كيف نمحو أميتنا مع القرآن؟
عبدالله الصنعاني
لعل أحدا منا لا يجادل البتة الأمة تسحق تحت وطأة أزمات شاملة قد لا يكون للبرء منها أي سبيل فثمة انتكاسات في غير موقع وانهيارات في غير جبهة وبات السقوط قرين كل محاولات النهوض بل إن مطالب النهضة لم تزل في طور الأحلام إن لم يكن الأوهام ومع ذلك فإننا لم نفقد ذلك الوهم أو الحلم وأخذنا في السعي لاستعادة مجدنا المفقود واتخذنا طرائق قددا وسبلا شتى ومع أننا لا نختلف بأن القرآن فيه تبيان لكل شيء وأنه وحي كامل يستجيب لما كان من حالات تاريخية سابقة ويستمر باتجاه المستقبل عبر مختلف العصور بهيمنته على الزمان والمكان ما يمنحه وعيا كاملا للوجود وفي الوقت ذاته نعيش حالة من الاغتراب والاستلاب بين مجتمعنا وثقافتنا وأزمتنا وأنغلقنا على الماضي فرحل عنا العصر وتفلتنا عن اللحاق بالقرآن الذي لم يكن إلا سابقا لذلك العصر بل ولعل علل الأمم السابقة التي حذر منها القرآن قد تسربت إلى العقل المسلم (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني) لا نعلم إلا الهذرمة أو كما يحلو لنا أن نسميها تلاوة أو ترتيلا وساد التقليد وغابت الحضارة وعجز المسلم عن التدبر والتعامل مع الأحداث واتخاذ المواقف واكتشاف سنن الله في الأنفس والأفاق وحسن تسخيرها ومعرفة كيفية التعامل معها والنفاذ من منطوق النص وظاهره إلى مقصده ومرماه .
المسلمون اليوم لا يختلفون على المنهج القرآني في ذاته إنما في منهج الفهم لا سيما وأن كثيرا من نخبنا كما يقول طه عبدالرحمن في’’روح الحداثة : المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية’’ ترى أنه لا سبيل للنهوض كما نهض الآخر إلا باستنساخ تجربته ، ولما كانت تجربة الغرب المتحضر متأسسة على قطع كل صلة بأسباب الماضي – لارتباط هذا الماضي في وعي أهله بالقرون الوسطى وما حَفَلت به من ألوان الضعف والتخلف – كان لابد في نظر هؤلاء من ترسم نفس الطريق وقطع كل سبب أو نسب يصلنا بماضينا وتراثنا . ولم يكن من المستغرب بتاتا أن تتجه الأنظار بداية إلى القرآن الكريم وما نشأ حوله من تراث تفسيري؛ ليكون من جُملة - بل من أولى - ما ينبغي قطع الصلة به ، عن طريق إخضاعه لضروب من القراءات الجديدة التي اتخذت من المناهج النقدية التي أفرزتها التجربة الحداثية الغربية أساسا لها ، من مثل : البنيوية والتفكيكية والحفرية والتأويلية
ومع أننا قد نختلف أو نتفق مع ما يقال فإننا نؤمن إيمانا قاطعا بأن القرآن الكريم كتاب لم يوقف توجيه خطابه إلى المجتمع الإسلامي الأول فقط بل كان إليهم ولغيرهم بل ولكل العوالم أيضا فهو صالح لكل زمان ومكان فنحن مكلفون أن نتدبره ويعيه ونفقهه كما كان الصحابة والسلف وكل من أسلم أيضا مكلفون بتدبر أياته وفقه أحكامه فهو نص موجه لكل أحد ولم يسقط التكليف عن أحد ولذلك فإن الفهم البشري لهذه النصوص سيكون متباينا تبعا للمعطيات العلمية والفروق الموجود بين البشر إضافة الى التغيرات الاجتماعية
قديما وحديثا
جاء في الكشاف أن المسلمين على عهد رسول الله تساءلوا عن معنى ’’الظلم’’ في قوله تعالى: ’’الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم’’، فبين لهم الرسول بأنه ’’الشِّرك’’ في هذا السياق، مستشهدًا بما وَرَدَ في نصيحة لقمان لابنه في القرآن: ’’يا بني لا تشرك بالله إن الشِّرك لظلمٌ عظيم’’
ولذا يمكن القول بأن مسألة فهم القرآن وتأويله وتفسيره لم تكن واحده ولا حتى في العصر الإسلامي الأول وكتب التاريخ والتفسير تؤكد ذلك رغم أن المسلمون من ذلك العصر يدركون أن شرح القرآن ليس أمرًا بسيطًا سهلاً
ومن الضروري هنا الإشارة إلى أن تأويل القرآن قد اكتسب دلالتَه غير الحسنة تدريجيًّا، ومن خلال عمليات التطور والنموِّ الاجتماعيين وما يصاحبهما عادة من صراع فكري وسياسي. ويمكن لنا هنا أن نستشهد ببعض الأقوال التي وَرَدَتْ متناثرةً في كتب التاريخ والتفسير. من هذه الأقوال فقد جاء في الطبري ما يُروى أن علي بن أبي طالب حين رفع الأمويون المصاحف على أسِنَّة الرماح، عملاً بنصيحة الداهية عمرو بن العاص، طالبين الاحتكام إلى القرآن، الأمر الذي أحدث انشقاقًا في صفوف جيشه، فقال علي: ’’بالأمس حاربناهم على تنزيله، واليوم نحاربهم على تأويله’’ – وهي عبارة تحاول أن تلفت أنظار الذين استجابوا للتحكيم إلى أن هؤلاء القوم من بني أمية يحاولون اليوم التلاعب بالتأويل، بعد أن كانوا في سنوات سابقة يرفضون التنزيل. لكن عبارة علي لا تتضمن أية دلالة معيبة لكلمة ’’تأويل’’، التي لم تكن بعدُ قد تحولت إلى مصطلح، بل هي عبارة واصفة لطبيعة الخلاف. والذي يؤكد ذلك أنه هو نفسه الذي قال ردًّا على المحكِّمة كذلك: ’’القرآن بين دفَّتي المصحف لا ينطق وإنما يتكلَّم به الرجال.’’ وهو الذي قال لابن عباس وهو بصدد الحجاج مع الخوارج: ’’لا تحاجهم بالقرآن، فإن القرآن حمَّال أوْجُه، بل حاجهم بالسُّنَّة.’’
وفيما يورده محمد بن جرير الطبري أيضا عن بعض التابعين في شرح الآية السابعة من سورة آل عمران، هناك مَن يقول عن ’’الذين في قلوبهم زيغٌ’’ الذين يتَّبعون المتشابِه أن المقصود هم الخوارج والعبارة، في دلالتها الحرفية، تعني أنهم يقصدون إلى تأويل المتشابِه من القرآن واتِّباعه ’’ابتغاء الفتنة’’، لأن المتشابِه ’’ما يعلم تأويلَه إلا الله’’ بنصِّ الآية المذكورة. ولعلَّنا نعلم جميعًا أن هذه الآية صارت فيما بعد محور جدال عميق بين المفسِّرين من الاتجاهات والفِرَق المختلفة، لا حول تأويلها وشرح معناها فقط، بل حول علامات الوقف والاتصال فيها كذلك.
وإذا كانت التفاسير والتأويلات قد اختلفت بدءًا من القرن الأول الهجري فقد نمت واتسعت في القرون التالية، ليشهد القرن الرابع قمة العداء بين الدولة السنِّية، ممثلةً في دولة الخلافة العباسية، وبين الدولة الشيعية التي امتد سلطانها حتى القاهرة. وهو كذلك القرن الذي كان قد شهد الانتصار السياسي، ممثلاً في تأييد الدولة، بدءًا من عصر المتوكل، للفكر الفقهي السنِّي المحافِظ، بعد أن كانت الدولة في عصر المأمون والمعتصم تتبنَّى الفكرَ الاعتزالي. من الطبيعي أن يكون لهذا المشهد، الذي يصعب فيه التمييز بين السياسي والفكري، أو بين الدنيوي والديني، واغتصبت معاني النص القرآني لصالح الأهداف والأغراض والأهواء ليس الأمر كذلك بل ظهرت المذاهب والطوائف والفرق وكلها مكتسبة لم تأت من السماء مع الخلق. فالذي جاء من السماء هو الدين الأم وعنه انتج البشر مذاهبهم وعن قصد بشري وليس بإرادة السماء ، ورغم أن المذاهب المصنوعة تغطي على الأصيل النصي القرآني ، فإن المذاهب ليس لها أنبياء ولا رسل ولا كتب سماوية خاصة بهم ، لكنهم يحوزون عند المسلمين مكان التقديس كما يقول سيد القمني .
رغم أن المذاهب غير موحى بها وأنها صناعة بشرية محض وتم انتاجها بدوافع بشرية محض ، لاتخاذها مركزاً ومحوراً يدور حوله المجتمع فيكتسب المجتمع المتمذهب استقلالية وتمايز عن أصحاب المذاهب الأخرى ، وعن مجتمعه الأم لتجد من يمارسون وصايتهم ونخبويتهم واستبعادهم لغيرهم مسلمين كانوا أم غير مسلمين ، ليطرحوا علينا مبادرة كلها هواجس أيديولوجية يكمن الداعية القاسي في كل سطر فيها ، باعتقاد عجيب بمهمتهم الرسولية لجعل حياة المسلمين كلها مكرسة من أجل النص ، بينما الصواب هو تكريس النص من أجل أنفسهم وأن النص قد وجد من أجلهم لتيسير معاشهم لا تعقيد هذا المعاش وتفريغه من حوار النص من الإنسان والواقع المتغير ومع الزمان والمكان ليكون نصا حيا في خدمة الإنسان ، وليس العكس ، غير واعين أو واعين أن اختيار أنفسهم حماة للنص وأهدافه هو لون من الاغتصاب العلني لحق كل المسلمين في دينهم وهذا ما غاب عنا خواطرنا ونحن ندعي أننا في زمن العلم لكن وقائع التاريخ تؤكد أن العقول المتحجرة لا يمكن أن تخلو من أي زمن كما هي العقول النابغة فهذا أمير المؤمنين الذي تساءل عمر بن الخطاب عن معنى ’’الأبِّ’’ في قوله تعالى: ’’وفاكهة وأبًّا’’ وبعد توليه الخلافة في عام الرمادة يتعامل مع القرآن والنص القرآني فهو لم يقم حد على الذي سرق ناقة ولم يعط المؤلفة قلوبهم سهمهم مع وجود آيتين صريحتين تحث على الموقفين فقد وعى المقاصد من كل ذلك ، ليكرس النص من أجل تيسير معاش الناس في ظل تلك الأزمة .وهكذا فقد اختلف تعاطيه – رضي الله عنه- مع النص عهده عن النبي ليس ببعيد .
موقفنا كمسلمين مع الأسف لم يعي ولم يستفد من تلك الروح عقلت المقاصد الشرعية من النصوص القرآنية وانقسمنا فكانت آراؤنا كمسلمين بين رأيين إما أن نقول أن عمر قد علق الحد أو عطله أو أن نقول أنه لم يعطل أو يعلق ثم نبحث عن تبرير نحاول أن نقنع أنفسنا به
والى اليوم والمعركة لا تزال فالحداثيون كما يطلق عليهم لهم اجتهاداتهم في هذا المجال فهم يحاولون قراءة القرآن قراءة معاصرة ونكرون على القرآن الظاهرية كما هو حال المعتزلة من قبل الذين ارتأوا التأويل منهجا للتعاطي مع القرآن الكريم وبالمقابل ظل العوام والتقليديون يتعاملون مع القرآن الكريم بظاهر النص بالفهم السلفي والعقل التسليمي وأخذت نار التكفير تشتعل في وحوه هؤلاء وأمثالهم مدوية في الساحة الدينية وبل وقد وصل الأمر إلى الاغتيالات والتصفيات الجسدية لأنهم يسعون للتشكيك وتحريف المعاني القرآنية، وأن قرأءتهم تتناقضها مع الحقائق الشرعية، ومرد ذلك هو عدم احترامها لخصوصيات القرآن الكريم، ومعاملته كسائر النصوص البشرية .
بيتما هم يرون أن القرآن صالح لكل زمن ومكان أي لكل زمن بمعطياته العلمية والتكنولوجية وأن معجزة القرآن هي في استعاب كل العصور بمعطياتها
وهنا وإذا كان ثمة أخطاء في المنهج يمكن أن تلحق بهولاء أو هؤلاء إلا أن المهم أحترام الآخر بكل معنى الكملة وتجنب سوء الظن وتجنب الحكم على النوايا دون دواعٍ قوية. بالإضافة إلى القبول بالاختلاف والتنوع في إطار الوحدة والتأكيد على الالتزام بالفكر الديني عموماً وبالإسلام كدين موحى به بشكلٍ خاص.
والحكم على الإنتاج الفكري لكل شخصية بشكل متكامل دون اجتزاء أو ابتسار.
لعل شهر رمضان القادم فرصة للتأمل في القرآن ومعانيه وقراءته قراءة قديمة ومعاصرة فنحن مأمورون بذلك
*السياسية
عبدالله الصنعاني
لعل أحدا منا لا يجادل البتة الأمة تسحق تحت وطأة أزمات شاملة قد لا يكون للبرء منها أي سبيل فثمة انتكاسات في غير موقع وانهيارات في غير جبهة وبات السقوط قرين كل محاولات النهوض بل إن مطالب النهضة لم تزل في طور الأحلام إن لم يكن الأوهام ومع ذلك فإننا لم نفقد ذلك الوهم أو الحلم وأخذنا في السعي لاستعادة مجدنا المفقود واتخذنا طرائق قددا وسبلا شتى ومع أننا لا نختلف بأن القرآن فيه تبيان لكل شيء وأنه وحي كامل يستجيب لما كان من حالات تاريخية سابقة ويستمر باتجاه المستقبل عبر مختلف العصور بهيمنته على الزمان والمكان ما يمنحه وعيا كاملا للوجود وفي الوقت ذاته نعيش حالة من الاغتراب والاستلاب بين مجتمعنا وثقافتنا وأزمتنا وأنغلقنا على الماضي فرحل عنا العصر وتفلتنا عن اللحاق بالقرآن الذي لم يكن إلا سابقا لذلك العصر بل ولعل علل الأمم السابقة التي حذر منها القرآن قد تسربت إلى العقل المسلم (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني) لا نعلم إلا الهذرمة أو كما يحلو لنا أن نسميها تلاوة أو ترتيلا وساد التقليد وغابت الحضارة وعجز المسلم عن التدبر والتعامل مع الأحداث واتخاذ المواقف واكتشاف سنن الله في الأنفس والأفاق وحسن تسخيرها ومعرفة كيفية التعامل معها والنفاذ من منطوق النص وظاهره إلى مقصده ومرماه .
المسلمون اليوم لا يختلفون على المنهج القرآني في ذاته إنما في منهج الفهم لا سيما وأن كثيرا من نخبنا كما يقول طه عبدالرحمن في’’روح الحداثة : المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية’’ ترى أنه لا سبيل للنهوض كما نهض الآخر إلا باستنساخ تجربته ، ولما كانت تجربة الغرب المتحضر متأسسة على قطع كل صلة بأسباب الماضي – لارتباط هذا الماضي في وعي أهله بالقرون الوسطى وما حَفَلت به من ألوان الضعف والتخلف – كان لابد في نظر هؤلاء من ترسم نفس الطريق وقطع كل سبب أو نسب يصلنا بماضينا وتراثنا . ولم يكن من المستغرب بتاتا أن تتجه الأنظار بداية إلى القرآن الكريم وما نشأ حوله من تراث تفسيري؛ ليكون من جُملة - بل من أولى - ما ينبغي قطع الصلة به ، عن طريق إخضاعه لضروب من القراءات الجديدة التي اتخذت من المناهج النقدية التي أفرزتها التجربة الحداثية الغربية أساسا لها ، من مثل : البنيوية والتفكيكية والحفرية والتأويلية
ومع أننا قد نختلف أو نتفق مع ما يقال فإننا نؤمن إيمانا قاطعا بأن القرآن الكريم كتاب لم يوقف توجيه خطابه إلى المجتمع الإسلامي الأول فقط بل كان إليهم ولغيرهم بل ولكل العوالم أيضا فهو صالح لكل زمان ومكان فنحن مكلفون أن نتدبره ويعيه ونفقهه كما كان الصحابة والسلف وكل من أسلم أيضا مكلفون بتدبر أياته وفقه أحكامه فهو نص موجه لكل أحد ولم يسقط التكليف عن أحد ولذلك فإن الفهم البشري لهذه النصوص سيكون متباينا تبعا للمعطيات العلمية والفروق الموجود بين البشر إضافة الى التغيرات الاجتماعية
قديما وحديثا
جاء في الكشاف أن المسلمين على عهد رسول الله تساءلوا عن معنى ’’الظلم’’ في قوله تعالى: ’’الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم’’، فبين لهم الرسول بأنه ’’الشِّرك’’ في هذا السياق، مستشهدًا بما وَرَدَ في نصيحة لقمان لابنه في القرآن: ’’يا بني لا تشرك بالله إن الشِّرك لظلمٌ عظيم’’
ولذا يمكن القول بأن مسألة فهم القرآن وتأويله وتفسيره لم تكن واحده ولا حتى في العصر الإسلامي الأول وكتب التاريخ والتفسير تؤكد ذلك رغم أن المسلمون من ذلك العصر يدركون أن شرح القرآن ليس أمرًا بسيطًا سهلاً
ومن الضروري هنا الإشارة إلى أن تأويل القرآن قد اكتسب دلالتَه غير الحسنة تدريجيًّا، ومن خلال عمليات التطور والنموِّ الاجتماعيين وما يصاحبهما عادة من صراع فكري وسياسي. ويمكن لنا هنا أن نستشهد ببعض الأقوال التي وَرَدَتْ متناثرةً في كتب التاريخ والتفسير. من هذه الأقوال فقد جاء في الطبري ما يُروى أن علي بن أبي طالب حين رفع الأمويون المصاحف على أسِنَّة الرماح، عملاً بنصيحة الداهية عمرو بن العاص، طالبين الاحتكام إلى القرآن، الأمر الذي أحدث انشقاقًا في صفوف جيشه، فقال علي: ’’بالأمس حاربناهم على تنزيله، واليوم نحاربهم على تأويله’’ – وهي عبارة تحاول أن تلفت أنظار الذين استجابوا للتحكيم إلى أن هؤلاء القوم من بني أمية يحاولون اليوم التلاعب بالتأويل، بعد أن كانوا في سنوات سابقة يرفضون التنزيل. لكن عبارة علي لا تتضمن أية دلالة معيبة لكلمة ’’تأويل’’، التي لم تكن بعدُ قد تحولت إلى مصطلح، بل هي عبارة واصفة لطبيعة الخلاف. والذي يؤكد ذلك أنه هو نفسه الذي قال ردًّا على المحكِّمة كذلك: ’’القرآن بين دفَّتي المصحف لا ينطق وإنما يتكلَّم به الرجال.’’ وهو الذي قال لابن عباس وهو بصدد الحجاج مع الخوارج: ’’لا تحاجهم بالقرآن، فإن القرآن حمَّال أوْجُه، بل حاجهم بالسُّنَّة.’’
وفيما يورده محمد بن جرير الطبري أيضا عن بعض التابعين في شرح الآية السابعة من سورة آل عمران، هناك مَن يقول عن ’’الذين في قلوبهم زيغٌ’’ الذين يتَّبعون المتشابِه أن المقصود هم الخوارج والعبارة، في دلالتها الحرفية، تعني أنهم يقصدون إلى تأويل المتشابِه من القرآن واتِّباعه ’’ابتغاء الفتنة’’، لأن المتشابِه ’’ما يعلم تأويلَه إلا الله’’ بنصِّ الآية المذكورة. ولعلَّنا نعلم جميعًا أن هذه الآية صارت فيما بعد محور جدال عميق بين المفسِّرين من الاتجاهات والفِرَق المختلفة، لا حول تأويلها وشرح معناها فقط، بل حول علامات الوقف والاتصال فيها كذلك.
وإذا كانت التفاسير والتأويلات قد اختلفت بدءًا من القرن الأول الهجري فقد نمت واتسعت في القرون التالية، ليشهد القرن الرابع قمة العداء بين الدولة السنِّية، ممثلةً في دولة الخلافة العباسية، وبين الدولة الشيعية التي امتد سلطانها حتى القاهرة. وهو كذلك القرن الذي كان قد شهد الانتصار السياسي، ممثلاً في تأييد الدولة، بدءًا من عصر المتوكل، للفكر الفقهي السنِّي المحافِظ، بعد أن كانت الدولة في عصر المأمون والمعتصم تتبنَّى الفكرَ الاعتزالي. من الطبيعي أن يكون لهذا المشهد، الذي يصعب فيه التمييز بين السياسي والفكري، أو بين الدنيوي والديني، واغتصبت معاني النص القرآني لصالح الأهداف والأغراض والأهواء ليس الأمر كذلك بل ظهرت المذاهب والطوائف والفرق وكلها مكتسبة لم تأت من السماء مع الخلق. فالذي جاء من السماء هو الدين الأم وعنه انتج البشر مذاهبهم وعن قصد بشري وليس بإرادة السماء ، ورغم أن المذاهب المصنوعة تغطي على الأصيل النصي القرآني ، فإن المذاهب ليس لها أنبياء ولا رسل ولا كتب سماوية خاصة بهم ، لكنهم يحوزون عند المسلمين مكان التقديس كما يقول سيد القمني .
رغم أن المذاهب غير موحى بها وأنها صناعة بشرية محض وتم انتاجها بدوافع بشرية محض ، لاتخاذها مركزاً ومحوراً يدور حوله المجتمع فيكتسب المجتمع المتمذهب استقلالية وتمايز عن أصحاب المذاهب الأخرى ، وعن مجتمعه الأم لتجد من يمارسون وصايتهم ونخبويتهم واستبعادهم لغيرهم مسلمين كانوا أم غير مسلمين ، ليطرحوا علينا مبادرة كلها هواجس أيديولوجية يكمن الداعية القاسي في كل سطر فيها ، باعتقاد عجيب بمهمتهم الرسولية لجعل حياة المسلمين كلها مكرسة من أجل النص ، بينما الصواب هو تكريس النص من أجل أنفسهم وأن النص قد وجد من أجلهم لتيسير معاشهم لا تعقيد هذا المعاش وتفريغه من حوار النص من الإنسان والواقع المتغير ومع الزمان والمكان ليكون نصا حيا في خدمة الإنسان ، وليس العكس ، غير واعين أو واعين أن اختيار أنفسهم حماة للنص وأهدافه هو لون من الاغتصاب العلني لحق كل المسلمين في دينهم وهذا ما غاب عنا خواطرنا ونحن ندعي أننا في زمن العلم لكن وقائع التاريخ تؤكد أن العقول المتحجرة لا يمكن أن تخلو من أي زمن كما هي العقول النابغة فهذا أمير المؤمنين الذي تساءل عمر بن الخطاب عن معنى ’’الأبِّ’’ في قوله تعالى: ’’وفاكهة وأبًّا’’ وبعد توليه الخلافة في عام الرمادة يتعامل مع القرآن والنص القرآني فهو لم يقم حد على الذي سرق ناقة ولم يعط المؤلفة قلوبهم سهمهم مع وجود آيتين صريحتين تحث على الموقفين فقد وعى المقاصد من كل ذلك ، ليكرس النص من أجل تيسير معاش الناس في ظل تلك الأزمة .وهكذا فقد اختلف تعاطيه – رضي الله عنه- مع النص عهده عن النبي ليس ببعيد .
موقفنا كمسلمين مع الأسف لم يعي ولم يستفد من تلك الروح عقلت المقاصد الشرعية من النصوص القرآنية وانقسمنا فكانت آراؤنا كمسلمين بين رأيين إما أن نقول أن عمر قد علق الحد أو عطله أو أن نقول أنه لم يعطل أو يعلق ثم نبحث عن تبرير نحاول أن نقنع أنفسنا به
والى اليوم والمعركة لا تزال فالحداثيون كما يطلق عليهم لهم اجتهاداتهم في هذا المجال فهم يحاولون قراءة القرآن قراءة معاصرة ونكرون على القرآن الظاهرية كما هو حال المعتزلة من قبل الذين ارتأوا التأويل منهجا للتعاطي مع القرآن الكريم وبالمقابل ظل العوام والتقليديون يتعاملون مع القرآن الكريم بظاهر النص بالفهم السلفي والعقل التسليمي وأخذت نار التكفير تشتعل في وحوه هؤلاء وأمثالهم مدوية في الساحة الدينية وبل وقد وصل الأمر إلى الاغتيالات والتصفيات الجسدية لأنهم يسعون للتشكيك وتحريف المعاني القرآنية، وأن قرأءتهم تتناقضها مع الحقائق الشرعية، ومرد ذلك هو عدم احترامها لخصوصيات القرآن الكريم، ومعاملته كسائر النصوص البشرية .
بيتما هم يرون أن القرآن صالح لكل زمن ومكان أي لكل زمن بمعطياته العلمية والتكنولوجية وأن معجزة القرآن هي في استعاب كل العصور بمعطياتها
وهنا وإذا كان ثمة أخطاء في المنهج يمكن أن تلحق بهولاء أو هؤلاء إلا أن المهم أحترام الآخر بكل معنى الكملة وتجنب سوء الظن وتجنب الحكم على النوايا دون دواعٍ قوية. بالإضافة إلى القبول بالاختلاف والتنوع في إطار الوحدة والتأكيد على الالتزام بالفكر الديني عموماً وبالإسلام كدين موحى به بشكلٍ خاص.
والحكم على الإنتاج الفكري لكل شخصية بشكل متكامل دون اجتزاء أو ابتسار.
لعل شهر رمضان القادم فرصة للتأمل في القرآن ومعانيه وقراءته قراءة قديمة ومعاصرة فنحن مأمورون بذلك
*السياسية