية العراقية. ولكن هذه العلاقة ظلت من البداية محصورة بالقوى السياسية الشيعية، التي لم تخف سعيها إلى تأسيس نظام سيطرة طائفية أو الذهاب البلاد إلى الانقسام والتشظي.
وقد شهدت الشهور القليلة الماضية تعاظماً متزايداً لزاوية النظر المحدودة هذه للشأن العراقي، بالرغم من المؤشرات القوية التي أظهرتها نتائج الانتخابات العراقية الأخيرة على رغبة الناخب العراقي في توكيد الطابع الوطني للسياسة العراقية. جاء الإصرار غير المبرر على توحيد القوى السياسية الشيعية في تحالف واحد من طهران، بالرغم من الخلافات العميقة داخل هذه القوى وبينها.
ومن الصعب فهم دوافع هذا الإصرار إلا في إطار السعي إلى حرمان القائمة الوحيدة ذات التوجه الوطني من حقها الانتخابي في قيادة الحكومة القادمة. وفي ضوء الضغوط الأمريكية الحثيثة والمتواصلة لتأمين تسليم مقاليد الحكومة الجديدة للمالكي، أصبح من الواضح أن الاتهامات التي وجهت للقائمة العراقية بالارتباط بالأمريكيين لم تكن أكثر من دعاية سوداء، أو تقديرات بولغ فيها إلى حد كبير، سيما أن ليس من قوة سياسية في عراق ما بعد الغزو والاحتلال لا تربطها بالأمريكيين روابط ما على هذا النحو أو ذاك.
ثم جاء الإصرار الإيراني على تولي المالكي رئاسة الحكومة ليثير مزيداً من الأسئلة حول السياسة الإيرانية في العراق، ليس فقط لتحدي هذا الإصرار للإرادة الانتخابية، أو لتوجهات المالكي السلطوية، ولكن أيضاً للدور الكبير الذي لعبه في تعزيز الطابع الطائفي للحكم والدولة، ربما على نطاق أوسع بكثير ممن تولى موقع رئاسة الحكومة قبله.
لا تخدم السياسة الإيرانية في العراق مصالح إيران الإستراتيجية، حتى إن بدت كذلك للوهلة الأولى أو على المدى القصير. ولا تفيد هذه السياسة في توكيد موقع إيران كقوة إقليمية، ولا في الاحتضان الأممي الإسلامي لإيران، الاحتضان الذي تحتاجه إيران الآن أكثر من أي وقت مضى.
المسلمون الشيعة جزء لا يتجزأ من المجال الإسلامي، جغرافية وأمة، ولا يحتاجون لإثبات هذا الانتماء ولا للشعور بشيء من عقد نقص الأقلية. ولأنهم كذلك، ولأن إيران تحتل موقعاً بارزاً في الجسم الإسلامي الشيعي، فلا بد أن تتصرفبمسؤولية في الجوار، وأن تحاسب بمسؤولية عن سياساتها.
*العصربتصرف
ثم جاء الإصرار الإيراني على تولي المالكي رئاسة الحكومة ليثير مزيداً من الأسئلة حول السياسة الإيرانية في العراق، ليس فقط لتحدي هذا الإصرار للإرادة الانتخابية، أو لتوجهات المالكي السلطوية، ولكن أيضاً للدور الكبير الذي لعبه في تعزيز الطابع الطائفي للحكم والدولة، ربما على نطاق أوسع بكثير ممن تولى موقع رئاسة الحكومة قبله..
ثمة أزمة سياسية مستحكمة في العراق. وإن كان هناك عدد من البلدان في العالم في حاجة ماسة لحكومة فعالة، يلتف حولها الشعب، فلا بد أن يكون العراق في مقدمتها، ولكن القوى السياسية العراقية لم تستطع منذ شهور الاتفاق على تشكيل الحكومة العتيدة. الانتخابات البرلمانية لم تفرز قوة سياسية تتمتع بالأكثرية؛ ولكن المشكلة لا تتعلق بنتائج الانتخابات وحسب؛ فإلى جانب نظام انتخابي سيء، هناك نزعات سيطرة تحكمية تزداد بروزاً، وتدخلات بليغة وغير حكيمة من جارة العراق الكبرى: إيران.
الأرجح، أن الانتخابات في ظل النظام الدستوري والانتخابي الحالي لن تنتج مطلقاً قوة أكثرية. عندما ينقسم بلد ما على نفسه، طائفياً وإثنياً، وتقوم السياسة على أسس طائفية وإثنية، ستكون النتيجة الطبيعية انقساما مستديما في البنية السياسية. هذه ليست إيطاليا السبعينات والثمانينات، أو تركيا ما قبل العدالة والتنمية، عندما كانت الأحزاب السياسية عاجزة عن كسب ثقة وولاء أغلبيات شعبية في ظل نظام انتخابات نسبية، واعتادت البلاد تشكيل حكومات قلقة وقصيرة العمر في أغلب الأحيان. هذا نظام أقيم أصلاً ليجسد ثقافة الانقسام الوطني ويؤبده في الآن ذاته.
وما يزيد الأمور تفاقماً أن أحداً لا يعرف على وجه اليقين تعداد السكان، ولا طبيعة توزيع الأصوات الانتخابية على المحافظات والدوائر؛ وقد خضع توزيع المقاعد منذ إقرار الدستور الحالي للأهواء وموازين القوى، أكثر منه للحقائق الديمغرافية. ولفترة لا أحد يعرف إلى أي مدى ستطول، ستصوت الأغلبية الكردية للأحزاب الكردية القومية، التي تتبنى برامج وتسعى لتحقيق أهداف محدودة ولا تمت إلى البرامج والأهداف الوطنية لعموم العراقيين بصلة وثيقة. ومن ناحية أخرى، وبالرغم من التراجع النسبي في الخطاب الطائفي، فإن بروز أحزاب طائفية يعمل على إطالة أمد انشطار الساحة السياسية بين البرامج والقوائم الطائفية، المعلنة أو المستبطنة، من جهة، والبرامج والقوائم الوطنية، من جهة أخرى. وهذا تماماً ما جاءت به نتائج الانتخابات الأخيرة، وأحد أهم وجوه أزمة تشكيل الحكومة التي ولدتها هذه النتائج.
بيد أن الأزمة لا تقتصر على هذا البعد من الوضع العراقي الجديد؛ فقد تحول رئيس الحكومة السابقة، السيد نوري المالكي، الذي تقوم حكومته منذ الانتخابات بتصريف محدود لأعمال الدولة، إلى عامل تأزم بحد ذاته. أبدى المالكي عند اختياره مرشحاً لرئاسة الحكومة من قبل تحالف القوى الشيعية - السياسية زهداً ملحوظاً بالمنصب وامتيازاته. ولكن السنوات الأربع الماضية شهدت تحولاً حثيثاً ومطرداً في علاقة المالكي بالسلطة، من نشط حزبي معارض سابقاً، بأجندة إسلامية - طائفية كامنة، إلى حاكم متفرد لدولة تحبو في اتجاهات متعددة، غير واضحة الهدف، ورئيس حكومة متعددة الأطراف.
من جهة، حاول المالكي إعادة بناء صورته كحاكم وطني قوي، متحرر من الارتباطات الطائفية. ولوهلة قصيرة كاد أن ينجح بالفعل في إقناع العراقيين بتوجهاته الوطنية. ومن جهة أخرى، لم يتورع عن مواجهة قوى المعارضة المسلحة بعنف بالغ، وإجراءات اعتقال وتعذيب غير قانونية، وسياسات اجتثاث راديكالية للمعارضين السياسيين. وشيئاً فشيئاً، عمل على تهميش شركائه في الحكم، وبنى لنفسه مجموعة من المستشارين.
وبالرغم من ضعف سيطرة الدولة على الشأن الوطني، ومن الهشاشة الأمنية، ومن الانقسام السياسي العميق، ومن حرص العديد من القوى السياسية وغير السياسية على إضعاف العاصمة ومنعها من النهوض من جديد كمركز قوى وجامع، ما لبث المالكي أن تحول إلى دكتاتور صغير. ولا يجب أن يقلل أحد من براعة المالكي وقدرته على كسب ثقة قوى متناقضة، كالإيرانيين والأمريكيين.
لأسباب كثيرة، وجد الأمريكيون والإيرانيون أن المالكي حليف يعتمد عليه، وأن من الأفضل في هذه المرحلة الانتقالية التعامل مع شيطان تعرفه من أن تجرب ملاكاً لا تعرفه. الأمريكيون، لأن هدفهم الرئيسي في هذه المرحلة هو استتباب الأمن، ووجود حاكم قوي، قادر على اتخاذ القرارات الصعبة المتعلقة بالوضع الأمني، مهما بلغت الشبهات المحيطة بهذه القرارات. وعلى مستوى آخر، يجد الأمريكيون في استمرار الانقسام الطائفي، ما لم يتحول إلى صدام وتدافع أهلي مسلح، مصلحة لنفوذهم وتأمين هذا النفوذ لسنوات قادمة.
ولا يقل الموقف الإيراني من المالكي تعقيداً عن سياسة الأمريكيين تجاهه. ولفهم وتحليل السياسة الإيرانية في العراق، ثمة معطيات أولية في البداية لا يمكن تجاهلها. فبالنسبة لطهران، لا يضم العراق موروثاً دينياً شيعياً وحسب، بل ويمثل محيطاً إستراتيجياً حيوياً، تربطه بإيران حدود طويلة، بالغة الحساسية. والعراق فوق ذلك نافذة إيران الضرورية على المجال العربي، بكل ما فيه من شيعة وسنة، من أصدقاء وحلفاء وخصوم، من مخاطر آنية وبعيدة المدى، ومكاسب سريعة ومحتملة.
طوال قرون، شكل العراق مصدر قوة لإيران ومنبع خطر وتهديد، ولا يكاد يوجد حاكم إيراني واحد، منذ ولادة إيران الحديثة في مطلع القرن السادس عشر، لم يحاول الاستيلاء على العراق أو يفكر ملياً في ذلك. ولكن إيران الحالية، بالرغم من عوامل الاستمرار التي تربطها بالدول والسلالات الإيرانية الحاكمة السابقة، هي دولة مختلفة أيضاً.
تطرح إيران الإسلامية نفسها قوة إقليمية رئيسية، لا ترتكز إلى موقعها الجغرافي السياسي وثقلها الديمغرافي وثرواتها وحسب، بل أيضاً إلى خطاب إسلامي أممي وسياسة خارجية مستقلة.
ومن الواضح أن مقاربة إيران للشأن العراقي، بكل ما يعنيه العراق من أهمية، تحمل في داخلها احتمالات شتى. فقد تصب هذه المقاربة في دعم السعي الإيراني لتوكيد الذات والدور، على المستويين الإقليمي والإسلامي، وتساهم في تحصين إيران من المخاطر. وقد تؤدي أيضاً إلى إثارة الشكوك في حقيقة توجهات إيران الأممية، وفي الدور الذي تلعبه إيران على المستوى الإسلامي، وما إن كان هذا الدور يمثل إضافة للمجموع الإسلامي، بغض النظر عن الخلافات التقليدية بين أنظمة الحكم الإسلامية.
صدر عن القائد الإيراني الأعلى آية الله خامنئي في الأيام القليلة الماضية فتوى ملفتة للنظر، تعلقت بالجدل الانقسامي الذي أثارته تهجمات شيعي كويتي مغمور يقيم في الخارج على أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها.
وقد أكد آية الله خامنئي في فتواه على حرمة التعرض لذكرى السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ ولأي من زوجات النبي بأذى. تعكس مثل هذه الفتوى توكيد البعد الأممي الإسلامي في خطاب الجمهورية الإسلامية وتوجهاتها؛ وهو البعد ذاته الذي أسست له سياسات إيرانية طويلة المدى من المسألة الفلسطينية ومن الخطر المستمر الذي يتعرض له لبنان من التوجهات والاعتداءات الإسرائيلية.
ولكن السياسة الإيرانية في العراق تؤشر إلى اتجاه آخر. فمنذ تعرض العراق للغزو والاحتلال، عملت السياسة الإيرانية على أساس من معادلة براغماتية، محملة بالدوافع الضيقة وقصيرة النظر.
فبالرغم من الخطاب الإيراني الصارخ ضد الغزو والاحتلال، تقبلت السياسة الإيرانية الواقع الجديد وعملت على دعمه، طالما وفر فرصة لحلفاء إيران في العراق لتعزيز مواقعهم ودورهم، ووفر المناخ الضروري لتعزيز النفوذ الإيراني في الساحة العراقية ومؤسسات الحكم والدولة الجديدة.
وبالرغم من الأسئلة التي أثارتها هذه السياسة، فقد كان بإمكان طهران أن تبني علاقتها بالعراق الجديد على أساس وطني، وأن توسع نطاق هذه العلاقة لتشمل كافة الدوائر السياسية العراقية. ولكن هذه العلاقة ظلت من البداية محصورة بالقوى السياسية الشيعية، التي لم تخف سعيها إلى تأسيس نظام سيطرة طائفية أو الذهاب البلاد إلى الانقسام والتشظي.
وقد شهدت الشهور القليلة الماضية تعاظماً متزايداً لزاوية النظر المحدودة هذه للشأن العراقي، بالرغم من المؤشرات القوية التي أظهرتها نتائج الانتخابات العراقية الأخيرة على رغبة الناخب العراقي في توكيد الطابع الوطني للسياسة العراقية. جاء الإصرار غير المبرر على توحيد القوى السياسية الشيعية في تحالف واحد من طهران، بالرغم من الخلافات العميقة داخل هذه القوى وبينها.
ومن الصعب فهم دوافع هذا الإصرار إلا في إطار السعي إلى حرمان القائمة الوحيدة ذات التوجه الوطني من حقها الانتخابي في قيادة الحكومة القادمة. وفي ضوء الضغوط الأمريكية الحثيثة والمتواصلة لتأمين تسليم مقاليد الحكومة الجديدة للمالكي، أصبح من الواضح أن الاتهامات التي وجهت للقائمة العراقية بالارتباط بالأمريكيين لم تكن أكثر من دعاية سوداء، أو تقديرات بولغ فيها إلى حد كبير، سيما أن ليس من قوة سياسية في عراق ما بعد الغزو والاحتلال لا تربطها بالأمريكيين روابط ما على هذا النحو أو ذاك.
ثم جاء الإصرار الإيراني على تولي المالكي رئاسة الحكومة ليثير مزيداً من الأسئلة حول السياسة الإيرانية في العراق، ليس فقط لتحدي هذا الإصرار للإرادة الانتخابية، أو لتوجهات المالكي السلطوية، ولكن أيضاً للدور الكبير الذي لعبه في تعزيز الطابع الطائفي للحكم والدولة، ربما على نطاق أوسع بكثير ممن تولى موقع رئاسة الحكومة قبله.
لا تخدم السياسة الإيرانية في العراق مصالح إيران الإستراتيجية، حتى إن بدت كذلك للوهلة الأولى أو على المدى القصير. ولا تفيد هذه السياسة في توكيد موقع إيران كقوة إقليمية، ولا في الاحتضان الأممي الإسلامي لإيران، الاحتضان الذي تحتاجه إيران الآن أكثر من أي وقت مضى.
المسلمون الشيعة جزء لا يتجزأ من المجال الإسلامي، جغرافية وأمة، ولا يحتاجون لإثبات هذا الانتماء ولا للشعور بشيء من عقد نقص الأقلية. ولأنهم كذلك، ولأن إيران تحتل موقعاً بارزاً في الجسم الإسلامي الشيعي، فلا بد أن تتصرفبمسؤولية في الجوار، وأن تحاسب بمسؤولية عن سياساتها.
*العصربتصرف