الارتباك الإسرائيلي يؤشر إلى بداية تحولات أساسية
11-6-2010
بقلم د. بشير موسى نافع
مشكلة الدولة العبرية أنها تعيش منذ أكثر من عقد من الزمان مرحلة انتقالية، من وضع الدولة المتفوقة عسكرياً وسياسياً وعلى مستوى الدعم العالمي، إلى وضع الدولة العادية التي تواجه تحديات عسكرية بالغة الصعوبة، ومآزق سياسية تراكمية باهظة التكاليف، وانفضاضاً غربياً وعالمياً تدريجياً.. انتقال الدولة العبرية من وضع التفوق إلى وضع الدولة العادية هو أول مؤشرات انحدار المشروع الصهيوني. وليس ثمة كيان إمبريالي واجه تحديات الانحدار من دون أن يرتبك. الارتباك الإسرائيلي، بهذا المعنى، هو انعكاس لتحولات هامة في موازين القوى، وليس مجرد انعكاس لأزمة عابرة..
أثار الهجوم الإسرائيلي المسلح على قافلة الحرية، مطلع هذا الشهر، ردود فعل عربية وإسلامية وعالمية، رسمية وشعبية.
وبالرغم من كل التبريرات والتسويغات الإسرائيلية، فثمة حقائق لا يمكن إنكارها. أولها، أن القافلة ضمت سفناً انطلقت من أماكن متعددة، وأنها حملت على ظهرها نشطين ومتضامنين من عدد كبير من الجنسيات: مغاربة، جزائريون، كويتيون، فلسطينيون، أردنيون، بريطانيون، كنديون، إيرلنديون، أمريكيون، أتراك، وغيرهم.
وقد حرص هؤلاء قبل انطلاقهم ليس على إعلان خلو السفن من السلاح وحسب، بل والذهاب إلى استخدام أدوات الطعام البلاستيكية أيضاً للتوكيد على الطابع المدني للقافلة. هدف القافلة كان، باختصار، كسر الحصار غير القانوني دولياً، وغير المبرر إنسانياً، الذي تفرضه الدولة العبرية على قطاع غزة، وليس خلق أزمة عالمية بمواجهة الآلة العسكرية الإسرائيلية.
اعترض الإسرائيليون القافلة في عرض البحر، وفي المياه الدولية، واستخدموا ضد القافلة ما يعرف عسكرياً بالتدخل المباشر، أي استخدام القوة المسلحة. كانت النتيجة كما هو معروف مقتل تسعة من المتضامنين الأتراك على سطح السفينة مرمرة، وجرح عشرات آخرين. ما انشغل به العالم بعد ذلك، كان تحديد المسؤولية الإسرائيلية عن الهجوم الدموي، وما إن كانت قافلة الحرية بداية النهاية للحصار الظالم على القطاع الباسل. ولكن هناك ما هو أبعد دلالة لهذا الحدث.
ارتكب الإسرائيليون في التصدي والهجوم على قافلة الحرية سلسلة من الأخطاء، لم يكن لدولة متفوقة، ذات عقل متوازن وقيادة تتمتع بالقدرة على السيطرة على الأحداث، أن تقوم بها:
أخطأ الإسرائيليون أولاً عندما اعتقدوا أن الفلسطينيين سيصابون في النهاية بالملل وأنهم، كما في سوابق عدة شهدها تاريخ الصراع الطويل على فلسطين، سيركنون إلى حقائق القوة والقبول بأن مصير قطاع غزة رهن بالإرادة الإسرائيلية.
ثمة انقسام فلسطيني، بالطبع، وتعاون حثيث بين قيادة سلطة الحكم الذاتي في رام الله والقيادة الإسرائيلية، لاسيما فيما يتعلق بالموقف من قطاع غزة، والحكومة التي تدير شؤونه. كما أن هناك انقساماً عربياً حول فلسطين، حول القوى السياسية الفلسطينية، وحول مصير الصراع على فلسطين، أحد أسوأ وجوهه على الإطلاق التوافق بين الإسرائيليين وعدد من الدول العربية على كسر إرادة القطاع وأهله، ووضع نهاية لحكومة حماس في غزة، مهما كانت التكاليف.
ليس في هذه الصورة من أسرار، ولكن ثمة تياراً بين العرب والفلسطينيين، بات على قناعة عميقة بأن توازنات القوى ليست قدراً، وأن الواقع العربي والفلسطيني الرسمي البائس ليس مبرراً للتخلي عن المسؤوليات. ولا يتسع نطاق وقدرات هذا التيار بمرور الأيام وحسب، بل أصبح في استطاعته كسب الحلفاء في كل أنحاء العالم أيضاً.
الانتصار لقطاع غزة هدف رئيس لهذا التيار وحلفائه، وقد اتضح خلال العامين الماضيين أن هذا التيار تعلم دروس التاريخ، وأنه لن يتخلى عن هدفه، مهما بلغت ردود الفعل الإسرائيلية من عنف. التصميم على كسر الحصار المفروض على قطاع غزة، هو انعكاس بالغ الأهمية للتغيير البارز في قواعد الصراع، التغيير الذي لم تستطع القيادة الإسرائيلية أن تراه.
وقد أخطأ الإسرائيليون عندما لم يضعوا في الحساب خطورة الصدام مع تركيا: خطورة الصدام مع الحكومة التركية، والصدام الأكثر فداحة مع الشعب التركي. العلاقات التركية الإسرائيلية ليست في أفضل حالاتها، على الأقل منذ الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في 8. كما لا تتمتع الدولة العبرية بتعاطف الشريحة الأوسع من الشعب التركي. ولكن هذا شيء وما ارتكبه الإسرائيليون ضد السفينة مرمرة، وردود الفعل التي أطلقتها الجريمة الإسرائيلية في تركيا، هي شيء آخر تماماً. يمكن للإسرائيليين أن يوظفوا أي مستوى من الخطاب في حملة العلاقات العامة التي تعهدوها بعد أحداث قافلة الحرية، وأن يوجهوا اللوم ضد كل الأطراف إلا أنفسهم.
ولكن هناك حقيقة لا يمكن إخفاؤها: أن أكثر من نصف القتلى الأتراك على ظهر مرمرة أصيبوا في الرأس، كما أفادت الغارديان البريطانية، أي أنهم، بكلمة أخرى، قد أعدموا. ما قام به الإسرائيليون كان سفك دماء تركية، أوجد هوة جديدة من الدم بينهم وبين تركيا، وأشاع حالة عارمة من التضامن التركي الشعبي مع فلسطين، التضامن المحمل بأبعاد الدين والتاريخ والجوار والمعاني الإنسانية. والمدهش لم يكن الأعمار المتفاوتة للقتلى الأتراك التسعة فقط، ولكن لأنهم جاءوا من كل أنحاء البلاد، من أنقرة واسطنبول وقلب الأناضول، ومن الجنوب الشرقي الكردي أيضاً.
وقد تجلى رد الفعل الرسمي التركي صريحاً وواضحاً، عبر عنه رئيس الوزراء إردوغان بالميلاد الجديد لتركيا، ورئيس الجمهورية غول بقوله إن العلاقات التركية الإسرائيلية لن تعود أبداً لما كانت عليه.
أما رد الفعل الشعبي، فكان غير مسبوق بالتأكيد، عندما ضمت حركة الاحتجاج ضد الجريمة الإسرائيلية ليس النشطاء المعتادين من خلفيات إسلامية ويسارية وحسب، بل وكل شرائح الشعب، من ربات البيوت وطلاب المدارس، إلى سائقي سيارات الأجرة وجامعي القمامة. خلال الأيام القليلة الأولى من هذا الشهر، حزيران/يونيو 1، وضع الشعب التركي نهاية لعلاقات التحالف الإستراتيجية التي جمعت تركيا الجمهورية والدولة العبرية منذ مطلع الخمسينات من القرن العشرين.
وأخطأ الإسرائيليون ثالثاً عندما لم يقرأوا الانقلاب التدريجي، ولكن الملموس، في المزاج العالمي تجاههم، مزاج الشعوب ومزاج الحكومات، بما في ذلك حكومات الدول الحليفة. وجدت إسرائيل لخدمة هدفين رئيسيين، يتعلق الأول بالمتطلبات الإستراتيجية للإمبراطورية البريطانية في الشرق الأوسط، والثاني بالمسألة اليهودية في أوروبا.
ولم تختلف الرؤية الأمريكية لدولة إسرائيل طوال حقبة الحرب الباردة عن رؤية أسلافهم البريطانيين، وإن اختلف السياق التاريخي قليلاً: ظلت الدولة العبرية تخدم الأهداف الإستراتيجية الكبرى للمعسكر الغربي، ونُظر إليها دائماً، باعتبارها تجسيداً لتكفير الغرب عن جرائمه ضد اليهود منذ العصور الوسطى، وخلال سنوات الحرب الثانية على وجه الخصوص. بنهاية الحرب الباردة، تضاءلت الضرورة الإستراتيجية الغربية للدولة العبرية.
ولعل السياسة التي اتبعتها إدارة بوش الأب خلال حرب الخليج الأولى في استبعاد الدولة العبرية كلية من تحالف الحرب، حتى بعد أن وجه العراق صواريخه إليها، كانت التعبير الأول للانقلاب في وضع دولة إسرائيل. بدلاً من أن تخدم الأهداف الإستراتيجية للولايات المتحدة، أصبحت إسرائيل في الحقيقة عبئاً استراتيجياً. ولعل تصريحات كبار القادة العسكريين الأمريكيين مؤخراً حول التهديد الذي باتت السياسات الإسرائيلية تمثله على حياة الجنود الأمريكيين في العالم الإسلامي هو مؤشر إضافي إلى حجم العبء الذي باتت إسرائيل تمثله.
بيد أن الانقلاب في معنى الوطن اليهودي وفي المعنى المستبطن لوجود دولة إسرائيل، باعتبارها حلاً للمسألة اليهودية في أوروبا لا يقل أهمية. كان يفترض لدولة تجسد هذا المعنى، من وجهة النظر الغربية، أن تحتل موقعاً أخلاقياً عالياً، وأن تحتضن القيم الكبرى للإنسانية. وقد استطاع الضمير الغربي بالفعل ولعدة عقود التماهي مع إسرائيل مسلحة حتى رأسها، سواء لثقل وطأة سجل التاريخ الغربي في العلاقة مع اليهود أو لأنه رأى في النزعة الاستيطانية للكيان الجديد انعكاساً لحركة الاستيطان الغربية التبشيرية.
ولكن الأمر كان مجرد وقت قبل أن يكتشف الرأي العام الغربي، والرأي العام العالمي ككل، أن مشروع الوطن القومي اليهودي بات عبئاً على ضمير الغرب والعالم بدلاً من أن يكون أداة تحرير ضميرية من آثام التاريخ المثقل، وأن الدولة العبرية ليست أكثر من آلة قتل واعتداء دائمة، لم يعد من الممكن تسويغ جرائمها أو التعايش معها.
مشكلة الدولة العبرية في حصار غزة وفي الاعتداء على قافلة الحرية، كما كانت في حرب 6 المدمرة على لبنان، والحرب الدموية البشعة على قطاع غزة في 8 9، ليست في تدهور كفاءة قيادات الدولة، أو في ارتباك مؤقت للقرار السياسي الإسرائيلي.
مشكلة الدولة العبرية أنها تعيش منذ أكثر من عقد من الزمان مرحلة انتقالية، من وضع الدولة المتفوقة عسكرياً وسياسياً وعلى مستوى الدعم العالمي، إلى وضع الدولة العادية التي تواجه تحديات عسكرية بالغة الصعوبة، ومآزق سياسية تراكمية باهظة التكاليف، وانفضاضاً غربياً وعالمياً تدريجياً.
دولة تعيش اليوم تهديداً صاروخياً من سورية وحزب الله وقوى المقاومة في غزة يمكن أن يصل كل بيت إسرائيلي، وأقلية عربية نشطة وصلبة الإرادة، يكاد حجمها أن يصل إلى خمس تعداد السكان؛ دولة تخسر حلفاء إستراتيجيين مثل تركيا، وتضع أصدقاءً آخرين مثل مصر في مأزق بالغ الحرج، وتدفع بشركائها الفلسطينيين في عملية السلام إلى الزاوية؛ دولة تثير أسئلة كبرى حول جدوى الوقوف إلى جانبها في واشنطن، وحول العبء الأخلاقي الذي تمثله للرأي العام الغربي، ليست هي الدولة ذاتها التي اكتسحت ما تبقى من فلسطين وأجزاء هائلة من جوارها العربي في حزيران/يونيو 1967، وسط أجواء احتفالية غربية.
انتقال الدولة العبرية من وضع التفوق إلى وضع الدولة العادية هو أول مؤشرات انحدار المشروع الصهيوني. وليس ثمة كيان إمبريالي واجه تحديات الانحدار من دون أن يرتبك. الارتباك الإسرائيلي، بهذا المعنى، هو انعكاس لتحولات هامة في موازين القوى، وليس مجرد انعكاس لأزمة عابرة.
*العصر
11-6-2010
بقلم د. بشير موسى نافع
مشكلة الدولة العبرية أنها تعيش منذ أكثر من عقد من الزمان مرحلة انتقالية، من وضع الدولة المتفوقة عسكرياً وسياسياً وعلى مستوى الدعم العالمي، إلى وضع الدولة العادية التي تواجه تحديات عسكرية بالغة الصعوبة، ومآزق سياسية تراكمية باهظة التكاليف، وانفضاضاً غربياً وعالمياً تدريجياً.. انتقال الدولة العبرية من وضع التفوق إلى وضع الدولة العادية هو أول مؤشرات انحدار المشروع الصهيوني. وليس ثمة كيان إمبريالي واجه تحديات الانحدار من دون أن يرتبك. الارتباك الإسرائيلي، بهذا المعنى، هو انعكاس لتحولات هامة في موازين القوى، وليس مجرد انعكاس لأزمة عابرة..
أثار الهجوم الإسرائيلي المسلح على قافلة الحرية، مطلع هذا الشهر، ردود فعل عربية وإسلامية وعالمية، رسمية وشعبية.
وبالرغم من كل التبريرات والتسويغات الإسرائيلية، فثمة حقائق لا يمكن إنكارها. أولها، أن القافلة ضمت سفناً انطلقت من أماكن متعددة، وأنها حملت على ظهرها نشطين ومتضامنين من عدد كبير من الجنسيات: مغاربة، جزائريون، كويتيون، فلسطينيون، أردنيون، بريطانيون، كنديون، إيرلنديون، أمريكيون، أتراك، وغيرهم.
وقد حرص هؤلاء قبل انطلاقهم ليس على إعلان خلو السفن من السلاح وحسب، بل والذهاب إلى استخدام أدوات الطعام البلاستيكية أيضاً للتوكيد على الطابع المدني للقافلة. هدف القافلة كان، باختصار، كسر الحصار غير القانوني دولياً، وغير المبرر إنسانياً، الذي تفرضه الدولة العبرية على قطاع غزة، وليس خلق أزمة عالمية بمواجهة الآلة العسكرية الإسرائيلية.
اعترض الإسرائيليون القافلة في عرض البحر، وفي المياه الدولية، واستخدموا ضد القافلة ما يعرف عسكرياً بالتدخل المباشر، أي استخدام القوة المسلحة. كانت النتيجة كما هو معروف مقتل تسعة من المتضامنين الأتراك على سطح السفينة مرمرة، وجرح عشرات آخرين. ما انشغل به العالم بعد ذلك، كان تحديد المسؤولية الإسرائيلية عن الهجوم الدموي، وما إن كانت قافلة الحرية بداية النهاية للحصار الظالم على القطاع الباسل. ولكن هناك ما هو أبعد دلالة لهذا الحدث.
ارتكب الإسرائيليون في التصدي والهجوم على قافلة الحرية سلسلة من الأخطاء، لم يكن لدولة متفوقة، ذات عقل متوازن وقيادة تتمتع بالقدرة على السيطرة على الأحداث، أن تقوم بها:
أخطأ الإسرائيليون أولاً عندما اعتقدوا أن الفلسطينيين سيصابون في النهاية بالملل وأنهم، كما في سوابق عدة شهدها تاريخ الصراع الطويل على فلسطين، سيركنون إلى حقائق القوة والقبول بأن مصير قطاع غزة رهن بالإرادة الإسرائيلية.
ثمة انقسام فلسطيني، بالطبع، وتعاون حثيث بين قيادة سلطة الحكم الذاتي في رام الله والقيادة الإسرائيلية، لاسيما فيما يتعلق بالموقف من قطاع غزة، والحكومة التي تدير شؤونه. كما أن هناك انقساماً عربياً حول فلسطين، حول القوى السياسية الفلسطينية، وحول مصير الصراع على فلسطين، أحد أسوأ وجوهه على الإطلاق التوافق بين الإسرائيليين وعدد من الدول العربية على كسر إرادة القطاع وأهله، ووضع نهاية لحكومة حماس في غزة، مهما كانت التكاليف.
ليس في هذه الصورة من أسرار، ولكن ثمة تياراً بين العرب والفلسطينيين، بات على قناعة عميقة بأن توازنات القوى ليست قدراً، وأن الواقع العربي والفلسطيني الرسمي البائس ليس مبرراً للتخلي عن المسؤوليات. ولا يتسع نطاق وقدرات هذا التيار بمرور الأيام وحسب، بل أصبح في استطاعته كسب الحلفاء في كل أنحاء العالم أيضاً.
الانتصار لقطاع غزة هدف رئيس لهذا التيار وحلفائه، وقد اتضح خلال العامين الماضيين أن هذا التيار تعلم دروس التاريخ، وأنه لن يتخلى عن هدفه، مهما بلغت ردود الفعل الإسرائيلية من عنف. التصميم على كسر الحصار المفروض على قطاع غزة، هو انعكاس بالغ الأهمية للتغيير البارز في قواعد الصراع، التغيير الذي لم تستطع القيادة الإسرائيلية أن تراه.
وقد أخطأ الإسرائيليون عندما لم يضعوا في الحساب خطورة الصدام مع تركيا: خطورة الصدام مع الحكومة التركية، والصدام الأكثر فداحة مع الشعب التركي. العلاقات التركية الإسرائيلية ليست في أفضل حالاتها، على الأقل منذ الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في 8. كما لا تتمتع الدولة العبرية بتعاطف الشريحة الأوسع من الشعب التركي. ولكن هذا شيء وما ارتكبه الإسرائيليون ضد السفينة مرمرة، وردود الفعل التي أطلقتها الجريمة الإسرائيلية في تركيا، هي شيء آخر تماماً. يمكن للإسرائيليين أن يوظفوا أي مستوى من الخطاب في حملة العلاقات العامة التي تعهدوها بعد أحداث قافلة الحرية، وأن يوجهوا اللوم ضد كل الأطراف إلا أنفسهم.
ولكن هناك حقيقة لا يمكن إخفاؤها: أن أكثر من نصف القتلى الأتراك على ظهر مرمرة أصيبوا في الرأس، كما أفادت الغارديان البريطانية، أي أنهم، بكلمة أخرى، قد أعدموا. ما قام به الإسرائيليون كان سفك دماء تركية، أوجد هوة جديدة من الدم بينهم وبين تركيا، وأشاع حالة عارمة من التضامن التركي الشعبي مع فلسطين، التضامن المحمل بأبعاد الدين والتاريخ والجوار والمعاني الإنسانية. والمدهش لم يكن الأعمار المتفاوتة للقتلى الأتراك التسعة فقط، ولكن لأنهم جاءوا من كل أنحاء البلاد، من أنقرة واسطنبول وقلب الأناضول، ومن الجنوب الشرقي الكردي أيضاً.
وقد تجلى رد الفعل الرسمي التركي صريحاً وواضحاً، عبر عنه رئيس الوزراء إردوغان بالميلاد الجديد لتركيا، ورئيس الجمهورية غول بقوله إن العلاقات التركية الإسرائيلية لن تعود أبداً لما كانت عليه.
أما رد الفعل الشعبي، فكان غير مسبوق بالتأكيد، عندما ضمت حركة الاحتجاج ضد الجريمة الإسرائيلية ليس النشطاء المعتادين من خلفيات إسلامية ويسارية وحسب، بل وكل شرائح الشعب، من ربات البيوت وطلاب المدارس، إلى سائقي سيارات الأجرة وجامعي القمامة. خلال الأيام القليلة الأولى من هذا الشهر، حزيران/يونيو 1، وضع الشعب التركي نهاية لعلاقات التحالف الإستراتيجية التي جمعت تركيا الجمهورية والدولة العبرية منذ مطلع الخمسينات من القرن العشرين.
وأخطأ الإسرائيليون ثالثاً عندما لم يقرأوا الانقلاب التدريجي، ولكن الملموس، في المزاج العالمي تجاههم، مزاج الشعوب ومزاج الحكومات، بما في ذلك حكومات الدول الحليفة. وجدت إسرائيل لخدمة هدفين رئيسيين، يتعلق الأول بالمتطلبات الإستراتيجية للإمبراطورية البريطانية في الشرق الأوسط، والثاني بالمسألة اليهودية في أوروبا.
ولم تختلف الرؤية الأمريكية لدولة إسرائيل طوال حقبة الحرب الباردة عن رؤية أسلافهم البريطانيين، وإن اختلف السياق التاريخي قليلاً: ظلت الدولة العبرية تخدم الأهداف الإستراتيجية الكبرى للمعسكر الغربي، ونُظر إليها دائماً، باعتبارها تجسيداً لتكفير الغرب عن جرائمه ضد اليهود منذ العصور الوسطى، وخلال سنوات الحرب الثانية على وجه الخصوص. بنهاية الحرب الباردة، تضاءلت الضرورة الإستراتيجية الغربية للدولة العبرية.
ولعل السياسة التي اتبعتها إدارة بوش الأب خلال حرب الخليج الأولى في استبعاد الدولة العبرية كلية من تحالف الحرب، حتى بعد أن وجه العراق صواريخه إليها، كانت التعبير الأول للانقلاب في وضع دولة إسرائيل. بدلاً من أن تخدم الأهداف الإستراتيجية للولايات المتحدة، أصبحت إسرائيل في الحقيقة عبئاً استراتيجياً. ولعل تصريحات كبار القادة العسكريين الأمريكيين مؤخراً حول التهديد الذي باتت السياسات الإسرائيلية تمثله على حياة الجنود الأمريكيين في العالم الإسلامي هو مؤشر إضافي إلى حجم العبء الذي باتت إسرائيل تمثله.
بيد أن الانقلاب في معنى الوطن اليهودي وفي المعنى المستبطن لوجود دولة إسرائيل، باعتبارها حلاً للمسألة اليهودية في أوروبا لا يقل أهمية. كان يفترض لدولة تجسد هذا المعنى، من وجهة النظر الغربية، أن تحتل موقعاً أخلاقياً عالياً، وأن تحتضن القيم الكبرى للإنسانية. وقد استطاع الضمير الغربي بالفعل ولعدة عقود التماهي مع إسرائيل مسلحة حتى رأسها، سواء لثقل وطأة سجل التاريخ الغربي في العلاقة مع اليهود أو لأنه رأى في النزعة الاستيطانية للكيان الجديد انعكاساً لحركة الاستيطان الغربية التبشيرية.
ولكن الأمر كان مجرد وقت قبل أن يكتشف الرأي العام الغربي، والرأي العام العالمي ككل، أن مشروع الوطن القومي اليهودي بات عبئاً على ضمير الغرب والعالم بدلاً من أن يكون أداة تحرير ضميرية من آثام التاريخ المثقل، وأن الدولة العبرية ليست أكثر من آلة قتل واعتداء دائمة، لم يعد من الممكن تسويغ جرائمها أو التعايش معها.
مشكلة الدولة العبرية في حصار غزة وفي الاعتداء على قافلة الحرية، كما كانت في حرب 6 المدمرة على لبنان، والحرب الدموية البشعة على قطاع غزة في 8 9، ليست في تدهور كفاءة قيادات الدولة، أو في ارتباك مؤقت للقرار السياسي الإسرائيلي.
مشكلة الدولة العبرية أنها تعيش منذ أكثر من عقد من الزمان مرحلة انتقالية، من وضع الدولة المتفوقة عسكرياً وسياسياً وعلى مستوى الدعم العالمي، إلى وضع الدولة العادية التي تواجه تحديات عسكرية بالغة الصعوبة، ومآزق سياسية تراكمية باهظة التكاليف، وانفضاضاً غربياً وعالمياً تدريجياً.
دولة تعيش اليوم تهديداً صاروخياً من سورية وحزب الله وقوى المقاومة في غزة يمكن أن يصل كل بيت إسرائيلي، وأقلية عربية نشطة وصلبة الإرادة، يكاد حجمها أن يصل إلى خمس تعداد السكان؛ دولة تخسر حلفاء إستراتيجيين مثل تركيا، وتضع أصدقاءً آخرين مثل مصر في مأزق بالغ الحرج، وتدفع بشركائها الفلسطينيين في عملية السلام إلى الزاوية؛ دولة تثير أسئلة كبرى حول جدوى الوقوف إلى جانبها في واشنطن، وحول العبء الأخلاقي الذي تمثله للرأي العام الغربي، ليست هي الدولة ذاتها التي اكتسحت ما تبقى من فلسطين وأجزاء هائلة من جوارها العربي في حزيران/يونيو 1967، وسط أجواء احتفالية غربية.
انتقال الدولة العبرية من وضع التفوق إلى وضع الدولة العادية هو أول مؤشرات انحدار المشروع الصهيوني. وليس ثمة كيان إمبريالي واجه تحديات الانحدار من دون أن يرتبك. الارتباك الإسرائيلي، بهذا المعنى، هو انعكاس لتحولات هامة في موازين القوى، وليس مجرد انعكاس لأزمة عابرة.
*العصر