هل الاصطلاحيون يناوئون المنهج السلفي .. ؟!! على هامش بيان السكران الأخير
د. صالح المالك / كاتب سعودي
أن الأستاذ السكران لم يكن يستهدف في هجومه اللاذع، التيار الليبرالي المعادي، ولا التيار العصراني الناقد، وإنما كان يستهدف للأسف من هم أقرب إليه من أولئك بكثير .. إخوانه الذين يتبنون خطاب الحضارة والنهضة والإصلاح من منطلقات شرعية وضمن إطار إجماعات السلف .. حيث جعلهم (ظلما أو جهلا) قسيما لأهل السنة والجماعة أو مقابل أهل السنة والجماعة في تقسيمه الرباعي الشهير: (العلماني/ التنويري/ الإصلاحي/ أهل السنة والجماعة).. مع أن الذين انخرطوا في إصلاح الواقع السياسي للأمة، لم يتسموا بهذا الاسم (الإصلاحيون) حتى يكونوا مقابل أهل السنة، إنما هو لقب إعلامي وثقافي أُطلق عليهم، وهم لم يطلبوه ولم يمنعوه لأنه لفظ قرآني شريف في الأصل. ومع ذلك اعتبره السكران قسيما لأهل السنة والجماعة، بل تزايدت عنده إيراد هذه المفردة (أهل السنة والجماعة) بشكل ملفت، وبطريقة غير صحيحة،
(1)
لابد أن نعترف في البداية بأن هناك بالفعل نفرا من الناس ممن يرفع شعار الإصلاح، ويتخذ موقفا عدائيا وحادا ومتوترا ضد منهج السلف، وليس فقط ضد ممارسات الأتباع والأفراد .. ولكن هذا الهجوم العدائي في الغالب لا يصدر إلا من أصحاب التوجهات العلمانية أو ممن هو خارج الانتماء الإسلامي. أي لا يلتزم بالمرجعية الإسلامية في بناء تصوراته. وهم فئة قليلة ضمن الإصلاحيين، قد يُعدّون على الأصابع إذا لم أكن مبالغا.
وحينما أقول ((قلة يُعدّون على الأصابع))، فلأن أكثر الإصلاحيين العلمانيين الذين يقفون هذا الموقف العدائي والصريح ضد منهج السلف، يحبذون رفع شعار ((الليبرالية)) دون شعار ((الإصلاح)) .. وكلامنا هنا عن الإصلاحيين وليس عن الليبراليين ..
أما الإصلاحيون الإسلاميون، فلا أعرف أحدا منهم يقف ذلك الموقف العدائي الجامح ضد منهج السلف أو حتى ضد الخطاب الشرعي السلفي. نعم؛ هناك من ينتقد ويعترض ويخالف، ولكنه لا يتخذ موقفا عدائيا ضد السلف الصالح أو كارها لهديهم وسنتهم.
ربما قد يختلف البعض معي في هذا الرأي، لكن ينبغي التنبه إلى أنني أفرق بشكل واضح بين الموقف النقدي العلمي الهادئ، والموقف الهجومي التحريضي السافر في عداوته. فالثاني مناوئ بلا شك، وهو موقف التيار الليبرالي والمتأمرك في غالبه، وأما الأول فليس بالضرورة أن يكون مناوئاً. والمشكلة أن بعض الأفاضل لا يفرق بين الموقف العدائي والموقف النقدي أو لا يحب أن يفرق بينهما، فيجعل كلا الفئتين مناوئة للخطاب الشرعي.
نعم هناك فئة من الإصلاحيين الإسلاميين ممن تأثر بالخطاب الشرعي العصراني، وعلى وجه الخصوص خطاب تيار المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ومن نحى نحوه. فصار يذهب إلى أن مرحلة السلف مرحلة زمنية مباركة بلا شك؛ ولكنها تاريخية، أي مرتبطة بظروفها الزمنية، ولا تتضمن بُعدا منهجيا مطلقا صالحا لكل زمان ومكان، وأن الأفضلية الزمنية التي جاءت بها النصوص، إنما هي لاعتبارات سلوكيه وأخلاقية، وليس لاعتبارات منهجية.
بعبارة أخرى: لم تتضمن تلك المرحلة المباركة منهجا له قواعده المنضبطة أو مرجعية منطقية ذات معالم واضحة. هذا الأمر حصل على أيدي العلماء فيما بعد، أي بعد القرون المفضلة. فالمرجعية المعصومة ـ عند هؤلاء إذن ـ منحصرة في الكتاب والسنة فقط. وأما فهم السلف، فما هو إلا فهم بشري من ضمن أفهام كثيرة ومفتوحة عبر الزمن.
وبالتالي، لا تلتزم هذه المدرسة بإطار فهم الصحابة والتابعين وأتباعهم في تلقيهم للوحي وتفسيره. وإن كانوا ينقلون ويستأنسون بكلامهم ونصوصهم، ولكن دون الالتزام بها، فهم عندهم كغيرهم من أئمة المسلمين. باختصار: ليس لإجماعات السلف قداسة عندهم.
هذا الموقف ليس موقفا صراعيا أيديولوجيا متوترا كمواقف التيارات اليسارية أو الليبرالية. وإنما هو موقف منهجي هادئ، يقوم على ((حجج وبرهان))، تحتاج إلى من يناقشها ويرد عليها بهدوء وبموضوعية. وهذه الشبه في الغالب لا تخرج عن كونها امتداد للمدارس الإسلامية في التاريخ، كالمدرسة الكلامية أو مدرسة أهل الرأي المتأخرة المتطرفة وليست الأولى المعتدلة.
لكن ينبغي أن نتنبه أنه ليس كل الإصلاحيين الإسلاميين ينطلقون من هذه الأرضية المنهجية، خاصة الإسلاميين السعوديين الذين تلقوا في الغالب تكوينا شرعيا سلفيا.
إذا سلمنا بهذا التقسيم المبدئي..
فالفئة الأولى لا تعنينا في نقاشنا، أقصد الإصلاحيين الليبراليين، لأننا كلنا متفقون في إثبات مناوئتهم للخطاب الشرعي .. مناوأةً تصل إلى حدّ الوقاحة. ولكنها في الوقت نفسه مناوأة غبية!! وفجة!! وبالتالي لا يمكن أن تجد لنفسها أرضا في الخارطة الثقافية السعودية، ولولا دعم السلطة لها وأصحاب القرار لما شكّلت أي موقع يذكر في خارطتنا الثقافية.
وهذا الذي جعل الإصلاحيين يدركون بأن الاشتغال بمناكفة هذا التيار الليبرالي على حساب معركة العدالة والحقوق وإحلال دولة القانون، هو اشتغال بخلاف الأولى، أو الانشغال بالمهم على حساب الأهم. ولا يعني هذا تضييع المهم أو إهماله كليا، لا بالطبع .. ولكن لا يكون على حساب الأولى والأهم. فدولة العدالة والحقوق والقانون والمؤسسات هي المطلب الملح الآن في الفترة الراهنة عند الإصلاحيين ويجب أن تجيش لها الخطابات والجهود والقدرات، لأن دولة العدالة والقانون هي التي تعبر صدقا عن إرادة الأمة المسلمة. وحين تتحقق إرادة الأمة، فلن يجد الشواذ من مثقفي السلطة وطلاب المنافع والمناصب أرضا في محيطها الثقافي، لأن ذلك المحيط تحكمه المرجعية التي يؤمن بها غالبية المجتمع.
وحين نقول بأن دولة العدالة والحقوق والقانون هي المطلب الملح والمقدم لدى الإصلاحيين، فلا يعني ذلك إهمال العقائد أو التقصير في تعليم الناس أمور دينهم، أو إغفال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. هذا لازم لا يلتزمه الاصلاحيون. إنما هو تشنيع يشنع به خصومهم هداهم الله.
هذا ما يتعلق بالفئة الأولى والتي تتخذ موقفا مناوئا لمنهج السلف.
أما الفئة الثانية: وهي التي تتخذ موقفا نقديا تجاه السلفية، كونها تجعل من نفسها مذهبا أو منهجا له قواعده المنضبطة والمحددة .. فمع أن موقفها هذا موقف باطل مخالف للحق، إلا أن المتابع لكتاباتها لا يجد فيها تلك النزعة العدائية الكارهة لهدي السلف من حيث المبدأ، بل قد يجد فيها أحيانا التعظيم والإجلال بتلك المرحلة المباركة وبأئمتها. والخلل لديها لا يخرج عن كونه خللا منهجيا، سببه في الغالب سوء الفهم، وليس بسبب الخلفيات الأيديولوجية.
ولهذا يبقى ـ هذا التيار ـ تيارا إسلاميا، فيه خير وصلاح كثير، ولديه غيرة على الإسلام وتعظيم للكتاب والسنة وللسلف أيضاً، والمتفق معه على الإسلام أكثر من المختلف فيه، وثمة قضايا منهجية دقيقة ليس من الفقه إثارتها وإشاعتها بين الناس، إلا إذا تمت إشاعتها وإظهارها من قبل ذلك التيار، فحينها يكون البيان بما يقوم به من باب واجب النصيحة.
وهذا يعني أنه لا إشكال ولا عيب في مناقشة أفكار هذا التيار، بل وتنقد وتنقض، ولكن تحت ظلال القاعدة الدينية المحكمة: قاعدة الأخوة في الدين والالتزام بمقتضياتها: كالمحبة والرحمة والرفق واللين.. ولا ينبغي أن تعارض تلك المحكمة ببعض مواقف آحاد السلف التي يستدل بها البعض على الغلظة مطلقا والهجر والزجر ونحو ذلك. لأن تلك المواقف استثناءات خاصة، جاءت في سياقات معينة لها اعتباراتها الشرعية؛ وبالتالي لا ينبغي أن تتحول إلى قاعدة ومنهج. فالأصل في المنهج هو الرفق مع المخالفين من أهل الإسلام، والهجران والزجر والغلظة استثناء.
هذا ما يتعلق بظاهرة نقد السلفية ومناوأتها ..
(2)
ثم إنني أريد هنا أن أشيد بالمقال القيم الذي خطه أخي وصديقي الدكتور الدخيلي، لهدوئه ومنهجيته، وعمقه في استكشاف الخلل المنهجي لدى السكران في التحليل والبحث وتعاطيه مع الأفكار
وأما البيان التوضيحي الذي كتبه أخونا السكران، فمع شكري وتقديري له على شجاعته الأدبية. ومع إيماني بحقه في أن يتحول من الرأي الذي يراه خاطئا إلى الرأي الذي يراه صوابا، ومن حقه أيضاً ألا ننسب إليه ذلك الرأي القديم ولا نحاسبه عليه ما دام أنه قد تحول عنه ... إلا أن مشكلة السكران ليست في هذا النقطة، ليست مشكلته في أن يتحول من موقف إلى موقف آخر ... إنما مشكلته ـ في نظري ـ تبرز من خلال عدة أوجه:
(الأول): هو أن السكران لم يكن يستهدف في هجومه اللاذع، التيار الليبرالي المعادي، ولا التيار العصراني الناقد، وإنما كان يستهدف للأسف من هم أقرب إليه من أولئك بكثير .. إخوانه الذين يتبنون خطاب الحضارة والنهضة والإصلاح من منطلقات شرعية وضمن إطار إجماعات السلف .. حيث جعلهم (ظلما أو جهلا) قسيما لأهل السنة والجماعة أو مقابل أهل السنة والجماعة في تقسيمه الرباعي الشهير: (العلماني/ التنويري/ الإصلاحي/ أهل السنة والجماعة)..
مع أن الذين انخرطوا في إصلاح الواقع السياسي للأمة، لم يتسموا بهذا الاسم (الإصلاحيون) حتى يكونوا مقابل أهل السنة، إنما هو لقب إعلامي وثقافي أُطلق عليهم، وهم لم يطلبوه ولم يمنعوه لأنه لفظ قرآني شريف في الأصل. ومع ذلك اعتبره السكران قسيما لأهل السنة والجماعة، بل تزايدت عنده إيراد هذه المفردة (أهل السنة والجماعة) بشكل ملفت، وبطريقة غير صحيحة، وصار يقوم بإشهارها أمام مخالفيه في كل مناسبة وبشكل متكلّف، وفي آراء اجتهادية ليس لأهل السنة فيها قول محكم أو أصل منضبط، وهذا عند التحقيق ليست هي طريقة أهل السنة.
وأذكر هنا كلاما رائعا لشيخ الإسلام ابن تيمية حيث يقول: ’’وقد استعمل طائفةٌ من متكلمة الصفاتية المنتسبين للسنة والجماعة، واعتبر ذلك طائفة من الفقهاء ـ من أصحابنا وغيرهم ـ أنهم يعتبرون مذهب السلف بالفهم، فإذا تحصل لواحدٍ منهم في مسائل من النظر أن هذا هو الموافق للكتاب والسنة، أو لبعض أصول السلف، جعل هذا قولاً للسلف. لأن السلف عنده لا يخرجون عن الكتاب والسنة، فإذا تحقق له جزماً في قولٍ ما أنه موافق للكتاب والسنة جعله قولاً للسلف’’، ثم يقول: ’’وهذا الطريق أصله من كلام طائفةٍ من أهل البدع المنتسبين للسنة والجماعة، ثم دخل على طائفةٍ من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم’’.
(الوجه الثاني): أن السكران لم يناقش إخوانه من منطلق النصيحة والتوجيه والنقد البناء، وإنما من منطلق التصنيف والتحزّب أو منطلق الكشف والفضح عن حقيقتهم، وكأنهم فرقة نابية عن منهج أهل السنة والجماعة أو خصوم للسلفية. ويكفي هنا أن نتذكر مقالته الشهيرة ((سلمان العودة من تلميع الحكومات العلمانية إلى غمز قناة الصحابة))، وأنا هنا لست بصدد الدفاع عن الشيخ سلمان، فله أتباعه وجمهوره الذين يدافعون عنه، بل إنني أختلف مع الشيخ في بعض أطروحاته وآرائه، ولكن اختلافنا معه لم إلى يصل إلى حدّ البغي والافتراء، كما فعل أخونا السكران في هذا المقال، حيث يرى بأن سلمان ((وأنا أنقل هنا كلامه باللفظ)):
1) يغمز قناة الصحابة والعياذ بالله.
2) ويسعى إلى تحريف الشريعة .
3) والتزهيد بفقه السلف.
4) والتبجح بتعليقاته على أحاديث الصحيحين.
5) وأنه ينزعج من هذه المقارنة بين نموذجية عصر الصحابة، وقتامة واقعنا المعاصر، ويحاول أن يقوض هذا الأساس عبر تلميع الواقع الفاسد، والتقليل من شأن الأنموذج الملهم (نموذج الصحابة).
هكذا يقول السكران عن الشيخ سلمان العودة، وأريد هنا أن أكرر التأكيد أن من حق السكران أن ينتقد سلمان العودة أو غيره من الدعاة، ولكن النقد شيء والمناوئة والبغي والافتراء على الدعاة والصالحين شيء آخر ..
ثم يختم مقالته: ((مايهمني أن يعرفه الإخوان هو أن كل ما قاله د.العودة ليس إلا رأس جبل الجليد))، يا الله كل تلك الطوام الخمس ما هي إلا رأس الجليد عند السكران. إذن ما هو الجليد؟!!. ثم يقول: ((وما يخفيه من تحريف الشريعة والتزهيد بفقه السلف أضعاف أضعاف ذلك، لكنه يؤجله لاعتبارات سياسية ودبلوماسية لا تخفى))، هكذا ’’أضعاف أضعاف’’ إنا الله وإنا إليه راجعون. ثم يقول: ((واسألوا جلساءه عن مجالسه الخاصة وما فيها من بجاحة بعض تعليقاته على أحاديث الصحيحين، وتهكمه ببعض فتاوى أئمة السلف الكبار، ولكن لا يمكن أن ننقده نقداً علنياً على ذلك، لأنه لم يصرح بها إلى الآن، وأسأل الله أن يكفيه شر نفسه، ويكفي المسلمين شر صفقاته)).
موضوع سلمان العودة لا يهمني الآن، فلم أذكره هنا إلا كمثال على الدعاة الذين لم يسلموا من جموح السكران غير المبرر.
(الوجه الثالث): أن السكران لديه مشكلة منهجية في التعامل مع المخالفين من إخوانه أهل السنة، ويظهر ذلك جليا حينما قال في بيانه: ((والمراد أن كل من نقدني، وأساء القول فيّ، وخاض في عرضي، بناءً على كلام لي قبل ورقة المآلات، فقد صدق وبرّ وما تجاوز الحق قيد أنملة، بل هو مأجور إن شاء الله)) .. لا أريد أن أقف عند النزعة البكائية في هذا المقطع، إنما أريد أن أبيّن أن الرجل يبدو فعلا ـ هدانا الله وإياه ـ يرى بجواز إساءة القول في المخالفين له!! والخوض في أعراضهم!! وأن من فعل ذلك فقد برّ!! وما تجاوز الحق قيد أنملة!! بل هو مأجور إن شاء الله!!! ... هكذا أنا أفهم من ذلك المقطع البكائي، وأرجو أن يكون فهمي خاطئا، ولكن مقالات السكران للأسف ما زالت تؤكد ذلك الفهم.
وهذا الفهم هو الذي يفسر لنا هجومه واستطالته على إخوانه، لأنهم لم يقتنعوا ببدعة ((أرذلية الدنيا بشكل مطلق)) كما يحاول أن يروج لذلك .. ولأنهم يتعاملون مع المخالفين بطريقة تختلف عن الطريقة السائدة التي يسلكها بعض الشرعيين.. ولأنهم يتعاطون مع الفكر الإنساني بمنهجية نقدية منفتحة تختلف عن منهجية الانكفاء والتقوقع .. ولأنهم يشتغلون بقضايا ومشاريع جديدة كانت منسية لدى الخطاب الشرعي السائد في يوما ما .. ولأنهم يطرحون خطابا شرعيا جديدا غير مألوف حول الديمقراطية والحرية والعدالة والتعايش والتعددية وحقوق الإنسان، بعد أن كان الخطاب الشرعي منعزل عن هذه القضايا والتساؤلات الملحة ومنكفئ في جزئيات الفقه العملي.
نعم؛ ربما يخطئون .. بل سيخطئون قطعا .. لأنهم يخوضون في نوازل بكر .. ليس لهم فيها سابقة إجماع أو أثر .. ولأنهم أيضاً بشر يجتهدون في البحث عن الحق كغيرهم.. وبالتالي يصيبون ويخطئون .. ومن حق السكران حينها أن يناقشهم وينتقدهم فيما يراه خطأ ومخالفا للصواب، ولكن في إطار الإخوة الإسلامية التي تجمع وتقرب وتؤلف، وليس في إطار التحزب والتقسيم والتصنيف وإيغار الصدور.
مشكلة السكران وأشباهه أنهم يزايدون إخوانهم على منهج السلف وعلى تعظيم الأثر، مع أن إخوانهم ينطلقون من نفس المنطلقات التي يؤمن بها السكران (أو بالأصح صار يؤمن بها الآن).
(الوجه الرابع)، وهو المهم في نظري، أن السكران، كما قلت في مقال سابق في مجموعة الأخ العزيز د. عبدالعزيز قاسم، بأن (السكران والنقيدان وجهان لعملة واحدة) .. وهذا الجملة قد أثارت حفيظة بعض الفضلاء، وأولهم الدكتور عبدالعزيز قاسم، وحق لهم ذلك .. فهي عبارة مستفزة بلا شك، وإن كنت حرصت وقتها أن أوضح مقصودي منها، ولكني هنا سأزيد التوضيح أكثر ..
ليس المقصود أن ((السكران والنقيدان وجهان لعملة واحدة))، أنهما على مرتبة واحدة من التدين والصلاح وإتباع الحق، لم أقصد ذلك، وإنما قصدت أنهما وجهان لعقلية واحدة، لنفسية واحدة، وهي النفسية التي لا تستطيع أن تقف إلا في الأطراف، ولا تملك القدرة على الوقوف في منطقة الوسط، بمعنى أنها إذا تحولت من طرف اليسار فإنها لا تتحول إلا إلى طرف اليمين، والعكس صحيح. هذا مشكلة الأطراف يا أصدقاء وهي مشكلة عميقة والكلام فيها طويل.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى؛ هذه العقلية حين تمارس النقد ضد مخالفيها، نجدها محبوسة بهاجس الماضي الذي كانت عليه، فالنقيدان مثلا وكذلك مشاري الذايدي وعبدالله بن بجاد حينما ينتقدون الصحوة أو الخطاب الديني، في تشددها وتحريمها لكل ما يأتي من الغرب وانعزالها عن الواقع وتكفير الناس ونحو ذلك، فهم في الحقيقة إنما ينتقدون ماضيهم وليس الصحوة، ينتقدون تدينهم وخطابهم الذي كانوا عليه في يوما، ولا ينتقدون الخطاب الديني كما هو في واقع الأمر.
كذلك السكران حين ينتقد دعاة الإصلاح والحضارة، فهو في الحقيقة إنما ينتقد ماضيه الذي كان عليه، حينما كان يتخذ موقفا متطرفا في تبنى مشروع المدنية والحضارة والإصلاح، ويتخذ في المقابل موقفا (مناوئا/ أو ناقدا) للخطاب الشرعي السلفي.
مشكلة السكران أنه يتصور بأن كل من تبنى مشروع الخطاب المدني والحضارة والإصلاح، فهو بالضرورة يكون مثله كما كان هو في الماضي. هنا تكمن مشكلة خطاب السكران الجديد. مشكلة السكران أنه يرسم صورة خيالية أو أسطورية في ذهنه بناء على ماضيه ثم يهاجم تلك الصورة. لكن هل تلك الصورة تعبر بالفعل عن واقع موجود، أما أنها تعبر عن تجربة ذاتية مر بها السكران؟!
أختم أخيرا بالخاتمة الذهبية التي ختم بها أخي وصديقي الدكتور الدخيلي، حينما قال: ((نحن بحاجة إلى الدفاع عن الخطاب الشرعي / السلفي ... لكننا بحاجة أيضاً إلى أن لا يتحول الدفاع إلى عملية تخدير تصيبنا بحالة من عدم الإحساس الحقيقي بقصورنا، هذا التخدير الذي قد يسكن الألم، لكنه لا يزيله وإنما يؤجل الإحساس به إلى وقت آخر، حيث تجتمع الآلام علينا دفعة واحدة)).
*العصر
د. صالح المالك / كاتب سعودي
أن الأستاذ السكران لم يكن يستهدف في هجومه اللاذع، التيار الليبرالي المعادي، ولا التيار العصراني الناقد، وإنما كان يستهدف للأسف من هم أقرب إليه من أولئك بكثير .. إخوانه الذين يتبنون خطاب الحضارة والنهضة والإصلاح من منطلقات شرعية وضمن إطار إجماعات السلف .. حيث جعلهم (ظلما أو جهلا) قسيما لأهل السنة والجماعة أو مقابل أهل السنة والجماعة في تقسيمه الرباعي الشهير: (العلماني/ التنويري/ الإصلاحي/ أهل السنة والجماعة).. مع أن الذين انخرطوا في إصلاح الواقع السياسي للأمة، لم يتسموا بهذا الاسم (الإصلاحيون) حتى يكونوا مقابل أهل السنة، إنما هو لقب إعلامي وثقافي أُطلق عليهم، وهم لم يطلبوه ولم يمنعوه لأنه لفظ قرآني شريف في الأصل. ومع ذلك اعتبره السكران قسيما لأهل السنة والجماعة، بل تزايدت عنده إيراد هذه المفردة (أهل السنة والجماعة) بشكل ملفت، وبطريقة غير صحيحة،
(1)
لابد أن نعترف في البداية بأن هناك بالفعل نفرا من الناس ممن يرفع شعار الإصلاح، ويتخذ موقفا عدائيا وحادا ومتوترا ضد منهج السلف، وليس فقط ضد ممارسات الأتباع والأفراد .. ولكن هذا الهجوم العدائي في الغالب لا يصدر إلا من أصحاب التوجهات العلمانية أو ممن هو خارج الانتماء الإسلامي. أي لا يلتزم بالمرجعية الإسلامية في بناء تصوراته. وهم فئة قليلة ضمن الإصلاحيين، قد يُعدّون على الأصابع إذا لم أكن مبالغا.
وحينما أقول ((قلة يُعدّون على الأصابع))، فلأن أكثر الإصلاحيين العلمانيين الذين يقفون هذا الموقف العدائي والصريح ضد منهج السلف، يحبذون رفع شعار ((الليبرالية)) دون شعار ((الإصلاح)) .. وكلامنا هنا عن الإصلاحيين وليس عن الليبراليين ..
أما الإصلاحيون الإسلاميون، فلا أعرف أحدا منهم يقف ذلك الموقف العدائي الجامح ضد منهج السلف أو حتى ضد الخطاب الشرعي السلفي. نعم؛ هناك من ينتقد ويعترض ويخالف، ولكنه لا يتخذ موقفا عدائيا ضد السلف الصالح أو كارها لهديهم وسنتهم.
ربما قد يختلف البعض معي في هذا الرأي، لكن ينبغي التنبه إلى أنني أفرق بشكل واضح بين الموقف النقدي العلمي الهادئ، والموقف الهجومي التحريضي السافر في عداوته. فالثاني مناوئ بلا شك، وهو موقف التيار الليبرالي والمتأمرك في غالبه، وأما الأول فليس بالضرورة أن يكون مناوئاً. والمشكلة أن بعض الأفاضل لا يفرق بين الموقف العدائي والموقف النقدي أو لا يحب أن يفرق بينهما، فيجعل كلا الفئتين مناوئة للخطاب الشرعي.
نعم هناك فئة من الإصلاحيين الإسلاميين ممن تأثر بالخطاب الشرعي العصراني، وعلى وجه الخصوص خطاب تيار المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ومن نحى نحوه. فصار يذهب إلى أن مرحلة السلف مرحلة زمنية مباركة بلا شك؛ ولكنها تاريخية، أي مرتبطة بظروفها الزمنية، ولا تتضمن بُعدا منهجيا مطلقا صالحا لكل زمان ومكان، وأن الأفضلية الزمنية التي جاءت بها النصوص، إنما هي لاعتبارات سلوكيه وأخلاقية، وليس لاعتبارات منهجية.
بعبارة أخرى: لم تتضمن تلك المرحلة المباركة منهجا له قواعده المنضبطة أو مرجعية منطقية ذات معالم واضحة. هذا الأمر حصل على أيدي العلماء فيما بعد، أي بعد القرون المفضلة. فالمرجعية المعصومة ـ عند هؤلاء إذن ـ منحصرة في الكتاب والسنة فقط. وأما فهم السلف، فما هو إلا فهم بشري من ضمن أفهام كثيرة ومفتوحة عبر الزمن.
وبالتالي، لا تلتزم هذه المدرسة بإطار فهم الصحابة والتابعين وأتباعهم في تلقيهم للوحي وتفسيره. وإن كانوا ينقلون ويستأنسون بكلامهم ونصوصهم، ولكن دون الالتزام بها، فهم عندهم كغيرهم من أئمة المسلمين. باختصار: ليس لإجماعات السلف قداسة عندهم.
هذا الموقف ليس موقفا صراعيا أيديولوجيا متوترا كمواقف التيارات اليسارية أو الليبرالية. وإنما هو موقف منهجي هادئ، يقوم على ((حجج وبرهان))، تحتاج إلى من يناقشها ويرد عليها بهدوء وبموضوعية. وهذه الشبه في الغالب لا تخرج عن كونها امتداد للمدارس الإسلامية في التاريخ، كالمدرسة الكلامية أو مدرسة أهل الرأي المتأخرة المتطرفة وليست الأولى المعتدلة.
لكن ينبغي أن نتنبه أنه ليس كل الإصلاحيين الإسلاميين ينطلقون من هذه الأرضية المنهجية، خاصة الإسلاميين السعوديين الذين تلقوا في الغالب تكوينا شرعيا سلفيا.
إذا سلمنا بهذا التقسيم المبدئي..
فالفئة الأولى لا تعنينا في نقاشنا، أقصد الإصلاحيين الليبراليين، لأننا كلنا متفقون في إثبات مناوئتهم للخطاب الشرعي .. مناوأةً تصل إلى حدّ الوقاحة. ولكنها في الوقت نفسه مناوأة غبية!! وفجة!! وبالتالي لا يمكن أن تجد لنفسها أرضا في الخارطة الثقافية السعودية، ولولا دعم السلطة لها وأصحاب القرار لما شكّلت أي موقع يذكر في خارطتنا الثقافية.
وهذا الذي جعل الإصلاحيين يدركون بأن الاشتغال بمناكفة هذا التيار الليبرالي على حساب معركة العدالة والحقوق وإحلال دولة القانون، هو اشتغال بخلاف الأولى، أو الانشغال بالمهم على حساب الأهم. ولا يعني هذا تضييع المهم أو إهماله كليا، لا بالطبع .. ولكن لا يكون على حساب الأولى والأهم. فدولة العدالة والحقوق والقانون والمؤسسات هي المطلب الملح الآن في الفترة الراهنة عند الإصلاحيين ويجب أن تجيش لها الخطابات والجهود والقدرات، لأن دولة العدالة والقانون هي التي تعبر صدقا عن إرادة الأمة المسلمة. وحين تتحقق إرادة الأمة، فلن يجد الشواذ من مثقفي السلطة وطلاب المنافع والمناصب أرضا في محيطها الثقافي، لأن ذلك المحيط تحكمه المرجعية التي يؤمن بها غالبية المجتمع.
وحين نقول بأن دولة العدالة والحقوق والقانون هي المطلب الملح والمقدم لدى الإصلاحيين، فلا يعني ذلك إهمال العقائد أو التقصير في تعليم الناس أمور دينهم، أو إغفال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. هذا لازم لا يلتزمه الاصلاحيون. إنما هو تشنيع يشنع به خصومهم هداهم الله.
هذا ما يتعلق بالفئة الأولى والتي تتخذ موقفا مناوئا لمنهج السلف.
أما الفئة الثانية: وهي التي تتخذ موقفا نقديا تجاه السلفية، كونها تجعل من نفسها مذهبا أو منهجا له قواعده المنضبطة والمحددة .. فمع أن موقفها هذا موقف باطل مخالف للحق، إلا أن المتابع لكتاباتها لا يجد فيها تلك النزعة العدائية الكارهة لهدي السلف من حيث المبدأ، بل قد يجد فيها أحيانا التعظيم والإجلال بتلك المرحلة المباركة وبأئمتها. والخلل لديها لا يخرج عن كونه خللا منهجيا، سببه في الغالب سوء الفهم، وليس بسبب الخلفيات الأيديولوجية.
ولهذا يبقى ـ هذا التيار ـ تيارا إسلاميا، فيه خير وصلاح كثير، ولديه غيرة على الإسلام وتعظيم للكتاب والسنة وللسلف أيضاً، والمتفق معه على الإسلام أكثر من المختلف فيه، وثمة قضايا منهجية دقيقة ليس من الفقه إثارتها وإشاعتها بين الناس، إلا إذا تمت إشاعتها وإظهارها من قبل ذلك التيار، فحينها يكون البيان بما يقوم به من باب واجب النصيحة.
وهذا يعني أنه لا إشكال ولا عيب في مناقشة أفكار هذا التيار، بل وتنقد وتنقض، ولكن تحت ظلال القاعدة الدينية المحكمة: قاعدة الأخوة في الدين والالتزام بمقتضياتها: كالمحبة والرحمة والرفق واللين.. ولا ينبغي أن تعارض تلك المحكمة ببعض مواقف آحاد السلف التي يستدل بها البعض على الغلظة مطلقا والهجر والزجر ونحو ذلك. لأن تلك المواقف استثناءات خاصة، جاءت في سياقات معينة لها اعتباراتها الشرعية؛ وبالتالي لا ينبغي أن تتحول إلى قاعدة ومنهج. فالأصل في المنهج هو الرفق مع المخالفين من أهل الإسلام، والهجران والزجر والغلظة استثناء.
هذا ما يتعلق بظاهرة نقد السلفية ومناوأتها ..
(2)
ثم إنني أريد هنا أن أشيد بالمقال القيم الذي خطه أخي وصديقي الدكتور الدخيلي، لهدوئه ومنهجيته، وعمقه في استكشاف الخلل المنهجي لدى السكران في التحليل والبحث وتعاطيه مع الأفكار
وأما البيان التوضيحي الذي كتبه أخونا السكران، فمع شكري وتقديري له على شجاعته الأدبية. ومع إيماني بحقه في أن يتحول من الرأي الذي يراه خاطئا إلى الرأي الذي يراه صوابا، ومن حقه أيضاً ألا ننسب إليه ذلك الرأي القديم ولا نحاسبه عليه ما دام أنه قد تحول عنه ... إلا أن مشكلة السكران ليست في هذا النقطة، ليست مشكلته في أن يتحول من موقف إلى موقف آخر ... إنما مشكلته ـ في نظري ـ تبرز من خلال عدة أوجه:
(الأول): هو أن السكران لم يكن يستهدف في هجومه اللاذع، التيار الليبرالي المعادي، ولا التيار العصراني الناقد، وإنما كان يستهدف للأسف من هم أقرب إليه من أولئك بكثير .. إخوانه الذين يتبنون خطاب الحضارة والنهضة والإصلاح من منطلقات شرعية وضمن إطار إجماعات السلف .. حيث جعلهم (ظلما أو جهلا) قسيما لأهل السنة والجماعة أو مقابل أهل السنة والجماعة في تقسيمه الرباعي الشهير: (العلماني/ التنويري/ الإصلاحي/ أهل السنة والجماعة)..
مع أن الذين انخرطوا في إصلاح الواقع السياسي للأمة، لم يتسموا بهذا الاسم (الإصلاحيون) حتى يكونوا مقابل أهل السنة، إنما هو لقب إعلامي وثقافي أُطلق عليهم، وهم لم يطلبوه ولم يمنعوه لأنه لفظ قرآني شريف في الأصل. ومع ذلك اعتبره السكران قسيما لأهل السنة والجماعة، بل تزايدت عنده إيراد هذه المفردة (أهل السنة والجماعة) بشكل ملفت، وبطريقة غير صحيحة، وصار يقوم بإشهارها أمام مخالفيه في كل مناسبة وبشكل متكلّف، وفي آراء اجتهادية ليس لأهل السنة فيها قول محكم أو أصل منضبط، وهذا عند التحقيق ليست هي طريقة أهل السنة.
وأذكر هنا كلاما رائعا لشيخ الإسلام ابن تيمية حيث يقول: ’’وقد استعمل طائفةٌ من متكلمة الصفاتية المنتسبين للسنة والجماعة، واعتبر ذلك طائفة من الفقهاء ـ من أصحابنا وغيرهم ـ أنهم يعتبرون مذهب السلف بالفهم، فإذا تحصل لواحدٍ منهم في مسائل من النظر أن هذا هو الموافق للكتاب والسنة، أو لبعض أصول السلف، جعل هذا قولاً للسلف. لأن السلف عنده لا يخرجون عن الكتاب والسنة، فإذا تحقق له جزماً في قولٍ ما أنه موافق للكتاب والسنة جعله قولاً للسلف’’، ثم يقول: ’’وهذا الطريق أصله من كلام طائفةٍ من أهل البدع المنتسبين للسنة والجماعة، ثم دخل على طائفةٍ من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم’’.
(الوجه الثاني): أن السكران لم يناقش إخوانه من منطلق النصيحة والتوجيه والنقد البناء، وإنما من منطلق التصنيف والتحزّب أو منطلق الكشف والفضح عن حقيقتهم، وكأنهم فرقة نابية عن منهج أهل السنة والجماعة أو خصوم للسلفية. ويكفي هنا أن نتذكر مقالته الشهيرة ((سلمان العودة من تلميع الحكومات العلمانية إلى غمز قناة الصحابة))، وأنا هنا لست بصدد الدفاع عن الشيخ سلمان، فله أتباعه وجمهوره الذين يدافعون عنه، بل إنني أختلف مع الشيخ في بعض أطروحاته وآرائه، ولكن اختلافنا معه لم إلى يصل إلى حدّ البغي والافتراء، كما فعل أخونا السكران في هذا المقال، حيث يرى بأن سلمان ((وأنا أنقل هنا كلامه باللفظ)):
1) يغمز قناة الصحابة والعياذ بالله.
2) ويسعى إلى تحريف الشريعة .
3) والتزهيد بفقه السلف.
4) والتبجح بتعليقاته على أحاديث الصحيحين.
5) وأنه ينزعج من هذه المقارنة بين نموذجية عصر الصحابة، وقتامة واقعنا المعاصر، ويحاول أن يقوض هذا الأساس عبر تلميع الواقع الفاسد، والتقليل من شأن الأنموذج الملهم (نموذج الصحابة).
هكذا يقول السكران عن الشيخ سلمان العودة، وأريد هنا أن أكرر التأكيد أن من حق السكران أن ينتقد سلمان العودة أو غيره من الدعاة، ولكن النقد شيء والمناوئة والبغي والافتراء على الدعاة والصالحين شيء آخر ..
ثم يختم مقالته: ((مايهمني أن يعرفه الإخوان هو أن كل ما قاله د.العودة ليس إلا رأس جبل الجليد))، يا الله كل تلك الطوام الخمس ما هي إلا رأس الجليد عند السكران. إذن ما هو الجليد؟!!. ثم يقول: ((وما يخفيه من تحريف الشريعة والتزهيد بفقه السلف أضعاف أضعاف ذلك، لكنه يؤجله لاعتبارات سياسية ودبلوماسية لا تخفى))، هكذا ’’أضعاف أضعاف’’ إنا الله وإنا إليه راجعون. ثم يقول: ((واسألوا جلساءه عن مجالسه الخاصة وما فيها من بجاحة بعض تعليقاته على أحاديث الصحيحين، وتهكمه ببعض فتاوى أئمة السلف الكبار، ولكن لا يمكن أن ننقده نقداً علنياً على ذلك، لأنه لم يصرح بها إلى الآن، وأسأل الله أن يكفيه شر نفسه، ويكفي المسلمين شر صفقاته)).
موضوع سلمان العودة لا يهمني الآن، فلم أذكره هنا إلا كمثال على الدعاة الذين لم يسلموا من جموح السكران غير المبرر.
(الوجه الثالث): أن السكران لديه مشكلة منهجية في التعامل مع المخالفين من إخوانه أهل السنة، ويظهر ذلك جليا حينما قال في بيانه: ((والمراد أن كل من نقدني، وأساء القول فيّ، وخاض في عرضي، بناءً على كلام لي قبل ورقة المآلات، فقد صدق وبرّ وما تجاوز الحق قيد أنملة، بل هو مأجور إن شاء الله)) .. لا أريد أن أقف عند النزعة البكائية في هذا المقطع، إنما أريد أن أبيّن أن الرجل يبدو فعلا ـ هدانا الله وإياه ـ يرى بجواز إساءة القول في المخالفين له!! والخوض في أعراضهم!! وأن من فعل ذلك فقد برّ!! وما تجاوز الحق قيد أنملة!! بل هو مأجور إن شاء الله!!! ... هكذا أنا أفهم من ذلك المقطع البكائي، وأرجو أن يكون فهمي خاطئا، ولكن مقالات السكران للأسف ما زالت تؤكد ذلك الفهم.
وهذا الفهم هو الذي يفسر لنا هجومه واستطالته على إخوانه، لأنهم لم يقتنعوا ببدعة ((أرذلية الدنيا بشكل مطلق)) كما يحاول أن يروج لذلك .. ولأنهم يتعاملون مع المخالفين بطريقة تختلف عن الطريقة السائدة التي يسلكها بعض الشرعيين.. ولأنهم يتعاطون مع الفكر الإنساني بمنهجية نقدية منفتحة تختلف عن منهجية الانكفاء والتقوقع .. ولأنهم يشتغلون بقضايا ومشاريع جديدة كانت منسية لدى الخطاب الشرعي السائد في يوما ما .. ولأنهم يطرحون خطابا شرعيا جديدا غير مألوف حول الديمقراطية والحرية والعدالة والتعايش والتعددية وحقوق الإنسان، بعد أن كان الخطاب الشرعي منعزل عن هذه القضايا والتساؤلات الملحة ومنكفئ في جزئيات الفقه العملي.
نعم؛ ربما يخطئون .. بل سيخطئون قطعا .. لأنهم يخوضون في نوازل بكر .. ليس لهم فيها سابقة إجماع أو أثر .. ولأنهم أيضاً بشر يجتهدون في البحث عن الحق كغيرهم.. وبالتالي يصيبون ويخطئون .. ومن حق السكران حينها أن يناقشهم وينتقدهم فيما يراه خطأ ومخالفا للصواب، ولكن في إطار الإخوة الإسلامية التي تجمع وتقرب وتؤلف، وليس في إطار التحزب والتقسيم والتصنيف وإيغار الصدور.
مشكلة السكران وأشباهه أنهم يزايدون إخوانهم على منهج السلف وعلى تعظيم الأثر، مع أن إخوانهم ينطلقون من نفس المنطلقات التي يؤمن بها السكران (أو بالأصح صار يؤمن بها الآن).
(الوجه الرابع)، وهو المهم في نظري، أن السكران، كما قلت في مقال سابق في مجموعة الأخ العزيز د. عبدالعزيز قاسم، بأن (السكران والنقيدان وجهان لعملة واحدة) .. وهذا الجملة قد أثارت حفيظة بعض الفضلاء، وأولهم الدكتور عبدالعزيز قاسم، وحق لهم ذلك .. فهي عبارة مستفزة بلا شك، وإن كنت حرصت وقتها أن أوضح مقصودي منها، ولكني هنا سأزيد التوضيح أكثر ..
ليس المقصود أن ((السكران والنقيدان وجهان لعملة واحدة))، أنهما على مرتبة واحدة من التدين والصلاح وإتباع الحق، لم أقصد ذلك، وإنما قصدت أنهما وجهان لعقلية واحدة، لنفسية واحدة، وهي النفسية التي لا تستطيع أن تقف إلا في الأطراف، ولا تملك القدرة على الوقوف في منطقة الوسط، بمعنى أنها إذا تحولت من طرف اليسار فإنها لا تتحول إلا إلى طرف اليمين، والعكس صحيح. هذا مشكلة الأطراف يا أصدقاء وهي مشكلة عميقة والكلام فيها طويل.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى؛ هذه العقلية حين تمارس النقد ضد مخالفيها، نجدها محبوسة بهاجس الماضي الذي كانت عليه، فالنقيدان مثلا وكذلك مشاري الذايدي وعبدالله بن بجاد حينما ينتقدون الصحوة أو الخطاب الديني، في تشددها وتحريمها لكل ما يأتي من الغرب وانعزالها عن الواقع وتكفير الناس ونحو ذلك، فهم في الحقيقة إنما ينتقدون ماضيهم وليس الصحوة، ينتقدون تدينهم وخطابهم الذي كانوا عليه في يوما، ولا ينتقدون الخطاب الديني كما هو في واقع الأمر.
كذلك السكران حين ينتقد دعاة الإصلاح والحضارة، فهو في الحقيقة إنما ينتقد ماضيه الذي كان عليه، حينما كان يتخذ موقفا متطرفا في تبنى مشروع المدنية والحضارة والإصلاح، ويتخذ في المقابل موقفا (مناوئا/ أو ناقدا) للخطاب الشرعي السلفي.
مشكلة السكران أنه يتصور بأن كل من تبنى مشروع الخطاب المدني والحضارة والإصلاح، فهو بالضرورة يكون مثله كما كان هو في الماضي. هنا تكمن مشكلة خطاب السكران الجديد. مشكلة السكران أنه يرسم صورة خيالية أو أسطورية في ذهنه بناء على ماضيه ثم يهاجم تلك الصورة. لكن هل تلك الصورة تعبر بالفعل عن واقع موجود، أما أنها تعبر عن تجربة ذاتية مر بها السكران؟!
أختم أخيرا بالخاتمة الذهبية التي ختم بها أخي وصديقي الدكتور الدخيلي، حينما قال: ((نحن بحاجة إلى الدفاع عن الخطاب الشرعي / السلفي ... لكننا بحاجة أيضاً إلى أن لا يتحول الدفاع إلى عملية تخدير تصيبنا بحالة من عدم الإحساس الحقيقي بقصورنا، هذا التخدير الذي قد يسكن الألم، لكنه لا يزيله وإنما يؤجل الإحساس به إلى وقت آخر، حيث تجتمع الآلام علينا دفعة واحدة)).
*العصر