الدعوة الإسلامية بين التكوين والتمكين (1)
بقلم عاطف عبد المعز الفيومي
’’...هذه إشارات سريعة للوقوف على واقع الدعوة الإسلامية بين التكوين والتمكين في بداية العصر الإسلامي النبوي الأول ، وكيف استطاع النبي صلى الله عليه وسلم صياغة جيل الدعوة الفريد ، من مرحلة البناء والتكوين ، إلى مرحلة القيادة والتمكين ، إنه منهج فريد حقاً في كل مقوماته وإنجازاته...’’
(الدعوة الإسلامية بين الغربة الأولى والتمكين )
الحمد لله تعالى، والصلاة والسلام على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وآله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد:
فالدعوة الإسلامية خير موضوع ، لأنها دعوة الإسلام وحقيقته الربانية الكبرى ، وهذه الدعوة اليوم أذن الله لها أن تعود من جديد بقوة وإيمان ، لتتبوأ مكانها الأول ، وقيادتها للعالم الذي تنكب الطريق الحق ، وذهب لاهثاً وبقوة وراء الشهوات والنزوات، والكفر والإلحاد ، إلا بقية من أمة الإجابة والهدى أمة الإسلام، التي لم تراوح مكانها بعد لتتسلم مفاتيح القيادة لهذه البشرية اللاهثة خلف السراب ، القابعة خلف الحجب والدنايا، لتدلها على طريق هدايتها وسعادتها ، وسلامتها و أمنها، ..
ولكن ثمة طريق طويل وشاق بين التكوين لهذه القيادة الرائدة للبشرية ، وبين التمكين لها الموعود لها من الله تعالى في الأرض ، نعم بدأت ملامحه تلوح في الآفاق ، ودبت الصحوة الإسلامية في كل مكان ، وبذرت بذورها لكنها لا تزال في حاجة كبيرة إلى العناية والمتابعة ، في حاجة إلى التهذيب والتربية ، وفي حاجة كذلك إلى التصحيح والتقويم ، وفي حاجة إلى البصيرة والتبصير، وكل ذلك لا يكون إلا بجهد الأمة ودعاتها الصادقين ، وجنود الدعوة القائمين بها والمخلصين ، وحماية هذه الدعوة وشبابها من أعدائها المنافقين والمتربصين . ومن هنا كان لزاماً علينا أن نبسط بشيء من الكلام في هذا المحور الكبير الجليل - الدعوة الإسلامية بين التكوين والتمكين - وإنه حقاً لموضوع يحتاج إلى جهود كبيرة ومخلصة ، حتى تؤتى ثمارها بإذن ربها ، ولا بد فيه من الوقوف على أحداث السيرة النبوية أولاً ، وهنا نقف مع عدة محاور في هذا الموضوع الجليل .
أولاً : الدعوة الإسلامية وحقيقتها .
الدعوة الإسلامية : تعني الدعوة إلى الإسلام دين الله الحق ، المنزل من عند الله تعالى، الذي أرسل به جميع أنبيائه ورسله، هداة للعالمين ورحمة لهم ، وعلى رأسهم النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، الذي اصطفاه الله لهذه الدعوة والرسالة الخاتمة لجميع الدعوات والرسالات :’’ وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً..الآية’’ ، والدعوة الإسلامية تعني إقامة شريعة هذا الدين في الأرض، وإقامة عقائده وشرائعه ومبادئه وأخلاقه ، كما أنها تعني صياغة الحياة البشرية كلها بصبغة الربانية والعبودية لله تعالى وحده لا شريك له ، كما قال تعالى:’’ قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين’’، وقال تعالى:’’ أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه...الآية’’ .
نعم صبغة قائمة على عبوديتها لله وحده وإيمانها بكتبه ورسله ، عبودية قائمة على إفراد الخالق المعبود بالخلق والأمر:’’ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين’’ ، عبودية لا تتجه إلا على أصول العقيدة والتوحيد، ولا تقوم إلا على الحق والإيمان ، فلا عقيدة تستقر في القلوب إلا عقيدة الإيمان بالله والإيمان برسله ، والإيمان بكتبه وشرائعه، والإيمان بالبعث بعد الموت والدار الآخرة دار الجزاء الحق ، ولا شريعة تحكم الحياة البشرية وتقوم مسيرتها ، وتهذب أخلاقها ، وتصلح مجتمعاتها، وتبني سياستها واقتصادها ، وحربها وسلمها ، إلا شريعة هذا الدين الحق ؛ لأنه الدين المنزل من عند الله وحده ، فليس من دين غيره يقبل عند الله كما قال تعالى:’’ إن الدين عند الله الإسلام..الآية’’ ، وكما قال أيضاً لمن اعتقد ديناً يدين به سواه :’’ ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين’’ ؛ ولأنه الدين الذي ارتضاه لها :’’ ورضيت لكم الإسلام ديناً..الآية’’ ،’’ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون’’ ؛ ولأنه الدين الذي ضمنه الله تعالى كل جوانب السعادة والهداية في الحياة الدنيا وفي الآخرة :’’ فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى...الآيات’’ ؛ ولأنه دين الحق الجامع لكل مظاهر الحياة البشرية وفق منهج الله تعالى ، الشامل الكامل والصالح لكل زمان ومكان :’’ لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم أفلا تعقلون’’.
فالدعوة الإسلامية دعوة إلى الإسلام نفسه، دعوة إلى إنقاذ البشرية من الهلاك والضياع والتيه في الظلمات، والسير في ركب الشيطان وأتباعه، ودعوة إلى تحقيق سيادة ملك الله في الأرض وفي دنيا الناس، ودعوة إلى قيادة البشرية بمنهج الله تعالى الخالد الباقي إلى يوم الدين ، وإفراده سبحانه بالعبادة والتشريع دون من سواه من المخلوقات ، ودعوة لبناء النفس والإنسان الصالح لإقامة خلافة لله في الأرض ، ودعوة لتحرير النفس البشرية من رق العبودية والذلة لغير خالقها ، تحريرها من سلطان الشيطان عليها بكيده ومكره، وتحريرها من الخوف من ذوي السلطان والطاغوت الذين لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، وتحريرها من تقديس الذات والمال واللهث وراء أعراض الدنيا الفانية القليلة، وتحريرها من الخوف والطمع إلا في خالقها وموجدها سبحانه وتعالى ، ودعوة لتزكية الأنفس والقلوب بمعرفة خالقها والتقرب إليه والطمع في رحمته وجنته ، ودعوة للتصدي للشيطان الرجيم ومكائده وحبائله، والوقوف أمام فساد أتباعه وأعوانه الذين يتملقون البشرية ويلهثون خلف الشهوات الكامنة ، واللذات المحرمة ، ولا يراعون لها أدباً ولا حرمة ولا كرامة ، ودعوة لبناء مجتمع رباني نظيف قائم على رعاية الآداب، وحفظ الحرمات .
إنها ليست دعوة لقمع البشرية واستعبادها ، والسيطرة على مقدرات الشعوب وأقواتها ، ونهب أموالها وممتلكاتها، كما فعلته في القرون المتأخرة الشيوعية الخبيثة المادية ، بأفكارها ومعتقداتها الإلحادية الكافرة ، أو كما تفعله أمريكا وأوربا بمباركة وتخطيط يهودي صليبي ماكر، أو حتى ما يفعله أرباب الأموال والثروات من الهنود واليابانيين والصينيين ، كما أنها ليست دعوة للخروج على حكم الله وشريعته ، بدعاوى التقدم والعلم والانفتاح العلمي أمام البشرية مما يجعلها ليست في حاجة إلى شريعة تحكمها ولا دين ينظم شؤون حياتها ، كما أنها ليست دعوة مستمدة من العقل والفكر البشري القاصر عن إدراك حقائق الأشياء ، ولا الوصول إلى جميع مدلولاتها ليصوغ لها قوانين بشرية في شتى مجالات الحياة ، ثم يحكمها فيها ويقول لها هذا هو القانون العصري الذي يتناسب مع طبيعة هذا الزمان ، كما أنها ليست دعوة أيضاً للتعدي على آداب الإنسان وحياءه وحرماته ، وليست دعوة للفوضى والإباحية والفواحش والمنكرات على حساب شريعة الله والآخرة ، لكنها دعوة ربانية طاهرة ، تسموا بالإنسان إلى حيث هو عند الله من التكريم والرفعة ، وتسموا بأخلاقه وآدابه فيرتفع بإيمانه بالله ، على دنايا النفس وحب الشهوات واللذات التي تقودها كثيراً إلى الهلاك والخسران .
وهذه المعاني كلها جمعتها هذه الدعوة ، التي هي بحق دعوة الإسلام، لأن الإسلام دين الفطرة الذي يولد عليه كل مولود:’’ كل مولود يولد على الفطرة’’ ، وهذه الفطرة تعنى أن الكون والإنسان لم يخلقاً عبثاً ولا هملاً كما أخبر سبحانه وتعالى في كتابه:’’أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق... الآيات’’ ، وكما قال في موضع آخر :’’ أيحسب الإنسان أن يترك سدىً’’ ، بل وبالغ سبحانه في نفي العبث واللهو في الخلق والأمر عن نفسه فقال تعالى:’’ وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ، ما خلقناهما إلا بالحق...الآيات’’، فالكون والإنس والجن ، والنجوم والأفلاك ، والجبال والبحار ، والسماوات والأرض جميعاً ، خلقها الله تعالى لحكمة جليلة، وغاية نبيلة، كما أخبر تعالى:’’ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون’’ ، إنها غاية العبودية لله تعالى وحده لا شريك له ، وهذه غاية الوجود الإنساني والبشري على هذه الأرض ، ومن هنا كانت الدعوة إلى هذه الغاية الربانية الجليلة ، هذه معاني وملامح الدعوة الإسلامية التي أنشأها الله تعالى على يد نبيه ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه الأطهار رضي الله عنهم .
ثانياً : الدعوة الإسلامية بين الغربة الأولى والتمكين .
* نظرة على الواقع الجاهلي: المستقرئ للسيرة النبوية وواقع الجزيرة العربية قبل البعثة المحمدية وبعدها ، يلمح الفارق الكبير بينهما ، ويقف في اندهاش لما يراه من عظمة البناء الإسلامي ، والتعليم النبوي ، الذي أقامه الله تعالى لهذا الدين بالتمكين له ، وجعله منهج حياة إسلامي ، بعد أن ولت الجاهلية على أدبارها بما تحمله من عقائد وشركيات وثنية ، وبما تحمله من تصورات ومعاملات وأخلاق وتشريعات جاهلية ، وكتب السيرة والتاريخ سطر فيها حال الجاهلية كلها ، وما وصلت إليه البشرية آنذاك من انتكاس في الفطرة ، وانحطاط في الإنسانية ، وتقديس للآلهة المصنوعة العاجزة ، لقد عاش العرب في مثالب الجاهلية يرتعون ، وفي ظلمات الشرك والوثنية يعمهون ، وخلف شهواتهم ورذائلهم ينكبون ، هذا هو زمان البعثة المحمدية حقاً جاهلية وأية جاهلية ، وكما قال أبو الحسن الندوي رحمه الله تعالى :’’ بعث محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم والعالم بناء أصيب بزلزال شديد هزه هزاً عنيفاً ، فإذ كل شيء فيه في غير محله ، فمن أساسه ومتاعه ما تكسر ، ومنه ما التوى وانعطف ، ومنه ما فارق محله اللائق به وشغل مكاناً آخر ، ومنه ما تكدس وتكوم .نظر إلى العالم بعين الأنبياء فرأى إنساناً قد هانت عليه إنسانيته ،رآه يسجد للحجر والشجر والنهر ، وكل مالا يملك لنفسه النفع والضر ، رأى إنساناً معكوساً قد فسدت عقليته ، فلم تعد تسيغ البديهيات ، وتعقل الجليات ، وفسد نظام فكره ، فإذا النظري عنده بديهي وبالعكس ، يستريب في موضع الجزم ، ويؤمن في موضع الشك . وفسد ذوقه فصار يستحلي المر ويستطيب الخبيث ، ويستمرئ الوخيم ، وبطل حسه فأصبح لا يبغض العدو الظالم ، ولا يحب الصديق الناصح . رأى مجتمعاً هو الصورة المصغرة للعالم ، كل شيء فيه في غير شكله أو في غير محله ، قد أصبح فيه الذئب راعياً والخصم الجائر قاضياً ، وأصبح المجرم فيه سعيداً حظيا ، والصالح محروماً شقياً لا أنكر في هذا المجتمع من المعروف ، ولا أعرف من المنكر ،ورأى عادات فاسدة تستعجل فناء البشرية ، وتسوقها إلى هوة الهلاك .رأى معاقرة الخمر إلى حد الإدمان ، والخلاعة والفجور إلى حد الاستهتار ، وتعاطي الربا إلى حد الاغتصاب واستلاب الأموال ، ورأى الطمع وشهوة المال إلى حد الجشع والنهامة ورأى القسوة والظلم إلى حد الوأد وقتل الأولاد .رأى ملوكاً اتخذوا بلاد الله دولاً ، وعباد الله خولاً ، ورأى أحباراً ورهباناً أصبحوا أرباباً من دون الله ، يأكلون أموال الناس بالباطل ، ويصدون عن سبيل الله .رأى المواهب البشرية ضائعة أو زائغة لم ينتفع بها ولم توجه التوجيه الصحيح ، فعادت وبالا على أصحابها وعلى الإنسانية ، فقد تحولت الشجاعة فتكاً وهمجية ، والجواد تبذيراً وإسرافاً ، والأنفة حمية جاهلية ، والذكاء شطارة وخديعة ، والعقل وسيلة لابتكار الجنايات ، والإبداع في إرضاء الشهوات . رأى أفراد البشر والهيئات البشرية كخامات لم تحظ بصانع حاذق ، ينتفع بها في هيكل الحضارة ، وكألواح الخشب لم تسعد بنجار يركب منها سفينة تشق بحر الحياة .رأى الأمم قطعاناً من الغنم ليس لها راع ، والسياسة كجمل هائج حبله على غاربه ، والسلطان كسيف في يد سكران يجرح به نفسه ، ويجرح به أولاده وإخوانه ’’ .( ماذا خسر العالم :78،77) .
* ظهور دعوة الإسلام : هذا هو النظام الجاهلي الأول ، الذي كان يعج بالهبوط الإنساني في كل شؤون حياته ، وفقدانه لبدهيات الحياة المستقيمة السوية ، لقد طال الفساد والخواء والضلال كل حياتهم ، واستحال التغيير والإصلاح عند الكثير منهم ، لكن يأبى الله إلا أن يتم نوره على العالمين ، وتشرق أضواء نوره وشريعته على هذه القلوب الغارقة في بحار من شهوات النفس والدنيا الفانية ، والواقعة في مستنقع الرذيلة الآسن ، فكانت البعثة الربانية والمحمدية ، بعثة الإنقاذ والهداية لهذه البشرية الجاهلية التائهة ، كانت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم تغييراً حقيقياً وكبيراً لم يشهد مثله على طول التاريخ البشري كله ، وما هذا إلا لأن مشركي جزيرة العرب جمعت فيهم جل أدواء وأمراض الأمم السابقة لها ، التي لم تجتمع لأمة قبلها فكان الأمر جلل ، كيف الطريق إلى تخليص هؤلاء من جميع هذه الأمراض والأدواء القاتلة ، ولكن شاء الله ذلك ، بحكمته وإرادته وقدرته كما أخبر سبحانه وتعالى بذلك في كتابه العزيز:’’ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون’’ ، فكانت البعثة وبداية تنزل الوحي الرباني بغار حراء على النبي صلى الله عليه وسلم ، وكتب السنة والسير والتاريخ بينت ذلك ودونته ، فقد كان فتحاً من الله تعالى ومنة على هذه البشرية كلها، فقام النبي صلى الله عليه وسلم يدعوا إلى هذه الرسالة الربانية ، فاستجاب له بعض من الناس أول الأمر لتصديقهم له قبل البعثة ويقينهم في دعوته ، فبدأ التكوين النبوي لجيل هذه الدعوة ، ورعيلها الأول من خيار الصحابة رضي الله عنهم وكان ذلك باصطفاء من يدعوهم للإسلام ، وقوة تأثيرهم على أفراد ذلك المجتمع الجاهلي ، يقول أبو الحسن الندوي رحمه الله تعالى:’’ لقد وضع محمد صلى الله عليه وسلم مفتاح النبوة على قفل الطبيعة البشرية فانفتح على ما فيها من كنوز وعجائب وقوى ومواهب ، أصاب الجاهلية في مقتلها أو صميمها ، فأصمى رميته ، وأرغم العالم العنيد بحول الله على أن ينحو نحواً جديداً ويفتتح عهداً سعيداً ، ذلك هو العهد الإسلامي الذي لا يزال غرة في جبين التاريخ ’’(ماذا خسر العالم :82).
* غربة الإسلام الأولى : ولكن مع بزوغ شمس الإسلام للوهلة الأولى وإشراقها على أرض الجزيرة المظلمة القاتمة بالشرك والضلال ، وبزوغ رسالة الدعوة الإسلامية لهداية الخلق إلى توحيد خالقهم وإفراده بالعبادة وحده ، بدأت الجاهلية الأولى بإعلان العداوة لهذا الدين ، وإعلان الحرب الكبيرة على هذه الدعوة الإسلامية الجديدة ، التي تريد هدم صرح الجاهلية ، وهدم كل معتقداتها وتشريعاتها الباطلة وما تحمله من تصورات وأفكار ، فبدأت قريش أولاً وهم أقرب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم بإعلان رفضها وعنادها لهذه الدعوة التي جاء بها ابنها ، مع أنهم جميعاً كان بينهم بقايا من الحنفاء ومن أهل الكتاب أمثال زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل ، ولكن هؤلاء ما كانوا يلقوا شيئاً من أذاهم ولا عنادهم ومكابرتهم ، لكن الموقف هذا تغيراً تماماً تجاه دعوة الإصلاح والهداية دعوة الإسلام ، فشعر المسلمون الذي آمنوا بهذا الدعوة واتبعوا رسولها ، بشيء كبير من الغربة بين هؤلاء القوم فلم يعودوا لهم أولياء ولا أنصاراً ، بل تحولت إلى نوع من العداء والاعتداء على الأموال والأبدان بالتنكيل والتعذيب المفرط .
وبدأ المشركون في طريق جديد من الغضب والمقت على دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه وآمن به وبرسالته ، لقد سلكوا كل طريق لصد الناس عن الإيمان بالله ورسوله ، وما تركوا أسلوباً ولا طريقاً إلا سلكوه ضد دعوة الإسلام ، فمن ذلك : ما جاء في تاريخ السيرة النبوية وكتبها من السخرية والاستهزاء والتكذيب بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم وبأتباعه وأصحابه رضي الله عنهم ، وتصور معي هذه الغربة الموحشة في قلوب الصحابة ، حيث السخرية بهم وبنبيهم ورسالته وكتابه ، والقرآن ذكر شيئاً كثيراً من ذلك كما في قوله تعالى :’’ وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون’’ ( الحجر:6)، وقوله تعالى:’’ وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب ’’(ص:4)، وقوله تعالى:’’ وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون ’’(القلم:51) ، ولا ريب أن كل هذا سنة من سنن الله تعالى التي وقعت في الأمم الخالية قبلنا كما قال تعالى :’’ ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون’’(الأنعام:10) .
ومن ذلك : صد الناس عن سماع القرآن ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم ولما جاء به ، واتهام القرآن والرسول بأنه ساحر وكذاب وكاهن وشاعر إلى آخر هذه السلسلة البائسة من التهم العريضة لأهل الإيمان والحق ، قال تعالى:’’ وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون’’(فصلت:26) ، ومن ذلك : التعذيب والتنكيل لأصحابه والمؤمنين به المتبعين له ، فلقد عذب كثير من الصحابة رضي الله عنهم ، من أمثال سيدنا بلال بن رباح ، وعمار بن ياسر وأبيه وأمه الذين قضوا نحبهم في سبيل الله تعالى ، ومصعب بن عمير ، وصهيب بن سنان الرومي ، وأبو فكيهة أفلح الذي كان مولىً لبني عبد الدار، وخباب بن الأرت ، وزنيرة أمة رومية التي أسلمت ثم عمي بصرها ، ثم شفيت فقالوا سحر محمد ، وأبي بكر الصديق رضي الله عنهم جميعاً وغيرهم كثير ممن آمنوا في طليعة الدعوة الإسلامية.
ومن ذلك أيضاً : إثارة الشبهات الباطلة الكاذبة حول القرآن والرسول ، وأنه ما هو إلا بشر مثلهم ، يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويتزوج وينام ، كما حكى القرآن عنهم ذلك قال تعالى:’’ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْماً وَزُورا ً، وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ، قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيما ً، وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرا ً، أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَّسْحُورا ً، انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً’’ (الفرقان :4-9) ، واتهموه بالسحر والشعر والكهانة والجنون ، وما كل ذلك إلا ليصدوا عنه الناس وعن أتباعه وتصديقه في رسالته ونبوته، وكذبوا البعث بعد الموت والخروج من القبور ، وغير ذلك مما حكاه الله لنا في كتابه العزيز.
ومنها أيضاً: تقديمهم الإغراء والعروض الرخيصة من تولية الملك والسلطان عليهم ، وجلب المال له ولأصحابه وجعلهم من أئمة الثراء والغناء بينهم ، وتزويجه بالنساء والتمتع بهن على الفرش ، وشفائه من أمراضه وعلله إن كان الذي نزل به من الأدواء وأنواع السحر ، حقاً إنه السفه البشري الذي أضل العقول والقلوب عن هذا النور والحق ، وعن هذا البيان الشافي الهادي الواضح ، وعن هذا الإعجاز البين القاهر ، لقد غلب عليهم الكفر والمعاندة للحق ، والجحود والتكذيب مع كمال علمهم بأنه الصادق الأمين ، ولكنها السنن الربانية الجارية في الكون لحكمة يريدها الله تعالى ، للتمكين لهذا الدين ، والتمهيد الرباني لظهوره على سائر الأديان من دونه والنحل الجاهلية المعاندة .
ومنها أيضاً : محاولاتهم المتكررة لقتل النبي صلى الله عليه وسلم ومطاردته ونفيه ، واجتماع قريش على ذلك بغية الوصول إلى شيء من التصدي لمد هذه الدعوة الجديدة عليهم ، وقد أثبت القرآن ذلك ليكون لنا العظة والعبرة من أعداء الدعوة وأصحابها في كل زمان ومكان كما قال تعالى : ’’وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ’’ .
* عوامل الثبات والتمكين : ومع تنوع أساليب الجاهلية في مدافعة الحق والغلبة عليه ، إلا أن الله ثبت نبيه ورسوله ، وثبت الصحابة الذين آمنوا معه ، وصدقوا نبوته ورسالته ، ثبتهم لا لأنهم أصحاب الثروات والأموال ، ولا لأنهم من ذوي الجاه والسلطان ، ولكن ثبتهم لعدة عوامل جليلة وجدت في هذا الجيل المؤمن .
وأولها : أنهم أصحاب عقيدة صادقة ، وإيمان لا تزعزعه الرياح والأعاصير من الشهوات والشبهات ؛ ولأنهم أيقنوا أن هذا الدين هو فطرتهم التي تصرخ في أعماق نفوسهم أنه لا إله إلا الله وحده ، لا يشاركه ولا ينازعه في ربوبيته ولا ألوهيته منازع أو شريك ؛ ولأنهم جعلوا التوحيد طريقهم إلى الله والدار الآخرة ، وجعلوا إفراد الله وحده بالعبادة من الذبح والنذر والطواف وغيرها أحق وأجدر ، لأنه المعبود المستحق لذلك فلا شريك له ، ولا منازع له ، ولا مماثل ولا مكافئ له ؛ وثبتهم لما رأى الإيمان خالط بشاشة قلوبهم فأضاء لها الطريق من جديد إلى الله المعبود سبحانه .
وثانيها : أن الله علم منهم صدق المتابعة والاستجابة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم فلقد آمنوا بالله ورسوله ، وصدقوه وتابعوه بمجرد الوقوف معهم بإثبات حقيقة الباطل الذي عليه أمر الجاهلية ، وأنها عبدت من دون الله ما لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً ، من الأصنام والأحجار والأوثان ، وما إيمان أبي بكر الصديق رضي الله عنه وإسلامه من ذلك ببعيد .
وثالثها : إعراضهم عن زينة الحياة الدنيا وزهدهم فيها ، فلم يكونوا ممن يريدون شيئاً من متاع الدنيا وزخرفها ، ولا متعها وقصورها .
ورابعها : الكتاب المنزل القرآن الذي ملأ قلوبهم معرفة بالله وإجلالاً له ، وتعرفاً على أسمائه وصفاته ، وبيان وعد الله لهم بما أعده لأولياه وعباده في الدار الآخرة في جنات النعيم ، من الثواب العظيم ، والنعيم الخالد المقيم ، وترغيبهم فيها وذكر بعض ما فيها من اللذات والفرش والنظر إلى وجه الله جل جلاله ، فقاموا يتلون ويتدبرون هذا الكتاب ، وقاموا به ليلهم متهجدين عابدين حتى تورمت أقدامهم بذلك أول الأمر وكتب السنة فيها من ذكر القيام والتلاوة شيء كثير.
وخامسها : اليقين القلبي الذي أوقعه النبي صلى الله عليه وسلم في نفوسهم بأن الله سيمكن لهم ويبدل خوفهم أمنا وسلاماً ، ويجعل العاقبة لهم ، فبشرهم ووعدهم وجعل الأمل يدب في قلوبهم ، فما كذبوا على استضعافهم ، ولا نكلوا على قلتهم ، بل صدقوا وثبتوا حتى يأتي أمر الله :’’ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ’’ ، بشر عمار بن ياسر ، وبشر سراقة بن مالك ، وبشر خباب بن الأرت وغيرهم فأيقنوا وصدقوا .
* البناء والتمكين : لما ثبت النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من جيل الدعوة الأول ، وصبروا على الكيد والمكر ، والصد والاستهزاء ، والإعراض والإغراء ، وتركوا كل متاعهم وأموالهم ، بل ونساءهم وأبنائهم وعشيرتهم لله ورسوله ، وكانوا مثالاً واقعياً للثبات على المبادئ والحق ، والتضحية الصادقة من أجله ونصرته ، لما كان هذا حالهم مكن الله لهم في الأرض ، وأذن لهم بالتمكين الموعود لأهل الحق والإيمان ، والتوحيد والمتابعة ، فلقد أذن لهم بالهجرة إلى المدينة ولرسوله ، تمهيداً لعالم ومجتمع إسلامي جديد ، مجتمع لا يعرف الجاهلية ، ولا يعرف الشرك والوثنية ، ولا يعترف بألوهية المخلوقات ، ولا بفساد المعاملات ، ولا بقيام الحروب والعداوات من أجل لا شيء ، ولا يستمد شرائعه وأخلاقه من تصورات بشرية ، أو عقائد وأفكار رومانية أو نصرانية ، مجتمع لا تتملقه النفوس الدنيئة من أصحاب الشهوات الرخيصة ، لقد أزالت الهجرة كل ذلك فالهجرة تجب ما قبلها ، لقد قام صرح شامخ للإسلام ودعوته بعد عدة محاولات للهجرة والبناء للحبشة ، وزالت غربة الإسلام والرسالة الأولى ، ولم تعد غريبة على أرض الجزيرة ، بل ظهرت كالشمس المنيرة في رابعة النهار ، وعلا صوت الحق والإيمان على أبواق الجاهلية الخاوية ، زالت الغربة بهذا التمكين ، الذي قام على أكتاف خيرة البشر بعد الرسل إنهم أصحاب الرسول وأتباعه ، الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه :’’فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً ’’ ، وكما جاء في الحديث النبوي بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء ’’ .
كان الإسلام ودعوته غريباً على عادات وتصورات وعقائد الجاهلية ، كان غريباً في عقيدته وتوحيده :’’أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ’’ ، وكان غريباً في نظامه وشريعته :’’ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ’’، وكان غريباً في أخلاقه :’’ إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً’’ ، وكان غريباً في كل شؤونه وأحكامه :’’ يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ’’ ، وكان غريباً في سياسته وحكمه :’’ وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم ’’، ’’ أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون ’’ ، وكل هذا البناء الشامخ كان السبب في انقلاب الجاهلية بكل مقوماتها وتصوراتها وعقائدها على الدعوة الإسلامية ، والوقوف بينها وبين الناس وإيمانهم بها ، يقول أبو الحسن الندوي رحمه الله :’’ والتقى أهل مكة بأهل يثرب . لا يجمع بينهم إلا الدين الجديد . فكان أروع منظر لسلطان الدين شهده التاريخ . وكان الأوس والخزرج لم ينفضوا عنهم غبار حرب بعاث . ولا تزال سيوفهم تقطر دماً . فألَّف الإسلام بين قلوبهم . ولو أنفق أحد ما في الأرض جميعاً ما ألَّف بين قلوبهم . ثم آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم وبين المهاجرين . فكانت أخوة تزري بأخوة الأشقاء . وتبذ كل ما روي في التاريخ من خلة الأخلاء . كانت هذه الجماعة الوليدة- المؤلفة من أهل مكة المهاجرين وأهل يثرب الأنصار- نواة للأمة الإسلامية الكبيرة التي أخرجت للناس ومادة للإسلام ، فكان ظهور هذه الجماعة في هذه الساعة العصيبة وقاية للعالم من الانحلال الذي كان يهدده . وعصمة للإنسانية من الفتن والأخطار التي أحدقت بها . لذلك قال الله تعالى لما حض على الأخوة والألفة بين المهاجرين والأنصار : ’’ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ’’.(ماذا خسر العالم :84)
هذه إشارات سريعة للوقوف على واقع الدعوة الإسلامية بين التكوين والتمكين في بداية العصر الإسلامي النبوي الأول ، وكيف استطاع النبي صلى الله عليه وسلم صياغة جيل الدعوة الفريد ، من مرحلة البناء والتكوين ، إلى مرحلة القيادة والتمكين ، إنه منهج فريد حقاً في كل مقوماته وإنجازاته ..
*شبكة القلم الفكرية
بقلم عاطف عبد المعز الفيومي
’’...هذه إشارات سريعة للوقوف على واقع الدعوة الإسلامية بين التكوين والتمكين في بداية العصر الإسلامي النبوي الأول ، وكيف استطاع النبي صلى الله عليه وسلم صياغة جيل الدعوة الفريد ، من مرحلة البناء والتكوين ، إلى مرحلة القيادة والتمكين ، إنه منهج فريد حقاً في كل مقوماته وإنجازاته...’’
(الدعوة الإسلامية بين الغربة الأولى والتمكين )
الحمد لله تعالى، والصلاة والسلام على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وآله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد:
فالدعوة الإسلامية خير موضوع ، لأنها دعوة الإسلام وحقيقته الربانية الكبرى ، وهذه الدعوة اليوم أذن الله لها أن تعود من جديد بقوة وإيمان ، لتتبوأ مكانها الأول ، وقيادتها للعالم الذي تنكب الطريق الحق ، وذهب لاهثاً وبقوة وراء الشهوات والنزوات، والكفر والإلحاد ، إلا بقية من أمة الإجابة والهدى أمة الإسلام، التي لم تراوح مكانها بعد لتتسلم مفاتيح القيادة لهذه البشرية اللاهثة خلف السراب ، القابعة خلف الحجب والدنايا، لتدلها على طريق هدايتها وسعادتها ، وسلامتها و أمنها، ..
ولكن ثمة طريق طويل وشاق بين التكوين لهذه القيادة الرائدة للبشرية ، وبين التمكين لها الموعود لها من الله تعالى في الأرض ، نعم بدأت ملامحه تلوح في الآفاق ، ودبت الصحوة الإسلامية في كل مكان ، وبذرت بذورها لكنها لا تزال في حاجة كبيرة إلى العناية والمتابعة ، في حاجة إلى التهذيب والتربية ، وفي حاجة كذلك إلى التصحيح والتقويم ، وفي حاجة إلى البصيرة والتبصير، وكل ذلك لا يكون إلا بجهد الأمة ودعاتها الصادقين ، وجنود الدعوة القائمين بها والمخلصين ، وحماية هذه الدعوة وشبابها من أعدائها المنافقين والمتربصين . ومن هنا كان لزاماً علينا أن نبسط بشيء من الكلام في هذا المحور الكبير الجليل - الدعوة الإسلامية بين التكوين والتمكين - وإنه حقاً لموضوع يحتاج إلى جهود كبيرة ومخلصة ، حتى تؤتى ثمارها بإذن ربها ، ولا بد فيه من الوقوف على أحداث السيرة النبوية أولاً ، وهنا نقف مع عدة محاور في هذا الموضوع الجليل .
أولاً : الدعوة الإسلامية وحقيقتها .
الدعوة الإسلامية : تعني الدعوة إلى الإسلام دين الله الحق ، المنزل من عند الله تعالى، الذي أرسل به جميع أنبيائه ورسله، هداة للعالمين ورحمة لهم ، وعلى رأسهم النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، الذي اصطفاه الله لهذه الدعوة والرسالة الخاتمة لجميع الدعوات والرسالات :’’ وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً..الآية’’ ، والدعوة الإسلامية تعني إقامة شريعة هذا الدين في الأرض، وإقامة عقائده وشرائعه ومبادئه وأخلاقه ، كما أنها تعني صياغة الحياة البشرية كلها بصبغة الربانية والعبودية لله تعالى وحده لا شريك له ، كما قال تعالى:’’ قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين’’، وقال تعالى:’’ أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه...الآية’’ .
نعم صبغة قائمة على عبوديتها لله وحده وإيمانها بكتبه ورسله ، عبودية قائمة على إفراد الخالق المعبود بالخلق والأمر:’’ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين’’ ، عبودية لا تتجه إلا على أصول العقيدة والتوحيد، ولا تقوم إلا على الحق والإيمان ، فلا عقيدة تستقر في القلوب إلا عقيدة الإيمان بالله والإيمان برسله ، والإيمان بكتبه وشرائعه، والإيمان بالبعث بعد الموت والدار الآخرة دار الجزاء الحق ، ولا شريعة تحكم الحياة البشرية وتقوم مسيرتها ، وتهذب أخلاقها ، وتصلح مجتمعاتها، وتبني سياستها واقتصادها ، وحربها وسلمها ، إلا شريعة هذا الدين الحق ؛ لأنه الدين المنزل من عند الله وحده ، فليس من دين غيره يقبل عند الله كما قال تعالى:’’ إن الدين عند الله الإسلام..الآية’’ ، وكما قال أيضاً لمن اعتقد ديناً يدين به سواه :’’ ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين’’ ؛ ولأنه الدين الذي ارتضاه لها :’’ ورضيت لكم الإسلام ديناً..الآية’’ ،’’ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون’’ ؛ ولأنه الدين الذي ضمنه الله تعالى كل جوانب السعادة والهداية في الحياة الدنيا وفي الآخرة :’’ فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى...الآيات’’ ؛ ولأنه دين الحق الجامع لكل مظاهر الحياة البشرية وفق منهج الله تعالى ، الشامل الكامل والصالح لكل زمان ومكان :’’ لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم أفلا تعقلون’’.
فالدعوة الإسلامية دعوة إلى الإسلام نفسه، دعوة إلى إنقاذ البشرية من الهلاك والضياع والتيه في الظلمات، والسير في ركب الشيطان وأتباعه، ودعوة إلى تحقيق سيادة ملك الله في الأرض وفي دنيا الناس، ودعوة إلى قيادة البشرية بمنهج الله تعالى الخالد الباقي إلى يوم الدين ، وإفراده سبحانه بالعبادة والتشريع دون من سواه من المخلوقات ، ودعوة لبناء النفس والإنسان الصالح لإقامة خلافة لله في الأرض ، ودعوة لتحرير النفس البشرية من رق العبودية والذلة لغير خالقها ، تحريرها من سلطان الشيطان عليها بكيده ومكره، وتحريرها من الخوف من ذوي السلطان والطاغوت الذين لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، وتحريرها من تقديس الذات والمال واللهث وراء أعراض الدنيا الفانية القليلة، وتحريرها من الخوف والطمع إلا في خالقها وموجدها سبحانه وتعالى ، ودعوة لتزكية الأنفس والقلوب بمعرفة خالقها والتقرب إليه والطمع في رحمته وجنته ، ودعوة للتصدي للشيطان الرجيم ومكائده وحبائله، والوقوف أمام فساد أتباعه وأعوانه الذين يتملقون البشرية ويلهثون خلف الشهوات الكامنة ، واللذات المحرمة ، ولا يراعون لها أدباً ولا حرمة ولا كرامة ، ودعوة لبناء مجتمع رباني نظيف قائم على رعاية الآداب، وحفظ الحرمات .
إنها ليست دعوة لقمع البشرية واستعبادها ، والسيطرة على مقدرات الشعوب وأقواتها ، ونهب أموالها وممتلكاتها، كما فعلته في القرون المتأخرة الشيوعية الخبيثة المادية ، بأفكارها ومعتقداتها الإلحادية الكافرة ، أو كما تفعله أمريكا وأوربا بمباركة وتخطيط يهودي صليبي ماكر، أو حتى ما يفعله أرباب الأموال والثروات من الهنود واليابانيين والصينيين ، كما أنها ليست دعوة للخروج على حكم الله وشريعته ، بدعاوى التقدم والعلم والانفتاح العلمي أمام البشرية مما يجعلها ليست في حاجة إلى شريعة تحكمها ولا دين ينظم شؤون حياتها ، كما أنها ليست دعوة مستمدة من العقل والفكر البشري القاصر عن إدراك حقائق الأشياء ، ولا الوصول إلى جميع مدلولاتها ليصوغ لها قوانين بشرية في شتى مجالات الحياة ، ثم يحكمها فيها ويقول لها هذا هو القانون العصري الذي يتناسب مع طبيعة هذا الزمان ، كما أنها ليست دعوة أيضاً للتعدي على آداب الإنسان وحياءه وحرماته ، وليست دعوة للفوضى والإباحية والفواحش والمنكرات على حساب شريعة الله والآخرة ، لكنها دعوة ربانية طاهرة ، تسموا بالإنسان إلى حيث هو عند الله من التكريم والرفعة ، وتسموا بأخلاقه وآدابه فيرتفع بإيمانه بالله ، على دنايا النفس وحب الشهوات واللذات التي تقودها كثيراً إلى الهلاك والخسران .
وهذه المعاني كلها جمعتها هذه الدعوة ، التي هي بحق دعوة الإسلام، لأن الإسلام دين الفطرة الذي يولد عليه كل مولود:’’ كل مولود يولد على الفطرة’’ ، وهذه الفطرة تعنى أن الكون والإنسان لم يخلقاً عبثاً ولا هملاً كما أخبر سبحانه وتعالى في كتابه:’’أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق... الآيات’’ ، وكما قال في موضع آخر :’’ أيحسب الإنسان أن يترك سدىً’’ ، بل وبالغ سبحانه في نفي العبث واللهو في الخلق والأمر عن نفسه فقال تعالى:’’ وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ، ما خلقناهما إلا بالحق...الآيات’’، فالكون والإنس والجن ، والنجوم والأفلاك ، والجبال والبحار ، والسماوات والأرض جميعاً ، خلقها الله تعالى لحكمة جليلة، وغاية نبيلة، كما أخبر تعالى:’’ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون’’ ، إنها غاية العبودية لله تعالى وحده لا شريك له ، وهذه غاية الوجود الإنساني والبشري على هذه الأرض ، ومن هنا كانت الدعوة إلى هذه الغاية الربانية الجليلة ، هذه معاني وملامح الدعوة الإسلامية التي أنشأها الله تعالى على يد نبيه ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه الأطهار رضي الله عنهم .
ثانياً : الدعوة الإسلامية بين الغربة الأولى والتمكين .
* نظرة على الواقع الجاهلي: المستقرئ للسيرة النبوية وواقع الجزيرة العربية قبل البعثة المحمدية وبعدها ، يلمح الفارق الكبير بينهما ، ويقف في اندهاش لما يراه من عظمة البناء الإسلامي ، والتعليم النبوي ، الذي أقامه الله تعالى لهذا الدين بالتمكين له ، وجعله منهج حياة إسلامي ، بعد أن ولت الجاهلية على أدبارها بما تحمله من عقائد وشركيات وثنية ، وبما تحمله من تصورات ومعاملات وأخلاق وتشريعات جاهلية ، وكتب السيرة والتاريخ سطر فيها حال الجاهلية كلها ، وما وصلت إليه البشرية آنذاك من انتكاس في الفطرة ، وانحطاط في الإنسانية ، وتقديس للآلهة المصنوعة العاجزة ، لقد عاش العرب في مثالب الجاهلية يرتعون ، وفي ظلمات الشرك والوثنية يعمهون ، وخلف شهواتهم ورذائلهم ينكبون ، هذا هو زمان البعثة المحمدية حقاً جاهلية وأية جاهلية ، وكما قال أبو الحسن الندوي رحمه الله تعالى :’’ بعث محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم والعالم بناء أصيب بزلزال شديد هزه هزاً عنيفاً ، فإذ كل شيء فيه في غير محله ، فمن أساسه ومتاعه ما تكسر ، ومنه ما التوى وانعطف ، ومنه ما فارق محله اللائق به وشغل مكاناً آخر ، ومنه ما تكدس وتكوم .نظر إلى العالم بعين الأنبياء فرأى إنساناً قد هانت عليه إنسانيته ،رآه يسجد للحجر والشجر والنهر ، وكل مالا يملك لنفسه النفع والضر ، رأى إنساناً معكوساً قد فسدت عقليته ، فلم تعد تسيغ البديهيات ، وتعقل الجليات ، وفسد نظام فكره ، فإذا النظري عنده بديهي وبالعكس ، يستريب في موضع الجزم ، ويؤمن في موضع الشك . وفسد ذوقه فصار يستحلي المر ويستطيب الخبيث ، ويستمرئ الوخيم ، وبطل حسه فأصبح لا يبغض العدو الظالم ، ولا يحب الصديق الناصح . رأى مجتمعاً هو الصورة المصغرة للعالم ، كل شيء فيه في غير شكله أو في غير محله ، قد أصبح فيه الذئب راعياً والخصم الجائر قاضياً ، وأصبح المجرم فيه سعيداً حظيا ، والصالح محروماً شقياً لا أنكر في هذا المجتمع من المعروف ، ولا أعرف من المنكر ،ورأى عادات فاسدة تستعجل فناء البشرية ، وتسوقها إلى هوة الهلاك .رأى معاقرة الخمر إلى حد الإدمان ، والخلاعة والفجور إلى حد الاستهتار ، وتعاطي الربا إلى حد الاغتصاب واستلاب الأموال ، ورأى الطمع وشهوة المال إلى حد الجشع والنهامة ورأى القسوة والظلم إلى حد الوأد وقتل الأولاد .رأى ملوكاً اتخذوا بلاد الله دولاً ، وعباد الله خولاً ، ورأى أحباراً ورهباناً أصبحوا أرباباً من دون الله ، يأكلون أموال الناس بالباطل ، ويصدون عن سبيل الله .رأى المواهب البشرية ضائعة أو زائغة لم ينتفع بها ولم توجه التوجيه الصحيح ، فعادت وبالا على أصحابها وعلى الإنسانية ، فقد تحولت الشجاعة فتكاً وهمجية ، والجواد تبذيراً وإسرافاً ، والأنفة حمية جاهلية ، والذكاء شطارة وخديعة ، والعقل وسيلة لابتكار الجنايات ، والإبداع في إرضاء الشهوات . رأى أفراد البشر والهيئات البشرية كخامات لم تحظ بصانع حاذق ، ينتفع بها في هيكل الحضارة ، وكألواح الخشب لم تسعد بنجار يركب منها سفينة تشق بحر الحياة .رأى الأمم قطعاناً من الغنم ليس لها راع ، والسياسة كجمل هائج حبله على غاربه ، والسلطان كسيف في يد سكران يجرح به نفسه ، ويجرح به أولاده وإخوانه ’’ .( ماذا خسر العالم :78،77) .
* ظهور دعوة الإسلام : هذا هو النظام الجاهلي الأول ، الذي كان يعج بالهبوط الإنساني في كل شؤون حياته ، وفقدانه لبدهيات الحياة المستقيمة السوية ، لقد طال الفساد والخواء والضلال كل حياتهم ، واستحال التغيير والإصلاح عند الكثير منهم ، لكن يأبى الله إلا أن يتم نوره على العالمين ، وتشرق أضواء نوره وشريعته على هذه القلوب الغارقة في بحار من شهوات النفس والدنيا الفانية ، والواقعة في مستنقع الرذيلة الآسن ، فكانت البعثة الربانية والمحمدية ، بعثة الإنقاذ والهداية لهذه البشرية الجاهلية التائهة ، كانت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم تغييراً حقيقياً وكبيراً لم يشهد مثله على طول التاريخ البشري كله ، وما هذا إلا لأن مشركي جزيرة العرب جمعت فيهم جل أدواء وأمراض الأمم السابقة لها ، التي لم تجتمع لأمة قبلها فكان الأمر جلل ، كيف الطريق إلى تخليص هؤلاء من جميع هذه الأمراض والأدواء القاتلة ، ولكن شاء الله ذلك ، بحكمته وإرادته وقدرته كما أخبر سبحانه وتعالى بذلك في كتابه العزيز:’’ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون’’ ، فكانت البعثة وبداية تنزل الوحي الرباني بغار حراء على النبي صلى الله عليه وسلم ، وكتب السنة والسير والتاريخ بينت ذلك ودونته ، فقد كان فتحاً من الله تعالى ومنة على هذه البشرية كلها، فقام النبي صلى الله عليه وسلم يدعوا إلى هذه الرسالة الربانية ، فاستجاب له بعض من الناس أول الأمر لتصديقهم له قبل البعثة ويقينهم في دعوته ، فبدأ التكوين النبوي لجيل هذه الدعوة ، ورعيلها الأول من خيار الصحابة رضي الله عنهم وكان ذلك باصطفاء من يدعوهم للإسلام ، وقوة تأثيرهم على أفراد ذلك المجتمع الجاهلي ، يقول أبو الحسن الندوي رحمه الله تعالى:’’ لقد وضع محمد صلى الله عليه وسلم مفتاح النبوة على قفل الطبيعة البشرية فانفتح على ما فيها من كنوز وعجائب وقوى ومواهب ، أصاب الجاهلية في مقتلها أو صميمها ، فأصمى رميته ، وأرغم العالم العنيد بحول الله على أن ينحو نحواً جديداً ويفتتح عهداً سعيداً ، ذلك هو العهد الإسلامي الذي لا يزال غرة في جبين التاريخ ’’(ماذا خسر العالم :82).
* غربة الإسلام الأولى : ولكن مع بزوغ شمس الإسلام للوهلة الأولى وإشراقها على أرض الجزيرة المظلمة القاتمة بالشرك والضلال ، وبزوغ رسالة الدعوة الإسلامية لهداية الخلق إلى توحيد خالقهم وإفراده بالعبادة وحده ، بدأت الجاهلية الأولى بإعلان العداوة لهذا الدين ، وإعلان الحرب الكبيرة على هذه الدعوة الإسلامية الجديدة ، التي تريد هدم صرح الجاهلية ، وهدم كل معتقداتها وتشريعاتها الباطلة وما تحمله من تصورات وأفكار ، فبدأت قريش أولاً وهم أقرب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم بإعلان رفضها وعنادها لهذه الدعوة التي جاء بها ابنها ، مع أنهم جميعاً كان بينهم بقايا من الحنفاء ومن أهل الكتاب أمثال زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل ، ولكن هؤلاء ما كانوا يلقوا شيئاً من أذاهم ولا عنادهم ومكابرتهم ، لكن الموقف هذا تغيراً تماماً تجاه دعوة الإصلاح والهداية دعوة الإسلام ، فشعر المسلمون الذي آمنوا بهذا الدعوة واتبعوا رسولها ، بشيء كبير من الغربة بين هؤلاء القوم فلم يعودوا لهم أولياء ولا أنصاراً ، بل تحولت إلى نوع من العداء والاعتداء على الأموال والأبدان بالتنكيل والتعذيب المفرط .
وبدأ المشركون في طريق جديد من الغضب والمقت على دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه وآمن به وبرسالته ، لقد سلكوا كل طريق لصد الناس عن الإيمان بالله ورسوله ، وما تركوا أسلوباً ولا طريقاً إلا سلكوه ضد دعوة الإسلام ، فمن ذلك : ما جاء في تاريخ السيرة النبوية وكتبها من السخرية والاستهزاء والتكذيب بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم وبأتباعه وأصحابه رضي الله عنهم ، وتصور معي هذه الغربة الموحشة في قلوب الصحابة ، حيث السخرية بهم وبنبيهم ورسالته وكتابه ، والقرآن ذكر شيئاً كثيراً من ذلك كما في قوله تعالى :’’ وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون’’ ( الحجر:6)، وقوله تعالى:’’ وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب ’’(ص:4)، وقوله تعالى:’’ وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون ’’(القلم:51) ، ولا ريب أن كل هذا سنة من سنن الله تعالى التي وقعت في الأمم الخالية قبلنا كما قال تعالى :’’ ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون’’(الأنعام:10) .
ومن ذلك : صد الناس عن سماع القرآن ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم ولما جاء به ، واتهام القرآن والرسول بأنه ساحر وكذاب وكاهن وشاعر إلى آخر هذه السلسلة البائسة من التهم العريضة لأهل الإيمان والحق ، قال تعالى:’’ وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون’’(فصلت:26) ، ومن ذلك : التعذيب والتنكيل لأصحابه والمؤمنين به المتبعين له ، فلقد عذب كثير من الصحابة رضي الله عنهم ، من أمثال سيدنا بلال بن رباح ، وعمار بن ياسر وأبيه وأمه الذين قضوا نحبهم في سبيل الله تعالى ، ومصعب بن عمير ، وصهيب بن سنان الرومي ، وأبو فكيهة أفلح الذي كان مولىً لبني عبد الدار، وخباب بن الأرت ، وزنيرة أمة رومية التي أسلمت ثم عمي بصرها ، ثم شفيت فقالوا سحر محمد ، وأبي بكر الصديق رضي الله عنهم جميعاً وغيرهم كثير ممن آمنوا في طليعة الدعوة الإسلامية.
ومن ذلك أيضاً : إثارة الشبهات الباطلة الكاذبة حول القرآن والرسول ، وأنه ما هو إلا بشر مثلهم ، يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويتزوج وينام ، كما حكى القرآن عنهم ذلك قال تعالى:’’ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْماً وَزُورا ً، وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ، قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيما ً، وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرا ً، أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَّسْحُورا ً، انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً’’ (الفرقان :4-9) ، واتهموه بالسحر والشعر والكهانة والجنون ، وما كل ذلك إلا ليصدوا عنه الناس وعن أتباعه وتصديقه في رسالته ونبوته، وكذبوا البعث بعد الموت والخروج من القبور ، وغير ذلك مما حكاه الله لنا في كتابه العزيز.
ومنها أيضاً: تقديمهم الإغراء والعروض الرخيصة من تولية الملك والسلطان عليهم ، وجلب المال له ولأصحابه وجعلهم من أئمة الثراء والغناء بينهم ، وتزويجه بالنساء والتمتع بهن على الفرش ، وشفائه من أمراضه وعلله إن كان الذي نزل به من الأدواء وأنواع السحر ، حقاً إنه السفه البشري الذي أضل العقول والقلوب عن هذا النور والحق ، وعن هذا البيان الشافي الهادي الواضح ، وعن هذا الإعجاز البين القاهر ، لقد غلب عليهم الكفر والمعاندة للحق ، والجحود والتكذيب مع كمال علمهم بأنه الصادق الأمين ، ولكنها السنن الربانية الجارية في الكون لحكمة يريدها الله تعالى ، للتمكين لهذا الدين ، والتمهيد الرباني لظهوره على سائر الأديان من دونه والنحل الجاهلية المعاندة .
ومنها أيضاً : محاولاتهم المتكررة لقتل النبي صلى الله عليه وسلم ومطاردته ونفيه ، واجتماع قريش على ذلك بغية الوصول إلى شيء من التصدي لمد هذه الدعوة الجديدة عليهم ، وقد أثبت القرآن ذلك ليكون لنا العظة والعبرة من أعداء الدعوة وأصحابها في كل زمان ومكان كما قال تعالى : ’’وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ’’ .
* عوامل الثبات والتمكين : ومع تنوع أساليب الجاهلية في مدافعة الحق والغلبة عليه ، إلا أن الله ثبت نبيه ورسوله ، وثبت الصحابة الذين آمنوا معه ، وصدقوا نبوته ورسالته ، ثبتهم لا لأنهم أصحاب الثروات والأموال ، ولا لأنهم من ذوي الجاه والسلطان ، ولكن ثبتهم لعدة عوامل جليلة وجدت في هذا الجيل المؤمن .
وأولها : أنهم أصحاب عقيدة صادقة ، وإيمان لا تزعزعه الرياح والأعاصير من الشهوات والشبهات ؛ ولأنهم أيقنوا أن هذا الدين هو فطرتهم التي تصرخ في أعماق نفوسهم أنه لا إله إلا الله وحده ، لا يشاركه ولا ينازعه في ربوبيته ولا ألوهيته منازع أو شريك ؛ ولأنهم جعلوا التوحيد طريقهم إلى الله والدار الآخرة ، وجعلوا إفراد الله وحده بالعبادة من الذبح والنذر والطواف وغيرها أحق وأجدر ، لأنه المعبود المستحق لذلك فلا شريك له ، ولا منازع له ، ولا مماثل ولا مكافئ له ؛ وثبتهم لما رأى الإيمان خالط بشاشة قلوبهم فأضاء لها الطريق من جديد إلى الله المعبود سبحانه .
وثانيها : أن الله علم منهم صدق المتابعة والاستجابة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم فلقد آمنوا بالله ورسوله ، وصدقوه وتابعوه بمجرد الوقوف معهم بإثبات حقيقة الباطل الذي عليه أمر الجاهلية ، وأنها عبدت من دون الله ما لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً ، من الأصنام والأحجار والأوثان ، وما إيمان أبي بكر الصديق رضي الله عنه وإسلامه من ذلك ببعيد .
وثالثها : إعراضهم عن زينة الحياة الدنيا وزهدهم فيها ، فلم يكونوا ممن يريدون شيئاً من متاع الدنيا وزخرفها ، ولا متعها وقصورها .
ورابعها : الكتاب المنزل القرآن الذي ملأ قلوبهم معرفة بالله وإجلالاً له ، وتعرفاً على أسمائه وصفاته ، وبيان وعد الله لهم بما أعده لأولياه وعباده في الدار الآخرة في جنات النعيم ، من الثواب العظيم ، والنعيم الخالد المقيم ، وترغيبهم فيها وذكر بعض ما فيها من اللذات والفرش والنظر إلى وجه الله جل جلاله ، فقاموا يتلون ويتدبرون هذا الكتاب ، وقاموا به ليلهم متهجدين عابدين حتى تورمت أقدامهم بذلك أول الأمر وكتب السنة فيها من ذكر القيام والتلاوة شيء كثير.
وخامسها : اليقين القلبي الذي أوقعه النبي صلى الله عليه وسلم في نفوسهم بأن الله سيمكن لهم ويبدل خوفهم أمنا وسلاماً ، ويجعل العاقبة لهم ، فبشرهم ووعدهم وجعل الأمل يدب في قلوبهم ، فما كذبوا على استضعافهم ، ولا نكلوا على قلتهم ، بل صدقوا وثبتوا حتى يأتي أمر الله :’’ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ’’ ، بشر عمار بن ياسر ، وبشر سراقة بن مالك ، وبشر خباب بن الأرت وغيرهم فأيقنوا وصدقوا .
* البناء والتمكين : لما ثبت النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من جيل الدعوة الأول ، وصبروا على الكيد والمكر ، والصد والاستهزاء ، والإعراض والإغراء ، وتركوا كل متاعهم وأموالهم ، بل ونساءهم وأبنائهم وعشيرتهم لله ورسوله ، وكانوا مثالاً واقعياً للثبات على المبادئ والحق ، والتضحية الصادقة من أجله ونصرته ، لما كان هذا حالهم مكن الله لهم في الأرض ، وأذن لهم بالتمكين الموعود لأهل الحق والإيمان ، والتوحيد والمتابعة ، فلقد أذن لهم بالهجرة إلى المدينة ولرسوله ، تمهيداً لعالم ومجتمع إسلامي جديد ، مجتمع لا يعرف الجاهلية ، ولا يعرف الشرك والوثنية ، ولا يعترف بألوهية المخلوقات ، ولا بفساد المعاملات ، ولا بقيام الحروب والعداوات من أجل لا شيء ، ولا يستمد شرائعه وأخلاقه من تصورات بشرية ، أو عقائد وأفكار رومانية أو نصرانية ، مجتمع لا تتملقه النفوس الدنيئة من أصحاب الشهوات الرخيصة ، لقد أزالت الهجرة كل ذلك فالهجرة تجب ما قبلها ، لقد قام صرح شامخ للإسلام ودعوته بعد عدة محاولات للهجرة والبناء للحبشة ، وزالت غربة الإسلام والرسالة الأولى ، ولم تعد غريبة على أرض الجزيرة ، بل ظهرت كالشمس المنيرة في رابعة النهار ، وعلا صوت الحق والإيمان على أبواق الجاهلية الخاوية ، زالت الغربة بهذا التمكين ، الذي قام على أكتاف خيرة البشر بعد الرسل إنهم أصحاب الرسول وأتباعه ، الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه :’’فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً ’’ ، وكما جاء في الحديث النبوي بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء ’’ .
كان الإسلام ودعوته غريباً على عادات وتصورات وعقائد الجاهلية ، كان غريباً في عقيدته وتوحيده :’’أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ’’ ، وكان غريباً في نظامه وشريعته :’’ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ’’، وكان غريباً في أخلاقه :’’ إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً’’ ، وكان غريباً في كل شؤونه وأحكامه :’’ يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ’’ ، وكان غريباً في سياسته وحكمه :’’ وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم ’’، ’’ أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون ’’ ، وكل هذا البناء الشامخ كان السبب في انقلاب الجاهلية بكل مقوماتها وتصوراتها وعقائدها على الدعوة الإسلامية ، والوقوف بينها وبين الناس وإيمانهم بها ، يقول أبو الحسن الندوي رحمه الله :’’ والتقى أهل مكة بأهل يثرب . لا يجمع بينهم إلا الدين الجديد . فكان أروع منظر لسلطان الدين شهده التاريخ . وكان الأوس والخزرج لم ينفضوا عنهم غبار حرب بعاث . ولا تزال سيوفهم تقطر دماً . فألَّف الإسلام بين قلوبهم . ولو أنفق أحد ما في الأرض جميعاً ما ألَّف بين قلوبهم . ثم آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم وبين المهاجرين . فكانت أخوة تزري بأخوة الأشقاء . وتبذ كل ما روي في التاريخ من خلة الأخلاء . كانت هذه الجماعة الوليدة- المؤلفة من أهل مكة المهاجرين وأهل يثرب الأنصار- نواة للأمة الإسلامية الكبيرة التي أخرجت للناس ومادة للإسلام ، فكان ظهور هذه الجماعة في هذه الساعة العصيبة وقاية للعالم من الانحلال الذي كان يهدده . وعصمة للإنسانية من الفتن والأخطار التي أحدقت بها . لذلك قال الله تعالى لما حض على الأخوة والألفة بين المهاجرين والأنصار : ’’ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ’’.(ماذا خسر العالم :84)
هذه إشارات سريعة للوقوف على واقع الدعوة الإسلامية بين التكوين والتمكين في بداية العصر الإسلامي النبوي الأول ، وكيف استطاع النبي صلى الله عليه وسلم صياغة جيل الدعوة الفريد ، من مرحلة البناء والتكوين ، إلى مرحلة القيادة والتمكين ، إنه منهج فريد حقاً في كل مقوماته وإنجازاته ..
*شبكة القلم الفكرية