الانتخابات العراقية، من هذا المنظار، هي درس لدول ومجتمعات عربية وإسلامية أخرى مشابهة، وللقوى الإسلامية السياسية عموماً: في اجتماع سياسي تشكل الدولة الحديثة إطاره، ليس ثمة نموذج واحد للحكم؛ وبناء نظام حكم يتجاهل حقائق الواقع، هو وصفة مؤكدة للانقسام الداخلي وربما الاحتراب الطائفي، بغض النظر عما إن كان هناك ديمقراطية أو ديكتاتورية.
بقلم د. بشير موسى نافع
ليس ثمة شك في أن العراق لم يزل بلداً محتلاً؛ وسيحتاج العراق عدة سنوات أخرى، وقدراً أكبر من وحدة إرادته الوطنية، إن سارت الأمور في شكل مرض، قبل أن يتحقق استقلاله الفعلي. ويترك الاحتلال والنفوذ الخارجي ظلاله الثقيلة على مجمل العملية السياسية، بما في ذلك الانتخابات. ولكن الصحيح أيضاً أن إدارة أوباما ترغب في التخلص من عبء الملف العراقي وتكاليف تواجد القوات الأمريكية فيه، بعد أن ازدحمت الأولويات الإستراتيجية الأمريكية بالحرب في أفغانستان، بالتقدم الروسي الحثيث في ما يصفه الروس بالخارج القريب، وبارتفاع وتيرة التسلح الصيني.
وقد تراجعت الإرادة السياسية الأمريكية في العراق إلى الحد الذي لم يستطع فيه الأمريكيون التدخل ولو بأدنى درجة من التأثير في ملف الاجتثاث الذي قصد به المالكي (وطهران) التأثير المبكر في نتائج الانتخابات. هذا، إلى جانب أسباب أخرى متعددة، جعل الانتخابات العراقية الأخيرة حدثاً هاماً.
من المبالغة، بالطبع، القول إن الانتخابات تمثل منعطفاً تحولياً، يفتح الباب لإعادة بناء دولة ما بعد الغزو والاحتلال على أسس جديدة كلية؛ فهذا مسار طويل، وشاق، ولن يخلو من انتكاسات. ولكن من الصحيح، ربما، القول إنها توفر بصيص أمل. أما إن لن يسمح لهذا البصيص بالتجلي، فإن مستقبل العراق سيظل مفتوحاً على الاحتمالات.
يتنافس في هذه الانتخابات عدد كبير من القوائم والمجموعات الصغيرة والكبيرة؛ ولكن هذه جميعاً يمكن اختصارها في ثلاثة تصورات سياسية: التصور الطائفي للحكم والدولة، وهو ما تمثله قائمتا رئيس الوزراء المالكي، قائمة دولة القانون، والائتلاف الشيعي ’الوطني’ في ثوبه الجديد/القديم، الذي تقوده جماعتا الحكيم والصدر؛ والتصور الوطني العلماني للقائمة العراقية، التي يقف على رأسها إياد علاوي وطارق الهاشمي وأسامه النجيفي ورافع عيساوي، إضافة إلى صالح المطلق (المجتث مبكراً)؛ أما التصور الثالث، فهو التصور القومي الانفصالي، القلق، الذي تمثله قائمة تحالف الحزبين الكرديين الرئيسيين.
تعكس هذه الخارطة ثلاثة متغيرات هامة: قوى خسرت مواقعها السابقة؛ قوة حاكمة ومتحكمة، قادرة على التأثير غير القانوني في نتائج الانتخابات؛ ومسار بالغ التعقيد وغير قابل للتوقع بعد لتشكيل الحكومة العراقية المقبلة.
شهدت هذه الجولة الانتخابية تراجع كتلة التوافق السنية، التي يقوده الحزب الإسلامي، في شكل ملموس عما كانت عليه في الانتخابات السابقة، نظراً لتراجع حظوظ الطائفية السياسية في البلاد، ولأداء الحزب الإسلامي المتخبط وغير المرضي لناخبيه طوال انخراطه في العملية السياسية. وكان من المفترض أن يؤثر تراجع حظوظ الطائفية السياسية على وضعي قائمة دولة القانون والائتلاف الشيعي، لولا الشحن الطائفي المستمر في أوساط شيعة العراق، والقدرات المالية الهائلة التي وظفتها القوائم الشيعية الطائفية في الحملة الانتخابية، والقدرات التي تتمتع بها هذه القوائم على التزييف والتأثير في نتائج الانتخابات.
ولكن المتوقع، على أية حال، أن يستمر التراجع النسبي للائتلاف الشيعي، الذي بدأ في الانتخابات المحلية في العام الماضي، وإن كان بدرجة أقل من تراجع قائمة التوافق. حفاظ قائمة المالكي (دولة القانون) على مواقعها تعود في درجة كبيرة إلى أن المقدرات الذي يوفرها منصب رئاسة الحكومة (مال ووظائف ومواقع وامتيازات)، وإلى تغلغل أنصار المالكي في كافة مؤسسات الدولة المشرفة على العملية الانتخابية، بما في ذلك، مفوضية الانتخابات.
بدأت عملية التأثير على نتائج الانتخابات في شكل مبكر؛ ولم يكن قرار اجتثاث عشرات المرشحين من العملية السياسية، الذي شابته شبهات قانونية كبيرة وحمل طابعاً سياسياً فاقعاً، والذي يعتقد بأنه، جزئياً على الأقل، جاء استجابة لمطالب إيرانية، سوى الخطوة الأولى في عملية تزييف إرادة الناخبين.
ولكن خطوات أخرى تتابعت، سواء خلال العملية الانتخابية (كشوف الناخبين، مثلاً)، أو عملية فرز وعد الأصوات، أو نقل البيانات الرقمية من الأوراق إلى أجهزة الكومبيوتر. ولم يكن تصريح سترون ستيفنسون، رئيس مجموعة المراقبة البرلمانية الأوروبية، حول وجود عملية تزييف واسعة النطاق لصالح قائمة المالكي وضد القائمة العراقية، سوى مؤشر، محايد واحد على ما شهدته الانتخابات من تلاعب، يضاف إلى تقارير منظمات مدنية عراقية في الاتجاه نفسه.
غير أن ذلك لا يعني أن نتائج الانتخابات محسومة لصالح المالكي، وأنه بات من المتيقن عودته إلى رئاسة الحكومة. واقعياً، تنافس قائمة المالكي على الأصوات الشيعية فقط، بعد أن تراجع خطاب المالكي الوطني في درجة ملموسة خلال العام الماضي، وعاد في قراراته وسياسياته إلى جذوره الطائفية المعهودة، وأصبح مؤكداً إخفاقه في الحصول على عدد ولو ضئيل من مقاعد المناطق العربية السنية. ويواجه المالكي في الساحة الشيعية خصوماً لا يستهان بهم، مثل جماعات الحكيم والصدر، الذين تضمهم قائمة الائتلاف الشيعية. وبالرغم من أن عدد المقاعد المخصصة للمحافظات ذات الأغلبية الشيعية أكثر من عدد تلك المخصصة لنظيراتها ذات الأغلبية السنية، فإن حدة التنافس بين القائمتين تعني استحالة حصول قائمة المالكي على عدد المقاعد الذي يجعلها الأكبر في البرلمان القادم، دون قدر كبير من التزييف.
هذا، في الوقت الذي يوفر الطابع الوطني العلماني للقائمة العراقية فرصة معقولة للحصول على عشرين إلى ثلاثين من مقاعد المحافظات ذات الأغلبية الشيعية، على الأقل، إضافة إلى الحصة الأكبر من مقاعد المحافظات ذات الأغلبية السنية.
من جهة أخرى، وبالرغم من أن التوزيع الجديد للمقاعد أدى إلى انخفاض الوزن النسبي للكتلة الكردية القومية، وأن خروج كتلة كردية إصلاحية ثالثة إلى حلبة المنافسة وانفصال الأكراد الإسلاميين عن الكتلة الكردية، ساهما في إضعاف نسبي للثقل الكردي، فمن المستبعد تشكيل تحالف حكومي جديد بدون الكتلة الكردية الرئيسية؛ أولاً، لأن الدولة الجديدة بنيت على فرضية مشاركة الحزبين الكرديين الرئيسيين في الحكم، وثانياً، لأن من الصعب، وإن كان من غير المستحيل، تبلور تحالف حكومي من الكتل البرلمانية العربية فقط. يعني مثل هذا الوضع أن الكتلة الكردية ستستمر في ممارسة تأثير غير متناسب مع حجمها على الحكومة المركزية.
في المقابل، ثمة تقارير مبكرة تفيد بأن القائمة العراقية قد تحصل على أكثرية الأصوات والمقاعد في كركوك؛ وإن صحت هذه التوقعات، فإن أسطورة الأكثرية الكردية الحاسمة في المحافظة ستسقط، ومعها قد تتواضع المطالب الكردية لضم المحافظة لمنطقة الحكم الذاتي، وتجعل تعامل بغداد مع الأكراد أكثر سلاسة.
مهما كانت النتائج، فإن المتوقع أن تنحصر المنافسة على منصب رئاسة الحكومة بين المالكي وعلاوي، أي بين قائمتي دولة القانون والعراقية. هذا لا يعني بالتأكيد الاستبعاد الكلي لبروز شخصية ثالثة، إن استحال على أي من الاثنين تشكيل حكومة تتمتع بأغلبية برلمانية، وتولدت ضرورة لطرح مرشح توافقي.
ويعتبر اختيار البرلمان الجديد رئيس الجمهورية المقبل، الخطوة التي تسبق تسمية رئيس الحكومة، المؤشر الأول إلى ما يمكن أن تكونه الحكومة ويكون رئيسها. في ضوء توجهات الاثنين المعروفة (والتي لا يمكن الجزم بأنها لن تتغير في المستقبل)، فإن عودة المالكي إلى رئاسة الحكومة تعني العودة بالبلاد إلى سياسة الحكم الطائفي الكريه، التي أوصلت آية الله النجفي إلى اتهام وزير التعليم الشيعي في حكومة المالكي بالطائفية، نظراً لما قام به من تحويل العملية التعليمية في العراق إلى مؤسسة طائفية مغلقة.
في حال تولى علاوي رئاسة الحكومة، حتى بالتحالف مع إحدى القائمتين الشيعيتين الكبيرتين، فقد تتاح للعراق فرصة، ولو ضئيلة، للتخلص من ميراث الدولة الطائفية التمييزية، في موازاة استمرار الانسحاب الأمريكي، وتتعزز بالتالي اللحمة الوطنية العراقية ويصبح العراق أكثر قدرة نسبياً على بناء وتنمية إرادة وطنية مستقلة.
ما أظهرته تجربة العراق في السنوات القليلة الماضية أن برنامج القوى الإسلامية السياسية، سنية كانت أو شيعية، يمكن أن يؤدي إلى التشظي الطائفي في المجتمعات العربية والإسلامية التي لا تتمتع فيها طائفة ما بأكثرية حاسمة. توظيف أداة الدولة لحمل تصور إسلامي يؤدي تلقائياً إلى التمييز ضد الطائفة الأخرى. وهذا بالتأكيد ما ممارسته حكومات السيطرة الشيعية السياسية في عراق ما بعد الاحتلال.
المخرج الوحيد في مثل هذه الحالة هو حكومة علمانية، تحترم الدين وقيمه، بدون أن تجعل الدولة أداة للتدخل في الشأن الديني أو لفرض تصور ديني ما. الانتخابات العراقية اليوم تطرح أمام العراق فرصة صغيرة لإقامة مثل هذا الحكم، غير الموجه إسلامياً أو طائفياً لصالح فئة ما في المجتمع. ولعل هذه الفرصة، هذا الأمل الضئيل وغير المؤكد، ما جعل الأغلبية العربية السنية، وقطاعاً ملموساً من الشيعة العرب، تعطي أصواتها للقائمة العراقية.
الانتخابات العراقية، من هذا المنظار، هي درس لدول ومجتمعات عربية وإسلامية أخرى مشابهة، وللقوى الإسلامية السياسية عموماً: في اجتماع سياسي تشكل الدولة الحديثة إطاره، ليس ثمة نموذج واحد للحكم؛ وبناء نظام حكم يتجاهل حقائق الواقع، هو وصفة مؤكدة للانقسام الداخلي وربما الاحتراب الطائفي، بغض النظر عما إن كان هناك ديمقراطية أو ديكتاتورية.
بيد أن نجاح القائمة العراقية في الحصول على رئاسة الحكومة وأن تصبح القوة المؤثرة في الحكومة القادمة، ليس أمراً مضموناً ولا مؤكداً، ليس لأنها تفتقد ما يؤهلها لذلك من أصوات الناخبين، بل للتزييف الانتخابي. وهنا يقع الخطر.
ما أوحت به هذه الانتخابات أن بإمكان العراقيين أن يغيروا حكامهم وبرامج هؤلاء الحكام سلماً وعبر صناديق الاقتراع. الطبقة السياسية العراقية الجديدة هي في مجملها طبقة رديئة، تفتقد النزاهة، والشعور بالمسؤولية، وتحركها المصالح والطموحات الذاتية أكثر من المصالح الوطنية. ولكن إن جاءت النتائج لتقول إن التغيير ليس ممكناً، مهما كانت إرادة الناخبين، فلا أحد يمكنه المراهنة على مستقبل العراق.
*العصر