مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
خل الهوى لأناس يعرفون به
من جانب المحراب يبدأ سيرنا (2): يقول تاج الربانيين ابن عطاء الله في مناجاته الربانية:
(..يا من أذاق أحباءه حلاوة مؤانسته فقاموا بين يديه متملقين، ويا من ألبس أولياءه ملابس هيبته فقاموا بعزته مستعزين، أنت الذاكر قبل الذاكرين، وأنت البادي بالإحسان قبل توجه العابدين، وأنت الجواد بالعطاء قبل طلب الطالبين، وأنت الوهاب، ثم لما وهبت لنا من المستقرضين..!)
أيا صاحبي، أما ترى نارهم؟ ...فقال: تريني ما لا أرى
سقاك الغرام ، ولم يسقني...فأبصرت ما لم أكن مبصرا
يقول طبيب القلوب:ابن القيم:
.. في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله. وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته. وفيه حزن: لا يذهبه إلا السرور بمعرفته، وصدق معاملته. وفيه قلق:لا يسكنه إلا الاجتماع عليه، والفرار إليه. وفيه نيران حسرات: لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه،وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه.وفيه طلب شديد لا يقف دون أن يكون هو وحده مطلوبه. وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته، والإنابة إليه، ودوام ذكره، وصدق الإخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة منه أبدا...!
أيتها السعادة والطمأنينة والسكينة:
بحث عنك الملوك في قصورهم فلم يجدوا إلا الغدر والمكر والخيانة والكراهية...وبحث عنك الفلاسفة في برجهم العاجي وجمهوريتهم الأفلاطونية الفاضلة فلم يحصلوا إلا على سراب وتجريد وخيال وأوهام...وبحث عنك الشعراء في غزلهم ببثينى وليلى ومي: فلم يعثروا إلا على وحل وطين، ولوعة وحرقة وجنون...وبحث عنك الأغنياء في قناطيرهم المقنطرة من الذهب والفضة فلم يجدوا إلا القلق والحيرة والشقاء:( تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار تعس عبد القطيفة تعس عبد الخميصة ، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش)..وبحث عنك المغنون والممثلون والمشاهير في وميض الكاميرا وآلات التصوير وهتاف وتصفيق المعجبين فمات الكثير منهم حزنا و كمدا وانتحارا..!
أهل الجنة ليسوا سعداء: ( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) المشاهير هم: أصحاب السيارات الفارهة والبيوت الكبيرة وأرصدة البنوك .. وهم أصحاب الأضواء والشهرة والمعجبين، وفرسان اللقاءات التلفزيونية والمقابلات الصحفية ..
ثم نعجب بعد ذلك إذا علمنا أن كثيراً من المشاهير مصابون باكتئابات مزمنة، وقلق وأمراض نفسية عديدة، أودت بكثير منهم إلى نهايات مأساوية لم يكن الانتحار أكثرها شناعة :
1ـ الحياة أصبحت كئيبة: لا ينسى العالم اسم الروائي الأمريكي الشهير: ( أرنست همنجواي ) الذي حاز بروايته الرائعة ( الشيخ والبحر ) جائزة نوبل للآداب، حيث أصبح بعد ذلك من رواد الأدب العالمي، وبلغت شهرته الآفاق بكتابته للأدب الإنساني الراقي، الذي يصبه في قوالب روائية جميلة، ولكن همنجواي وجد نفسه وحيداً في آخر حياته رغم شهرته الواسعة بين الناس، وبدأ المرض يفتك به، فقرر الخلاص من الحياة بطريقته الخاصة، وذلك عن طريق بندقية قديمة كان يملكها، حيث وجهها إلى رأسه وأطلق النار ليخر صريعاً، وليصحوا العالم صباح أحد أيام 1961 م على خبر انتحار الروائي الأمريكي الشهير .
2 ـ قال للإنسان : دع القلق وابدأ الحياة .. ثم انتحر
وكثير منا يعرف الكاتب الأمريكي : دايل كارينجي:صاحب أروع الكتب في فن التعامل مع الناس، وصاحب أكثر الكتب مبيعاً في العالم، حيث بيعت ملايين النسخ من كتبه، وترجمت إلى أكثر اللغات العالمية، فهو صاحب كتاب [ كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس ] وكتاب: ( دع القلق وابدأ الحياة ).
وقد وضع قواعد رائعة في كيفية طرد القلق والانطلاق في الحياة العامة بكل سعادة وثقة .
ولكن كل ذلك لم يمنع القلق من أن يسيطر على حياة كارينجي، فعصفت الكآبة بحياته، وسادت التعاسة والشقاء أيامه، فقرر هو أيضاً التخلص من حياته عن طريق الانتحار . وكان له ذلك .
3 ـ كذلك الفنان الهولندي الشهير ( فان غوخ ): والذي تباع لوحاته اليوم في مزادات لندن وباريس بملايين الدولارات. وقد بيعت أخيراً لوحته الشهيرة ’’ زهور عباد الشمس ’’ بستين مليون دولار .
وكان قد بدأ حياته قسيساً، ثم تحول إلى الرسم، واحترف هذا الفن حتى أصبح من أبرز الأسماء اللامعة عالمياً في مجال الفن التشكيلي، لكن ذلك لم يحقق له السعادة التي كان يطلبها ويتمناها، وأراد أن يضع حداً للشقاء النفسي الذي كان يعانيه، وكان ذلك في يوم 29 يوليو 1980 م، حيث أمسك مسدسه وأطلق على نفسه الرصاص ليموت بعد ذلك بيومين، ووضعت زهور عباد الشمس التي كان يرسمها على قبره.
4 ـ وفي العالم العربي هناك العديد من الأسماء الشهيرة التي أنهت حياتها بالانتحار بسبب الخواء النفسي التي كانت تعانيه .. نذكر من أشهرها الكاتب المصري : إسماعيل أدهم: ذلك الشاب الذي حصل على الدكتوراه في الرياضيات من جامعة موسكو أيام فورة الشيوعية الماركسية .
لذلك فعندما رجع إلى بلاده كان قد امتلئ بالنظريات الماركسية حول الحياة والكون والتاريخ، وألف فيها عدداً من الكتب كان أشهرها كتابه [ لماذا أنا ملحد ] الذي أثار ضجة كبرى في الساحة الثقافية آنذاك .
وكان إسماعيل أدهم، يجيد عدداً من اللغات، وله كثير من الدراسات والكتب والبحوث، لكنه كره الحياة التي لا تنتهي إلى شيء .. فكانت النهاية .. !! ففي يوم 23 يوليو 1940 هـ فوجئت الأوساط العلمية والثقافية بخبر انتحار الدكتور إسماعيل أدهم بإلقاء نفسه في البحر على شاطئ الإسكندرية، حيث وجدت جثته، ووجدت في ملابسه رسالة تؤكد انتحاره بسبب سآمة من الحياة .
5 ـ أما الشاعر اللبناني : خليل حاوي: فقد اختار نفس النهاية، فبعد ما سمع وهو في منفاه في استراليا بخبر اجتياح الجيش الإسرائيلي لجنوب لبنان وحصاره لبيروت عام 1982 م أصابه حزن عميق، وساده القنوط، فقرر الانتحار لإنهاء حياة العذاب التي كان يعانيها .. وأطلق الرصاص على نفسه .
6 ـ كريستينان أوناسيس: كانت من الأسماء اللامعة قبل عقود من الزمن:
فهي ابنة الملياردير اليوناني أوناسيس صاحب الجزر والأساطيل البحرية والطائرات والمليارات، الذي يعد من أكبر أثرياء العالم .. ولأن كريستينان وريثته الوحيدة فقد ورثت عن أبيها كل ثروته الهائلة، إلا أن ذلك لم يحقق لها السعادة التي تبحث عنها، فقد تزوجت عدداً من المرات، وكان زواجها الأخير من أحد الشيوعين، حيث سئمت حياة الترف والثروة، وذهبت لتعيش مع زوجها في منزل متهالك في أحد أحياء موسكو الفقيرة، إلا أن الفشل لاحقها في هذا الزواج أيضاً، ففارقت زوجها بعد أن أصيبت باكتئاب مزمن وحزن مرضي متصل، ولم تستطع الثروة والمال أن تحقق لها أبسط معاني السعادة الإنسانية، وأقل درجات الرضا والطمأنينة، فقررت الانتحار . ووجدت ميتة على أحد السواحل الأرجنتينية، بعدما ابتلعت عدداً كبيراً من الحبوب المنومة، وكان عمرها آنذاك سبعة وثلاثين عاماً فقط .
7 ـ داليدا قبل أن تنتحر : الحياة لا تحتمل .. سامحوني ..!
نفس النهاية اختارتها المغنية العربية : داليدا :
خرجت داليدا من أحد الأحياء الشعبية في القاهرة لتسافر إلى فرنسا عام 1956 م، وحققت هناك شهرة واسعة لم تصل إليها أي مغنية عربية من قبل، وباعت على مدى عشرين عاماً ما يزيد على 85 مليون شريط لـ 600 أغنية بثمان لغات، وحصدت الكثير من الجوائز والأوسمة العالمية، لكنها مع ذلك ضاقت بالحياة، وسئمت الأضواء، واستسلمت لليأس، وأرادت النهاية، حيث استيقظ العالم في أحد أيام 1987 م على خبر انتحار المغنية داليدا لالتهامها عدداً كبيراً من الأقراص المنومة، ووجدت بجانبها رسالة تقول فيها ’’ الحياة لا تحتمل .. سامحوني ’’ .
8 ـ ولا ننسى : مارلين مونرو:
نجمة السينما الأمريكية الأكثر شهرة عالمياً، تلك التي تربعت على عرش السينما العالمية سنين طويلة، ودخلت البيت الأبيض بارتباطها بعلاقات محرمة مع الرئيس الأمريكي جون كيندي ومع أخيه روبرت .... وحتى اليوم : ما زال الإعلام يتكلم عنها في كل ذكرى لوفاتها، وما زالت كثير من صورها تباع حتى اليوم بالملايين، حتى صارت أشبه بالأسطورة السينمائية التي يمجدها الغرب في كل مناسبة .. لكن مارلين مونرو رغم شهرتها الواسعة عالمياً كانت غير سعيدة، وصرحت بذلك عدداً من المرات . وكانت مصابة بقلق حاد وكآبة مستمرة، بل أصيبت في آخر أيامها بالهستيريا . ولم تطق ذلك العذاب .. وبعد أيام صعق المجتمع الأمريكي بخبر انتحار مارلين مونرو نجمة السينما الأمريكية وهي أوج شهرتها، وذلك بالتهامها الكثير من الحبوب المنومة .
9 ـ الكثير من الأسماء يمكن إضافتها إلى هذه القافلة البائسة، مثل الروائية :الإنجليزية الشهيرة : فرجينيا وولف : حيث أخذت طريقها في البحر ووضعت حجراً ثقيلاً في ملابسها، وألقت بنفسها في البحر، ولم تكتشف جثتها إلا بعد ثلاثة أيام، وكانت قد تركت لزوجها رسالة تقول فيها : ’’ سأفعل ما أراه أفضل .
10 ـ أيضاً الدكتورة : درية شفيق : التي حصلت على الدكتوراه من باريس، وأسست أول حزب نسائي في مصر، وأصدرت عدداً من المجلات، وقادت الثورات والمظاهرات المطالبة بتحرير المرأة، ثم كانت نهايتها بأن ألقت من شقتها في الدور السادس .
يقول ابن القيم:.. وهل النعيم إلا نعيم القلب وهل العذاب إلا عذاب القلب، وأي عذاب أشد من الخوف والهم والحزن وضيق الصدر وإعراضه عن الله والدار الآخرة وتعلقه بغير الله وانقطاعه عن الله بكل واد منه شعبة وكل شيء تعلق به وأحبه من دون الله فانه يسومه سوء العذاب فكل من أحب شيئا غير الله عذب به ثلاث مرات :
1- في هذه الدار فهو يعذب به قبل حصوله حتى يحصل..
2- فإذا حصل عذب به حال حصوله بالخوف من سلبه وفواته والتنغيص والتنكيد عليه وأنواع المعارضات..
3- فإذا سلبه اشتد عذابه عليه..!
فهذه ثلاثة أنواع من العذاب في هذه الدار ..وأما في البرزخ :فعذاب يقارنه ألم الفراق الذي لا يرجي عوده ،وألم فوات ما فاته من النعيم العظيم باشتغاله بضده وألم الحجاب عن الله وألم الحسرة التي تقطع الأكباد فالهم والغم والحسرة والحزن تعمل في نفوسهم نظير ما تعمل الهوام والديدان في أبدانهم بل عملها في النفوس دائم مستمر حتى يردها الله إلى أجسادها فحينئذ ينتقل العذاب إلى نوع هو أدهى وأمر..!


فالسعادة لا تشترى بالمال ولا بالشهرة إنما السعادة الحقيقة تكون بمحبة الله والإقبال عليه والانكسار بين يديه : مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[سورة النحل:16ل]. (..يوم ينتهي الحب يقع الهجر والقطيعة في العالم ، وسوء الظن والريبة في الأنفس ، والانقباض والعبوس في الوجوه ، يوم ينتهي الحب لا يفهم الطالب كلام معلمه العربي المبين ، ولا تذعن المرأة لزوجها ولو سألها شربة ماء ، ولا يحنو الأب على ابنه ولو كان في شدق الأسد ، يوم ينتهي الحب تهجر النحلة الزهر ، والعصفور الروض ، والحمام الغدير ، يوم ينتهي الحب تقوم الحروب ، ويشتعل القتال ، وتدمر القلاع ، وتدك الحصون ، وتذهب الأنفس والأموال ، ويوم ينتهي الحب تصبح الدنيا قاعا صفصفاً ، والوثائق صحفاً فارغة ، والبراهين أساطير ، والمثل ترهات ! . لا حياة إلا بالحب ، ولا عيش إلا بالحب ، لا بقاء إلا بالحب...!).
جنة المؤمن في محرابه:
وجدها في ظلال الأسحار والدمع المدرار (والذين آمنوا أشد حبا لله)...ووجدها الداعية وهو يعيش مع (جماعة من نوازع القبائل يجتمعون على ذكر الله فينتقونه كما ينتقي آكل التمر أطايبه)...(أين المتحابون في جلالي اليوم أظلهم في ظلي لا ظل إلا ظلي)..(المتحابون في الله على منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء).. أيها الحب الطاهر:لقد جمعت بين سلمان الفارسي-(سلمان منا أهل البيت)-...وصهيب الرومي...وبلال الحبشي:(بلال سيدنا واعتقه سيدنا)-..وأبو بكر العربي...رضي الله عنهم جميعا..: ( إذا أحببت شممت عطر الزهر ، ولمست لين الحرير ، وذقت حلاوة العسل ، ووجدت برد العافية ، وحصلت أشرف العلوم ، وعرفت أسرار الأشياء.. بالحب يثور النائم من لحافه الدافئ ، وفراشه الوثير لصلاة الفجر ، بالحب يتقدم المبارز إلى الموت مستثقلا الحياة ، بالحب تدمع العين ، ويحزن القلب ، ولا يقال إلا ما يرضي الرب ، الحب كالكهرباء في التيار يلمس الأسلاك فإذا النور ، ويصل الأجسام فإذا الدفء ، ويباشر المادة فإذا الإشعاع ، الحب كالجاذبية به يتحرك الفلك ، وتتصاحب الكواكب ، وتتآلف المجموعة الشمسية ، فلا يقع بينهما خصام ولا قتال ، بالحب تتآخى الشموس في المجرة فلا صدام هناك..!).
هؤلاء هم السعداء حقا:قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لولا ثلاث لما أحببت البقاء : لولا أن أحمل على جياد الخيل في سبيل الله ومكابدة الليل ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتقي أطايب التمر.. وقال معاذ رضي الله عنه عند موته : اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء لجري الأنهار ولا لغرس الأشجار ولا لنكح الأزواج ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الليل ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر..!..
أي نعيم أحلى من هذا النعيم؟!، هناك نعيم من يرقص قلبه طرباً وفرحاً وأنساً بربه واشتياقاً إليه وارتياحاً بحبه وطمأنينة بذكره حتى يقول بعضهم في حال نزعه: واطرباه..
ويقول الآخر: إن كان أهل الجنة في مثل هذا الحال إنهم لفي عيش طيب..!
ويقول الآخر: مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا لذيذ العيش فيها وما ذاقوا أطيب ما فيها ..!
ويقول الآخر: لو علم الملوك ..وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف ...
ويقول الآخر:إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة..!..
*ينابيع
أضافة تعليق