ترقيع ثوب مهترئ
فهمي هويدي
لا نستطيع أن نأخذ على محمل الجد نية الحكومة استصدار قانون للتعامل مع تضارب المصالح لدى موظفي الدولة ومسؤوليها،
كما أنني أستغرب أن تكون إحدى اللجان الوزارية قد أعدت مشروعا بهذا الخصوص قبل أربع سنوات، لكن مجلس الوزراء آثر آنذاك أن يصدر توصية بهذا الخصوص، وألا يلجأ إلى تقنين المسألة.
ولابد أن يثير انتباهنا في هذا الصدد أن الموضوع الذي نام في الأدراج طوال السنوات الأربع تم إيقاظه هذه الأيام. على النحو الذي أشارت إليه صحيفة «الشروق» في 17 /7 الجاري، إذ ذكرت أن رئيس الوزراء كلف مجموعة وزارية بإعداد مشروع القانون المذكور.
ولعلنا لا نذهب بعيدا إذا قلنا إن هذه «الصحوة» ليست بعيدة عن اللغط الذى يسود مصر هذه الأيام، حول أنشطة بعض الوزراء من رجال الأعمال، الذين انتفعوا من مناصبهم واشتروا مساحات كبيرة من الأراضى بأسعار بخسة، ضيعت على الدولة مليارات الجنيهات.
وإذا صح هذا الربط فإنه يجيب عن أحد الأسئلة التي يثيرها إطلاق الفكرة فى الوقت الراهن. إذ بوسعنا أن نقول إن تصدي رئيس الوزراء للموضوع أريد به امتصاص حالة السخط والغضب المنتشرة في المجتمع، والإيحاء بأن الحكومة جادة في قطع الطريق على صور ومظاهر استغلال النفوذ والانحراف، وهو تفسير لا يخلو من وجاهة، إلا أن المشهد يحتمل تفسيرات أخرى،
منها مثلا أن يكون الأكابر قد وزعوا أراضي البلد فيما بينهم بحيث لم يبق منها شيء له قيمته وانتهوا من بيع شركات ومصانع القطاع العام إلى أصدقائهم وأنسبائهم، بحيث لم يبق شيء لم ينهب. وبعد أن شبعوا وأمنوا أنفسهم وأولادهم وأحفادهم. بعد أن اطمأنوا إلى كل ذلك قال قائلهم:
لماذا لا نفتح صفحة جديدة، ونستصدر قانونا لمنع تضارب المصالح، نحسن الصورة ونغسل أيدينا مما فات؟
لا أستبعد أن تكون هناك دوافع أخرى ليس بينها وقف تضارب المصالح واستغلال نفوذ كبار المسؤولين والوزراء فى المقدمة منهم، لسبب جوهرى لأن ثمة نصا صريحا فى صلب الدستور يؤدي الغرض، لمن كان جادا في وقف التضارب المشبوه. ذلك أن نص المادة ١٥٨.. تقول صراحة إنه:
لا يجوز للوزير أثناء تولي منصبه أن يزاول مهنة حرة أو عملا تجاريا أو ماليا أو صناعيا، أو أن يشتري أو يستأجر شيئا من أموال الدولة أو أن يؤجرها أو يبيعها شيئا من أمواله أو أن يقايضها عليه.
هذا النص الذي ورد في الدستور الصادر سنة 1971، إذا طبق وأخذ على مأخذ الجد، فإنه يبطل جميع العقود التي أبرمها كبار المسؤولين، ورئيس الوزراء والوزراء في مقدمتهم، لشراء الأراضي والعقارات في بر مصر، ذلك أننى أعلم- والكل يعلم -أنه باستثناء حالات نادرة للغاية، فما من وزير تولى منصبه خلال الثلاثين سنة الأخيرة إلا وانفتحت أمامه الأبواب على مصارعها وأطلقت يده في تملك الأراضي والعقارات في كل المدن والمنتجعات الجديدة.
وهي ممارسات أصبحت تتم بجرأة شديدة حتى وجدنا وزيرا خصص لابنه أرضا تابعة لوزارته، فقام بالتوقيع على العقد باعتباره البائع، ثم وضع توقيعا آخر على نفس العقد بوصفه نائبا عن المشتري!
في بلدة فايد المجاورة للإسماعيلية منطقة في البحر سميت «لسان الوزراء» اقيمت عليها فيلات تملكها الوزراء الذين يحظر عليهم نص الدستور أن يشتروا أو يستأجروا شيئا من أموال الدولة أثناء توليهم وظائفهم.
ذلك حدث أيضا في لسان الوزراء بمارينا، وبعضهم تملك وحدات في المواقع المتميزة تراوح عددها بين خمس وعشر. وهؤلاء دفعوا فيها مبالغ رمزية وتم تقسيط الباقي. وجنوا منها الملايين.
وفيما علمت فإن شيئا مماثلا يجهز للوزراء في منطقة سيدي عبدالرحمن التالية لمارينا.
وهؤلاء أنفسهم أصبحوا من أصحاب القصور في ضاحية القاهرة التي عرفت باسم التجمع الخامس (غرب الجولف).
أما الأراضي التي تملكها هؤلاء على ساحل البحر الأحمر، فحدث فيها ولا حرج.
إن محاولة إصدار قانون لتطويق مشكلة تضارب المصالح هي من قبيل ترقيع ثوب مهترئ. لأن الأمور انفلتت والمصالح تضخمت وتكرست، بحيث لم يعد هناك مسؤول خصوصا في الوزارات المهمة، إلا وأصبح متورطا فيها.
ومن ثم فإن وقف ذلك التضارب أصبح من رابع المستحيلات. ولم يعد ممكنا تطبيق القانون المراد إصداره إلا على صغار المسؤولين الذين لا يحلم الواحد منهم بأكثر من توفير مصاريف الدروس الخصوصية لأولاده أو تزويج ابنته وسترها.
إن الكبار في بلادنا كبار أيضاً، حتى على القانون.
.......................
فهمي هويدي
لا نستطيع أن نأخذ على محمل الجد نية الحكومة استصدار قانون للتعامل مع تضارب المصالح لدى موظفي الدولة ومسؤوليها،
كما أنني أستغرب أن تكون إحدى اللجان الوزارية قد أعدت مشروعا بهذا الخصوص قبل أربع سنوات، لكن مجلس الوزراء آثر آنذاك أن يصدر توصية بهذا الخصوص، وألا يلجأ إلى تقنين المسألة.
ولابد أن يثير انتباهنا في هذا الصدد أن الموضوع الذي نام في الأدراج طوال السنوات الأربع تم إيقاظه هذه الأيام. على النحو الذي أشارت إليه صحيفة «الشروق» في 17 /7 الجاري، إذ ذكرت أن رئيس الوزراء كلف مجموعة وزارية بإعداد مشروع القانون المذكور.
ولعلنا لا نذهب بعيدا إذا قلنا إن هذه «الصحوة» ليست بعيدة عن اللغط الذى يسود مصر هذه الأيام، حول أنشطة بعض الوزراء من رجال الأعمال، الذين انتفعوا من مناصبهم واشتروا مساحات كبيرة من الأراضى بأسعار بخسة، ضيعت على الدولة مليارات الجنيهات.
وإذا صح هذا الربط فإنه يجيب عن أحد الأسئلة التي يثيرها إطلاق الفكرة فى الوقت الراهن. إذ بوسعنا أن نقول إن تصدي رئيس الوزراء للموضوع أريد به امتصاص حالة السخط والغضب المنتشرة في المجتمع، والإيحاء بأن الحكومة جادة في قطع الطريق على صور ومظاهر استغلال النفوذ والانحراف، وهو تفسير لا يخلو من وجاهة، إلا أن المشهد يحتمل تفسيرات أخرى،
منها مثلا أن يكون الأكابر قد وزعوا أراضي البلد فيما بينهم بحيث لم يبق منها شيء له قيمته وانتهوا من بيع شركات ومصانع القطاع العام إلى أصدقائهم وأنسبائهم، بحيث لم يبق شيء لم ينهب. وبعد أن شبعوا وأمنوا أنفسهم وأولادهم وأحفادهم. بعد أن اطمأنوا إلى كل ذلك قال قائلهم:
لماذا لا نفتح صفحة جديدة، ونستصدر قانونا لمنع تضارب المصالح، نحسن الصورة ونغسل أيدينا مما فات؟
لا أستبعد أن تكون هناك دوافع أخرى ليس بينها وقف تضارب المصالح واستغلال نفوذ كبار المسؤولين والوزراء فى المقدمة منهم، لسبب جوهرى لأن ثمة نصا صريحا فى صلب الدستور يؤدي الغرض، لمن كان جادا في وقف التضارب المشبوه. ذلك أن نص المادة ١٥٨.. تقول صراحة إنه:
لا يجوز للوزير أثناء تولي منصبه أن يزاول مهنة حرة أو عملا تجاريا أو ماليا أو صناعيا، أو أن يشتري أو يستأجر شيئا من أموال الدولة أو أن يؤجرها أو يبيعها شيئا من أمواله أو أن يقايضها عليه.
هذا النص الذي ورد في الدستور الصادر سنة 1971، إذا طبق وأخذ على مأخذ الجد، فإنه يبطل جميع العقود التي أبرمها كبار المسؤولين، ورئيس الوزراء والوزراء في مقدمتهم، لشراء الأراضي والعقارات في بر مصر، ذلك أننى أعلم- والكل يعلم -أنه باستثناء حالات نادرة للغاية، فما من وزير تولى منصبه خلال الثلاثين سنة الأخيرة إلا وانفتحت أمامه الأبواب على مصارعها وأطلقت يده في تملك الأراضي والعقارات في كل المدن والمنتجعات الجديدة.
وهي ممارسات أصبحت تتم بجرأة شديدة حتى وجدنا وزيرا خصص لابنه أرضا تابعة لوزارته، فقام بالتوقيع على العقد باعتباره البائع، ثم وضع توقيعا آخر على نفس العقد بوصفه نائبا عن المشتري!
في بلدة فايد المجاورة للإسماعيلية منطقة في البحر سميت «لسان الوزراء» اقيمت عليها فيلات تملكها الوزراء الذين يحظر عليهم نص الدستور أن يشتروا أو يستأجروا شيئا من أموال الدولة أثناء توليهم وظائفهم.
ذلك حدث أيضا في لسان الوزراء بمارينا، وبعضهم تملك وحدات في المواقع المتميزة تراوح عددها بين خمس وعشر. وهؤلاء دفعوا فيها مبالغ رمزية وتم تقسيط الباقي. وجنوا منها الملايين.
وفيما علمت فإن شيئا مماثلا يجهز للوزراء في منطقة سيدي عبدالرحمن التالية لمارينا.
وهؤلاء أنفسهم أصبحوا من أصحاب القصور في ضاحية القاهرة التي عرفت باسم التجمع الخامس (غرب الجولف).
أما الأراضي التي تملكها هؤلاء على ساحل البحر الأحمر، فحدث فيها ولا حرج.
إن محاولة إصدار قانون لتطويق مشكلة تضارب المصالح هي من قبيل ترقيع ثوب مهترئ. لأن الأمور انفلتت والمصالح تضخمت وتكرست، بحيث لم يعد هناك مسؤول خصوصا في الوزارات المهمة، إلا وأصبح متورطا فيها.
ومن ثم فإن وقف ذلك التضارب أصبح من رابع المستحيلات. ولم يعد ممكنا تطبيق القانون المراد إصداره إلا على صغار المسؤولين الذين لا يحلم الواحد منهم بأكثر من توفير مصاريف الدروس الخصوصية لأولاده أو تزويج ابنته وسترها.
إن الكبار في بلادنا كبار أيضاً، حتى على القانون.
.......................