مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
انسحاب أمريكي جزئي من العراق يخلف وضعا ملتبسا
د. بشير موسى نافع
والواضح في العراق أن الأمريكيين لا يعرفون على وجه اليقين ما يريدونه، لا فيما يخص مستقبل العراق .. في أحسن الأحوال، سيستمر الوضع الحالي على ما هو عليه، بحيث يضمن الوجود العسكري الأمريكي بقاء النظام الحكم الحالي، القائم على مخاوف الكتل الطائفية والإثنية من بعضها البعض، وسعي كل منها للسيطرة على مقدرات الحكم والثروة، بما يغلق كل الأبواب أمام تبلور دولة وطنية، مستقرة وقادرة..

ثمة حقائق لا يمكن تغافلها في مسألة الانسحاب الأمريكي من العراق؛ بينها أن الإعلان عن نهاية المهمات القتالية للقوات الأمريكية، قد جاء قبل الموعد المحدد له مسبقاً؛ وأن أغلب القوات التي خطط لانسحابها قد انسحبت بالفعل.

في نهاية هذا الشهر، سيكون الأمريكيون قد سحبوا أكثر من مائة ألف من جنود الاحتلال، ويتبقى منهم في العراق خمسون ألف جندياً، يقال إن مهماتهم تتعلق بالتدريب وتقديم الخبرة والمشورة للجيش العراقي الجديد.

مثل هذه السرعة في تنفيذ الاتفاقية الأمريكية – العراقية توحي بأن انسحاب القوات الأمريكية سيكتمل بالفعل في نهاية العام القادم. الحقيقة، أن ما أعلن حتى الآن بشأن الوجود الأمريكي العسكري في العراق ليس دقيقاً كلية، وأن الانسحاب الكامل والنهائي مع نهاية 2011 ليس أمراً مؤكداً، وأن الوضع العراقي الداخلي ما يزال مفتوحاً على الاحتمالات.

ليس هناك ما يدعو إلى تصديق مقولة أن متطلبات التدريب والمشورة للجيش العراقي الجديد تستدعي بقاء خمسين ألفاً من القوات الأمريكية. قوة بهذا الحجم، لا يمكن أن تفهم إلا كقوة قتالية، بغض النظر عما إن كانت ستتمركز في شوارع المدن العراقية أو في قواعد عسكرية خاصة؛ خاصة أنها تضم آلافاً من القوات الأمريكية الخاصة.

وبالرغم من الجدل الكبير والمستمر حول دور الشركات الأمنية، فليس ثمة مؤشر على أن الحكومة العراقية بصدد وضع نهاية لعمل ونشاط هذه الشركات. والحديث هنا لا يدور حول مئات قليلة من العناصر الأمنية، بل عن عشرات الآلاف، أغلبهم من العسكريين المحترفين السابقين الذين يعملون لصالح شركات أمريكية ذات علاقات وثيقة بالمؤسستين الأمريكيتين العسكرية والاستخباراتية.

بكلمة أخرى، الوجود الأمريكي العسكري ذو الطابع الاحتلالي مستمر في العراق حتى إشعار آخر، بما في ذلك قدرته على العمل القتالي واسع النطاق.

والسؤال الآن يتعلق بما إن كان الانسحاب الكامل سيتحقق في نهاية العام المقبل. الجيش العراقي الجديد، كما صرح قائد أركانه، ليس ولن يكون قادراً على تحمل مسؤولياته في حماية أمن البلاد وحدودها، لا في العام المقبل، ولا خلال أقل من عشر سنوات. وما يقال بحق الجيش ينطبق على مؤسسات العراق الأمنية والاستخباراتية الأخرى. أغلب من يتفقون على هذا التقدير، يؤسسون استنتاجاتهم على تواضع مستوى تدريب الجيش العراقي الجديد، وافتقاده للسلاح النوعي والثقيل، وضعف مستوى انضباطه.

وهذا الاستقراء على الأرجح صحيح وواضح، ولكن هناك ما هو أخطر، فالجيوش ليست مجرد آلاف من المسلحين المحترفين، ولكنها أدوات حكم ودولة؛ بل إن هناك من يجعل المؤسسة العسكرية القاعدة الأساسية والأصلية لمؤسسة الدولة الحديثة. من دون مفهوم واضح للحكم، ودون دولة متماسكة ومستقرة، يصعب بناء جيش قادر.

والعراق الجديد يفتقد التوافق الوطني على توجهات الحكم، ويعاني من غياب شبه كامل لمؤسسة الدولة. ما يعيشه العراق منذ بداية الاحتلال هو حالة تشظ سياسي، تتفاوت فيها وتيرة صراع وتدافع القوى السياسية بين شلل الحكم والصدام المسلح. وإن كان توفر قدر من الإجماع حول القضايا الكبرى الشرط الأولي لقيام الدولة، فلم يزل العراق بعيداً عن تحقيق الحد الأدنى من الإجماع.

مثل هذا الوضع لا بد أن يستبعد احتمال الانسحاب الأمريكي الكامل، لا في العام القادم ولا في الذي يليه. الاحتلال لا ينتهي من دون بروز إرادة وطنية تحقق نهاية الاحتلال، وتضع تصوراً لمستقبل بديل للاحتلال، والإرادة الوطنية العراقية لم تتبلور بعد.

ولكن هذا لا يعني أن العراق يمثل حالة شبيهة بألمانيا واليابان وكوريا، التي اضطرت إلى استقبال وجود عسكري أمريكي دائم بعد تعرضها للاحتلال. في الحالات الثلاث هذه أنجز بناء الدولة الجديدة وتحقق استقرار الدولة خلال سنوات قليلة بعد الاحتلال؛ وقد استمر وجود القوات الأمريكية ليس لصناعة أو حماية الدول الجديدة، بل لضمان مخطط استراتيجي واسع النطاق، تعلق بوضع أوروبا ككل ودور حلف الناتو في حالة ألمانيا، وبتوازنات القوى في شبه الجزيرة الكورية وشرق آسيا، في حالتي كوريا واليابان.

والواضح في العراق أن الأمريكيين لا يعرفون على وجه اليقين ما يريدونه، لا فيما يخص مستقبل العراق، ولا فيما يخص الدور الأمريكي في غرب آسيا والشرق الأوسط. خمسون ألفاً من الجنود لن يستطيعوا إقناع القوى العراقية المتدافعة بالانصياع للإرادة الأمريكية في بلد تبلغ مساحته زهاء نصف مليون كيلومتر مربع، ولا تتمتع حدوده مع إيران وتركيا وسورية والسعودية والكويت بأي مانع طبيعي.

وهذا الوجود العسكري المتواضع لن يمكنه موازنة النفوذ الإيراني، الذي عجزت عن موازنته مؤسسة الاحتلال عندما كانت في ذروة قوتها. في أحد وجوهه على الأقل، يستند النفوذ الإيراني إلى قوى سياسية عراقية وإلى تشظ طائفي وعرقي في عراق ما بعد الغزو والاحتلال.

الأمريكيون في العراق، باختصار، لا يعرفون ما يريدون من وجودهم العسكري. المشروع الأمريكي الأصلي في العراق فشل منذ 2005 - 2006، وما عملت عليه إدارة بوش بعد ذلك كان محاولة احتواء الفشل وتجنب الهزيمة النكراء؛ ولم تستطع إدارة بوش وضع تصور إستراتيجي بديل للمشروع الأولي الذي أسس للغزو والاحتلال.

أما إدارة أوباما، فلم تر العراق مشروعاً لها من البداية؛ ولكن الدول الكبرى لا تتخلى عن مواقعها في العالم بمجرد تغيير الإدارات الحاكمة. تريد إدارة أوباما البقاء في العراق، ولا تريد، تريد تعظيم المكاسب الأمريكية من حرص الطبقة العراقية السياسية على عدم قطع الحبل السري الذي ربطها بالأمريكيين، وحاجة العراق المنقسم على ذاته للراعي الأجنبي، ولكنها لا تعرف على وجه اليقين كيف يمكنها تعظيم هذه المكاسب.

الوضع الملتبس لاستمرار الوجود العسكري الأمريكي، يعزز التباس الأهداف السياسية الأمريكية في العراق. فمن ناحية، يعتبر الحفاظ على الاستقرار النسبي في العراق أحد أهم أهداف واشنطن، ليس فقط لمنع تحول العراق إلى بؤرة إرهاب كبرى، تهدد أمن الجوار والعالم، ولكن أيضاً للحاجة المتزايدة للقوات العسكرية في مناطق أخرى من العالم، لا تنتهي بأفغانستان. ولكن الولايات المتحدة، كما إيران وبعض دول الخليج العربية والدولة العبرية، لا تريد عراقاً قوياً، قادراً على التحول من جديد إلى مركز قوة إقليمية في المشرق.

لا يتناقض الهدفان وحسب، بل ويصبان باتجاه إطالة أمد التباس الوضع العراقي وانكشافه على احتمالات سوداوية، داخلياً وخارجياً. فالتراجع في حجم القوة العسكرية الأمريكية والتشظي السياسي الداخلي والعجز عن بناء دول وطنية عراقية، تدفع أطرافاً متعددة للانخراط في سيناريوهات بالغة الخطورة على العراق وجواره.

على المستوى الداخلي، ثمة تصورات طائفية عمياء، ترى أن مستقبل العراق لا يمكن تحديده من دون حسم طائفي. وتتجلى فكرة الحسم الطائفي في أحد وجوهها في استخدام القوة المجردة لإخضاع الطائفة الأخرى وقواها السياسية، وفي وجهها الآخر في تقسيم البلاد على أسس طائفية.

في كلتا الحالتين، لن ينجح سيناريو الحسم الطائفي في تحقيق أهدافه، وسيدخل البلاد في دوامة جديدة من العنف الأهوج، الذي سيفاقم منه هذه المرة التدخل الفعال للقوى الإقليمية، ويجعل الوجود العسكري الأمريكي ضرورة دولية للقيام بدور الحكم، أو الشرطي الطيب.

في أحسن الأحوال، سيستمر الوضع الحالي على ما هو عليه، بحيث يضمن الوجود العسكري الأمريكي بقاء النظام الحكم الحالي، القائم على مخاوف الكتل الطائفية والإثنية من بعضها البعض، وسعي كل منها للسيطرة على مقدرات الحكم والثروة، بما يغلق كل الأبواب أمام تبلور دولة وطنية، مستقرة وقادرة.

على المستوى الإقليمي، يعتبر العراق مصدر خطر كبير على أمن تركيا، بالرغم من المحاولات التركية الحثيثة لاحتواء القيادات الكردية العراقية وتقريبها، وبالرغم من كل مظاهر التعاون الأمني التركي ـ الأمريكي.

وفي حال تصاعدت هجمات حزب العمال الكردستاني داخل تركيا، فليس من الواضح بعد كيف سيكون رد الفعل التركي في شمال العراق، وكيف سيؤثر مثل هذا الوضع على علاقات أنقرة بالقوى السياسية العراقية في بغداد.

أما بالنسبة لإيران، فبالرغم من أن طهران ترى أن ما آل إليه العراق، سواء من حيث تراجع قوة العراق نفسه، أو لفشل المشروع الأمريكي، يشكل مكسبا لإيران، فإن هذا المكسب قد ينقلب في النهاية إلى نقمة. ففي حال انفجر الملف الطائفي في العراق، فلن يترك بلداً في الجوار دون أن يمسه. ومهما كان حجم الوجود العسكري الأمريكي في العراق، فإن استمراره سيشكل مصدر تهديد لإيران، تهديد إستراتيجي يتعلق بتوازنات القوى، وتهديد لتماسك إيران ووحدتها الداخلية. وبالرغم من بعض التباينات، فهذا أيضاً ما ينطبق على سورية والسعودية.

انكشاف العراق على جواره هو في وجهه الآخر انكشاف للجوار على العراق. انفجار الوضع العراقي الداخلي، أو الوجود العسكري الأمريكي المديد، لن يؤدي إلى غرق العراق وإطالة الفترة الانتقالية التي يمر بها وحسب، بل وإلى إيقاع خلل متفاوت الدرجة في معايير الجوار الإستراتيجية وتماسك دوله أيضاً. وليس ثمة مخرج سهل من المعضلة التي أدخل إليها العراق والمشرق.

الأمل الوحيد أن يدرك الجميع أن من المصلحة التغاضي عن المكاسب الآنية والمساعدة في إعادة بناء الدولة الوطنية في العراق. فإلى أن تجد شعوب المشرق تصوراً أكثر انفتاحاً واستقراراً لمستقبلها، ما تزال الدولة الوطنية الوسيلة الوحيدة لضمان الأمن والاستقرار، وإن بدرجة نسبية.
*lالهصر
أضافة تعليق