ليس من الواضح ما إن كان النظام العربي الرسمي سيستعيد عافيته قريباً ويعود رقماً رئيسياً في التدافعات الإقليمية. ولكن الواضح أن لا إيران ولا تركيا، حتى وإن تغير النظام الحاكم في أي منهما أو كليهما، سينسحب من مسرح التدافعات قريباً. تعمل تركيا بجهد بالغ لبناء علاقات صحية، بل وتحالفية مع إيران؛ وليس ثمة شك في أن تركيا تتمتع بموقف داخلي وإقليمي ودولي يفوق الموقف الإيراني؛ مما يؤهلها بالتأكيد لتقديم مساعدة أكبر للجارة الإسلامية.
أثارت الزيارة الحافلة التي قام بها رئيس الحكومة التركية، الطيب رجب إردوغان، لطهران على رأس وفد كبير، الجدل من جديد حول تركيا وإيران؛ دور كل منهما الإقليمي، شروط هذا الدور، علاقته بالمنطقة العربية، واحتمالات التنافس والتحالف بين الدولتين. أحد أسباب هذا الجدل، بالتأكيد، تراجع العمل السياسي العربي، إقليمياً ودولياً، سيما دور الدول الرئيسية،مثل مصر والسعودية والجزائر، وانكفاء هذه الدول على نفسها. السبب الآخر يتعلق بلا شك بالجدل الطائفي الكبير الذي شهدته الساحة العربية منذ غزو العراق واحتلاله، بعد أن أنتج الاحتلال نظام حكم عراقي طائفي، مؤيداً من الجمهورية الإسلامية في إيران.
الشعور السني بالخلل، أدى إلى تخيل سياسة إيراني تهدد المصالح العربية والوجود الإسلامي السني. للحظة ما، وحتى على مستوى دول عربية رئيسية، نظر إلى الدور التركي بأنه مصدر توازن محتمل للجار الإيراني. ولكن هناك سبباً آخر لهذا الجدل لا يقل أهمية عن الأسباب السابقة، وهو ذلك الخاص بالتغيير النوعي في السياسة الخارجية التركية، واقترابها الحثيث من تصور العرب الجمعي لحقوقهم ومصالحهم، سواء عندما رفض البرلمان التركي السماح للقوات الأمريكية باستخدام الأراضي التركية لغزو العراق، أو عندما ثارت ثائرة رئيس الحكومة التركية في وجه الرئيس الإسرائيلي بيريس بسبب الجرائم التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي في حربه على غزة.
لم يعد فهم التغيير المطرد في السياسة الخارجية التركية حكراً على الأكاديميين والمتخصصين. الحديث عن سياسة تركية خارجية متعددة الأبعاد، وعن علاقات تركية بالإقليم خالية كلية من التوتر، وعن تركيا ذات العمق والموقع الاستراتيجيين، وليس تركيا الجسر، بات متداولاً ومعروفاً. ومن الواضح، بالطبع، أن السياسة التركية الفعلية تتبع هذه المرجعية النظرية. ولأن تركيا تطمح إلى تحقيق مثل هذه الأهداف الكبرى لسياستها الخارجية، فإن قادة تركيا الجدد من حزب العدالة والتنمية يقودون حركة إصلاح داخلي غير مسبوقة، وعلى كل المستويات.
تركيا الجديدة تتسم بحيوية اقتصادية هائلة، وبمراجعة العديد من القوانين المقيدة للحريات، وتعيش تركيا مناخاً من الإبداع لم تعرفه منذ قيام الجمهورية. وقد استطاعت حكومة العدالة والتنمية، وبعد مواجهة عقبات ملموسة كادت تطيح بالحياة السياسية المدنية، تقليم أجنحة المؤسسة العسكرية وإعادة التوازن السياسي في البلاد، وللمرة الأولى منذ انقلاب 196، لصالح العملية الانتخابية وإرادة الشعب التركي.
في علاقتهم بالحكم المدني، أصبح الضباط أكثر تواضعاً واهتماماً بمجال عملهم الخاص بالدفاع عن البلاد وحماية أمنها. وبالرغم من أن الجيش لم يزل بطيئاً في قيامه بتطهير صفوفه من الضباط الانقلابيين والمعادين للحياة الديمقراطية، فإن تركيا تحررت أخيراً من شبح الانقلاب العسكري. بيد أن العمل الحثيث، والشجاع بلا شك، الذي تعهدته حكومة إردوغان للتعامل مع المسألة الكردية، يشكل الدليل الأبرز على سعي العدالة والتنمية إلى التعامل الجاد مع الأزمات الداخلية، في موازاة سعيه إلى تعزيز وضع تركيا الإقليمي.
تستبطن السياسة التركية الجديدة تحولاً جوهرياً في الأسس التي انطلقت منها السياسة الخارجية للجمهورية كما وضعها مصطفى كمال في العشرينات من القرن الماضي. لم يبرز مصطفى كمال زعيماً لتركيا الجديدة وسط فراغ، ولا حتى بعد انتصاره في حرب الاستقلال. خلال العقود الأخيرة من عمرها المديد، كان مركز السلطنة العثمانية يموج بالتيارات الفكرية والسياسية؛ وقد واجه مصطفى كمال تيارين رئيسين في لحظات الانعطافة الأولى من السلطنة إلى الجمهورية: تيار الجامعة الإسلامية، الذي أراد تعزيز الخلافة وإعادة بناء الفضاء العثماني؛ وتيار الجامعة التركية، الذي تصور إمكانية وضرورة توحيد الشعوب التركية جميعاً، من غرب الصين إلى البوسفور. ولكن مصطفى كمال رأى أن توازن القوى العالمي، والإقليمي، بعد هزيمة الحرب الأولى الطاحنة، سيجعل أياً من المشروعين مغامرة انتحارية.
تركيا الجمهورية، قال مصطفى كمال، لابد أن تكتفي بما حصلت عليه في نهاية حرب الاستقلال، وأن تعمل بالتالي على إعادة بناء الذات، ضمن توجه غربي عصري جديد، مبتعدة ما أمكن عن مصادر القلق والتوتر والميراث التاريخي في جوارها.
ولم يكن تصميم الجمهورية الحصول على لواء الإسكندرونة نابعاً من توجهات توسعية، بل من اقتناع مصطفى كمال (ووعوده للمجلس الوطني) أن فرنسا استولت على اللواء بعد إعلان الهدنة بين السلطنة والحلفاء.
خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ومنذ السبعينات على وجه الخصوص، بدأت محاولات تركية بطيئة وخجولة للانفتاح على الجوار، مدفوعة بالضرورات الاقتصادية وبإدراك متزايد باستحالة استمرار تجاهل التعقيدات السياسية الإقليمية. ولكن سياسة حكومة العدالة والتنمية لا تمثل قفزة نوعية وحسب، بل وتستند إلى أسس نظرية واضحة.
ومن الصعب، بالطبع، تجاهل المواريث والأبعاد العثمانية في التوجهات الجديدة للسياسة الخارجية التركية. ولكن تفسير هذه الأبعاد بإرجاعها إلى الخلفية الإسلامية لقادة العدالة والتنمية هو تفسير تبسيطي؛ وهو تفسير يتجاهل حقيقة أن المجال العثماني ولد من اعتبارات إستراتيجية وثقافية، وليس من مجرد طموحات قوة توسعية مجردة.
تعيش إيران، من جهة أخرى، تحت ظل نظام حكم إسلامي جمهوري، يرتكز إلى قاعدة أيديولوجية إسلامية.
وإن كان مصطفى كمال قد عمل منذ لحظة تأسيس الجمهورية على كبح كل توجه تركي توسعي، فإن الجمهورية الإسلامية ورثت من البداية إيران ذات توجهات توسعية. باكتساب نظام الحكم وجهه الإسلامي، أصبح لهذه التوجهات حدان: حد قومي جغرافي سياسي، وحد إسلامي.
ثمة تداخل وتقاطع بين توجهات السياسة الخارجية الإيرانية الإقليمية والتوجهات التركية، ولكن الخلافات بينهما تبقى جوهرية. في البداية، وبالرغم من أن إيران تستند إلى أكثر من ربع قرن من السياسة الإسلامية النشطة، وأن ثمة حلفاء أيديولوجيين لها في الجوار، فإن إيران تواجه وضعاً داخلياً قلقاً، ليس فقط ذلك المتعلق بالتدافع الحاد بين ما بات يعرف بالإصلاحيين والمحافظين، ولكن أيضاً، وهذا هو الأخطر، ذلك المتعلق بحقوق وموقع المجموعات القومية والطائفية المختلفة.
تظهر تركيا مرونة متزايدة للتعامل مع المسألتين الكردية والعلوية، بينما يبدو أن المركز الإيراني لم يصل بعد إلى قناعة بفتح ملف الجماعات القومية والطائفية؛ بل ليس من الواضح أن العقل السياسي الإيراني مؤهل لفتح هذا الملف. مهما كان الأمر، فإن الفراغ الذي تركه الانسحاب العربي في الإقليم يفسح المجال لطموحات السياسة الخارجية التركية والإيرانية؛ وهذا بدوره ما يؤسس لاحتمالات التنافس بين الجارتين الكبيرتين. ولكن هذا التنافس ليس تنافساً بين دوافع وأهداف متماثلة. العراق، مثلاً، يعتبر ساحة تنافس رئيسية بين السياستين؛ فالعراق لا يشترك في حدوده مع إيران وتركيا، ولا يضم أقلية كردية قومية نشطة كما إيران وتركيا، وحسب، بل إن كلا البلدين يرى في العراق مجالاً حيوياً على المستويين السياسي والاقتصادي، ومنبعاً لتهديدات محتملة.
سعت إيران، منذ بداية الاحتلال الأمريكي وانهيار الدولة العراقية، إلى تعزيز نفوذها في العراق، ساعدها في ذلك أن القوى الشيعية الموالية لها كانت طرفاً أساسياً في التحالف الذي بنته واشنطن لإطاحة الحكم العراقي واحتلال البلاد. تركيا، من جهتها، بدأت تحركها في العراق مدفوعة بتعقيدات الملف الكردي، وبمشاعر التضامن مع الشعب العراقي. ولكن فشل المشروع الأمريكي، دفع إدارة بوش لقبول دور تركي محدود؛ ثم جاءت إدارة أوباما، لتعطي الأولوية لأفغانستان على العراق، وتفسح المجال بالتالي لدور تركي أوسع في العراق، وفي المنطقة ككل.
المشكلة أن هناك تبايناً واضحاً بين التوجهات الإيرانية والتركية في العراق، وليس مجرد تدافع بين طموحين متوازيين لتعزيز النفوذ. إيران، التي يصعب حتى الآن تحرير سياستها الخارجية من البعد الطائفي، تدعم مشروعاً طائفياً في العراق، (طائفي صريح يمثله المجلس الأعلى وحلفاؤه، أو آخر مقنع، يقوده المالكي) يستهدف بناء عراق يسيطر عليه التشيع السياسي، أو عراق فيدرالي ضعيف ومنقسم على نفسه.
تركيا، من جانب آخر، تقف خلف كل توجه وطني، بما في ذلك التحالف الوطني الواسع الذي نشأ مؤخراً من اتفاق العديد من القوى والشخصيات من كافة المذاهب والتجمعات العرقية. إن من السذاجة، بالطبع، وصف أي من سياسات الدولتين، إيران وتركيا، بالمثالية ونكران الذات؛ كلاهما، بالتأكيد، يسعى إلى تعزيز مصالحه. ولكن عوامل التاريخ والثقافة والإستراتيجية هي التي تضع الأهداف الإيرانية في العراق في إطار يميل نحو الطائفي، والتركية في إطار يميل نحو الوطني.
ليس من الواضح ما إن كان النظام العربي الرسمي سيستعيد عافيته قريباً ويعود رقماً رئيسياً في التدافعات الإقليمية. ولكن الواضح أن لا إيران ولا تركيا، حتى وإن تغير النظام الحاكم في أي منهما أو كليهما، سينسحب من مسرح التدافعات قريباً. تعمل تركيا بجهد بالغ لبناء علاقات صحية، بل وتحالفية مع إيران؛ وليس ثمة شك في أن تركيا تتمتع بموقف داخلي وإقليمي ودولي يفوق الموقف الإيراني؛ مما يؤهلها بالتأكيد لتقديم مساعدة أكبر للجارة الإسلامية.
وربما يوفر تعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين نافذة دبلوماسية أوسع للتفاهم الإقليمي وتجنب اصطدام المصالح، أو لتحويل التدافع إلى صفقات دبلوماسية. ولكن هذا ليس الحل الأفضل والأطول مدى لاحتمالات التنافس والتدافع. الحل أن تتحرر السياسة الإيرانية من الطائفي، أن تعيد النظر في موقعها من المجال الإسلامي ككل، أن ترى نفسها جزءاً لا يتجزأ من أمة إسلامية مترامية الأطراف، لا أكثر ولا أقل من أي من جماعات هذه الأمة، وتخرج نهائياً من الميراث الصفوي الطائفي الذي أثقل كاهل الإيرانيين ودولتهم.
*العصر