مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
نعم سنفرح بالعيد
جاء العيد ونحن بصدد حاضر أليم تعيشه أمتنا، ومستقبل قاتم ينتظرها، وعدو غاشم يكيد لها، ومؤامرات تحاك لها ليلا ونهارا حتى من أبناء المسلمين، وتخلي الكثيرين عن واجباتهم نتيجة الانشغال بهموم الحياة وذوبانهم في بحارها، وانصراف المؤسسات التربوية والدينية والإعلامية عن واجبها تجاه الشباب الذي تاه وضل، وصار لا يدري لماذا يعيش، ولا حتى كيف يعيش.

لكننا سنفرح بالعيد برغم كل ما ذكرناه من واقع، وبرغم سعي الكثيرين للتطبيع مع عدو أمتنا وديننا، والتنازل له عن أراضينا ومقدساتنا ومواردنا، والتآمر على البقية الصامدة المرابطة حول الأقصى الشريف.

سنفرح بالعيد برغم حرص عدونا على نشر العداوة وإشعال الحروب بين الفرق الإسلامية المختلفة في كل الأقطار الإسلامية؛ ليجعل بأسهم بينهم شديدًا، لإيمانه أنه لا يقطع الشجرة إلا فرع منها؛ ولأنه يعرف أن الخلافة الراشدة ما زالت إلا بسبب الفتنة التي أحدثها أذياله في معركتي الجمل وصفين، وأن الروم ما تمكنوا من التوغل في الثغور الشامية مع بداية العصر العباسي الثاني إلا بعد تناحر الحمدانيين والإخشيديين، وأن القدس ما احتلت قديما إلا بسبب التنازع عليها بين السلاجقة والفاطميين، وأن الخلافة العثمانية ما كانت لتسقط حديثا إلا بسبب الصراع بين العرب والترك، وأن فلسطين ما اغتصبت حديثا إلا بسبب اختلاف قلوب من بيده مقاليد الأمور، ولن تدوم لليهود إلا إذا بقي العرب متشرذمين، كل ذلك يعرفه عدونا بعد دراسة عميقة لتاريخنا.

سنفرح بالعيد برغم عجز علماء أمتنا عن القيام بأي دور يخفف من أزماتها المتعددة، وتأخرهم عن التناصح والترابط والاعتصام والتخلص من الذاتية، والتجرد لله ولو إلى حين.

سنفرح بالعيد برغم تراجع بعض الحركات الإسلامية التي كان يعول عليها في إيقاظ الأمة ونهضتها عن القيام بمهامها ودخولها في حلبة الصراع السياسي العقيم، وصارت تتراجع يومًا بعد يوم عن مبادئها من أجل أن تُرضي الآخرين لتأييدها..

سنفرح بالعيد رغم عدم تقدير بعض ولاة الأمور لخطورة المرحلة التي نمر بها، وأنها تحتاج للتضحية وتضافر الجهود ومراجعة الذات من أجل التغلب عليها، وفي ذلك راحة وسعادة للراعي والرعية على السواء، وإلا فالطوفان ـ سلمنا الله جميعا ـ عند نزوله لا يفرق بين من في القمة ومن في القاع، وإن بلغ البعض سدة الجبال، كما قال نوح عليه السلام : {لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم}.

نعم سنفرح بالعيد برغم تباطؤ النصر والفرج الذي ننتظره، وانصراف الناس عن طريقه بعد أن طال عليهم العهد..

سنفرح بالعيد برغم السنين العجاف التي أهلت علينا بالغلاء الذي كاد يطحن الملايين من أمتنا..

سنفرح بالعيد برغم عجزنا عن توفير أدنى احتياجاتنا المعيشية من مأكل وملبس ومسكن دون أن نعتمد على غيرنا، مع ما نملكه من سائر المواد الخام اللازمة للصناعة، وملايين الأيدي العاملة، والمساحات الزراعية الشاسعة، وموارد المياه العديدة، فضلا عن مؤسسات التعليم التي تستنزف المليارات شهريا.

اليأس ليس من أخلاقنا

نعم سنفرح بالعيد؛ لأن اليأس ليس من أخلاقنا ولا من طبعنا -نحن المسلمين- ولأن الله سبحانه وتعالى قال: {لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} (يوسف : 37).

نعم لن نيأس ولن نضجر ولن نملَّ من طول الطريق بعد أن رأينا ما قاله رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم لمن شكوا له المحن قائلين: ألا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا؟ قَالَ: ’’كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ اللهُ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لا يَخَافُ إِلا اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ’’.(1)

وقد حدث ذلك، وعاشه الناس بعد أن صارت اليمن جزءًا من الدولة الإسلامية.

وقال لزيد بن حارثة وهو مطارد بين الطائف ومكة لا يجد حتى من يساعده في العودة إلى بيته: ’’إنّ اللّهَ جَاعِلٌ لِمَا تَرَى فَرَجًا وَمَخْرَجًا، وَإِنّ اللّهَ نَاصِرٌ دِينَهُ وَمُظْهِرٌ نَبِيّهُ’’.(2) ولم تمض غير سنين قليلة حتى تغلب المسلمون على جل ممالك الفرس والروم، وأظهر الله الإسلام بها على غيره من الأديان.

بل قال لبني بكر بن وائل وهو يطوف وحده على وفود الحجيج بمكة باحثا عمن يحمله لبلاغ رسالة ربه: ’’أرأيتم إن لم تلبثوا إلا يسيرًا حتى يمنحكم الله بلادهم وأموالهم، أتسبحون الله وتقدسونه؟’’، فقال له أحدهم وكأنه ذهل لما سمع هذا الكلام: اللهم وإن ذلك لك يا أخا قريش؟! قال: ’’نعم’’.(3) ولم يمر غير أعوام حتى صار المثنى بن حارثة -أحد هؤلاء المتعجبين من نبوءته- يتوغل بهم في عمق فارس يفتح منها المدينة تلو الأخرى لا يصده عن ذلك صادّ.

وقال لقريش وهو يدعوهم إلى الإسلام: ’’كلمة واحدة تعطونها تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم’’(4)، وصدق الواقع قوله، فما إن اتسعت رقعة الإسلام حتى صار ذراري هؤلاء أمراء وقادة على بلاد العرب وما فتح من ممالك العجم، وفتحت عليهم الدنيا بكنوزها، وما صرفوا عن مناصبهم إلا بعد أن بدلوا وغيروا، فنزعت الإمارة منهم ومن سائر قريش.

وبقيت بشارة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لنا بانتشار نور الإسلام في العالم أجمع في قوله: ’’لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الإِسْلامَ وَذُلا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ’’(5)، وهذا ما ننتظره إن شاء الله تعالى.

ولمَِ لا نفرح وهذا يوم عرفة قد جاء ليقرب ذلك بعد أن جمع المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها على اختلاف أجناسهم وألوانهم وألسنتهم وتفرق أوطانهم وبُعد مساكنهم، وكأنه يقول لمن يسعى لفرقتهم وتشتيت شملهم، وينشر بينهم العداوة، ويجعل بأسهم بينهم شديدا ها أنا قد جمعتهم في صعيد واحد، وفي يوم واحد، وبلسان واحد، الكل يهتف أن ’’لبيك اللهم لبيك! لبيك لا شريك لك لبيك! إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك!’’.

ولمَ لا نفرح وهذا العيد قد جاء ليذكرنا بإبراهيم ـ عليه السلام ـ الذي تخلى عنه النصير والمعين حتى إذا كان وحده أمام حكم القتل حرقا تدخلت عناية السماء، وجعلت النار بردا وسلاما عليه فاستجم واستراح من شرورهم فترة بقائه فيها، ووقف بعد ذلك ومعه عناية ربه أمام طغيان الملك الذي حاجه حتى أبهته وأفحمه، ورسّخ لنا الحنيفية السمحاء، وفي ذلك بشارة لنا أنه يوم أن نفقد النصير في الدنيا وتنهار قوتنا أمام عدونا بما أوتي من بطش وجبروت سيتنزل الله علينا بنصره وتأييده، كما قال سبحانه وتعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ ولا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} ( سورة يوسف: 110).

التأريخ لحظة الصفر!

سيتحقق النصر والتمكين إن شاء الله لا محالة؛ لأنه موعود الله الذي قال سبحانه وتعالى عنه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} (النور : 55).

وما دام الله لا يخلف وعده فما بقي منا إلا أن نراجع أنفسنا، وأن نلزم عبادته سبحانه، وأن نصلح من عقيدتنا، ولا نئوّل أحكام الإسلام بما يُرضي عدونا، ونترخص فيما لا يرضيه؛ لأن هذا هو شرط تحقيق النصر والتمكين في الأرض كما جاء في قوله تعالى: {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا..} (النور : 55).

وأن نكون كذلك على استعداد لأن نضحي بكل شيء في سبيل تحقق النصر إذا تطلب الأمر ذلك، ولو بأغلى ما نملك، كما فعل أبونا إبراهيم عليه السلام الذي لم يتردد لحظة في أن يقدم ابنه وهو في ريعان شبابه فداء لله سبحانه وتعالى لما جاءته الرؤيا بذلك.

وأن ندحر الشيطان ونرجمه إذا ما حاول أن يثنينا قليلا عن الوفاء بذلك، كما فعل إبراهيم عليه السلام الذي انهال عليه رجما بما معه من حصى لما حاول أن يثنيه عن عزمه في الأماكن المعروفة بالجمرات بـ ’’منى’’ الآن.

وأن نبذل ما في وسعنا لنعذر إلى الله؛ لأن تأخر النصر والتمكين الذي وعدنا الله به سببه -والله أعلم- أن المسلمين لم يُفرغوا بعد كل ما في جعبتهم ليُنصروا، أو أن أعداءهم لم تقم عليهم الحجة بالتبليغ فتتحقق فيهم سنة الذين خلوا من قبل.

لنسرع إذن ونستفرغ ما عندنا من جهد حتى إذا ما دعونا الله بدعوة نوح عليه السلام {أني مغلوب فانتصر} لبّى الله دعاءنا.

ولطالما علمتنا حوادث التاريخ أن لحظة الصفر (الهيمنة الكاملة للعدو) هي اللحظة التي يعقبها العد التصاعدي نحو النصر والتمكين، حدث ذلك يوم أن قر قرار مشركي مكة النهائي على قتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحان وقت التنفيذ فخرج صلى الله عليه وسلم مهاجرا، وأعقب ذلك تكوين دولة الإسلام بالمدينة، وحدث ذلك يوم أن قُتل آخر خلفاء بني العباس وهدمت بغداد ’’حاضرة الإسلام’’؛ إذ أعقب ذلك وفي نفس اليوم ميلاد عثمان بن أرطغرل مؤسس الدولة العثمانية التي مكن الله بها للإسلام في الشرق والغرب، وكأن الله أوجدها لأن دولة بني العباس قد شاخت ليرجع بها للإسلام فتوته.

إذن سنفرح بالعيد!

إننا سنفرح بالعيد وقدومه مهما أحسسنا بضعفنا وقلة حيلتنا، ونكون متفائلين؛ لأن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم علمتنا التفاؤل، فقد هبط وحده من قمة غار حراء مستقبلا تباشير دعوته الأولى ثم تحرك بها بين الناس وحده رويدا رويدا، فلم تلبث أن عمت الجزيرة العربية عند وفاته، ثم عبرت القارات القديمة كلها حتى أعماق الصين والهند وأواسط أوروبا، وأدغال إفريقيا في أقل من قرن مضى على وفاته، ثم ها هي تمتد الآن ليصدق بها ما يقارب المليار ونصف المليار من الخلق في كل قطر من أقطار المعمورة، وما من يوم يمر إلا ونسمع عمن أعلن إسلامه، ما بين طبيب شهير وعالم بارز، ومهندس نابغ، وكاتب قدير، ومفكر كبير، وصار الناس في الشرق والغرب متعطشين لمنهج الإسلام لا يمنعهم من اعتناقه إلا افتقادهم لمن يرشدهم إليه؛ مما جعل زعماء الملل الأخرى ينتفضون خوفا على معاقلهم، ويصرحون على الملأ أنهم يخشون من أن تتحول أوروبا يوما ما إلى الإسلام، فأي شيء يبعث على الأمل أكثر من ذلك؟!

المراجع:

1. رواه البخاري في علامات النبوة.

2. زاد المعاد: ج 3 / ص 28.

3. عيون الأثر: ج1 ص 257.

4. السيرة النبوية لابن كثير ج2 ص 124.

5. مسند أحمد: 16344.


--------------------------------------------------------------------------------

دكتوراة في التاريخ الإسلامي / كلية دار العلوم جامعة القاهرة


أضافة تعليق