الإسلاميون والانتخابات: عود على بدء
في ظل مناخ ولو محدود من التعددية السياسية، وتدافع سياسي ديمقراطي أو شبه ديمقراطي، تتقدم القوى الإسلامية أو تتراجع، تنتصر انتخابياً أو تخفق، وتزداد قوة وتأثيراً أو تنحدر، طبقاً لذات الشروط التي تنطبق على أية قوة سياسية حديثة أخرى.ومن بدون الاستجابة لأسئلة المرحلة، ودون تقديم أدلة كافية على جدارتها بثقة الناخبين، لن توفر المرجعية الإسلامية للقوى الإسلامية السياسية حصانة من الفشل.
بقلم د. بشير موسى نافع
قبل أسابيع قليلة، كتبت حول ظاهرة التقدم والتراجع في أداء القوى الإسلامية السياسية. هنا بعض من الملاحظات الإضافية، استدعتها نتائج الانتخابات البرلمانية في لبنان والرئاسية في إيران، التي عقدت خلال أيام من الأسبوع الماضي. كلتا المناسبتين الانتخابيتين جذبت اهتماماً إقليمياً وعالمياً واسع النطاق، واللذين يتعلقان، على نحو أو آخر، بالجدل المستمر حول قوى الإسلام السياسي، موقع هذه القوى على الخارطة السياسية العربية وعبر العالم الإسلامي ككل، ومستقبل هذه القوى.
في لبنان، تنافست في الانتخابات كتلتان رئيسيتان، ضمت الأولى قوى الأكثرية النيابية السابقة، من أحزاب وشخصيات، وعلى رأسها تيار المستقبل، الذي يقوده الحريري الابن؛ وضمت الثانية قوى المعارضة، وفي مقدمتها تحالف حزب الله وتيار الجنرال عون.
في إيران، تنافس على مقعد رئاسة الجمهورية الإسلامية أربعة من المرشحين، أبرزهم الإصلاحي مير حسين موسوي، رئيس الوزراء الأسبق، والمحافظ محمود أحمدي نجاد، رئيس الجمهورية الحالي. في كلتا المناسبتين الانتخابيتين، كان ثمة عامل إسلامي جلي. ففي لبنان، وبالرغم من التفاوت الكبير في الدلالات الاصطلاحية، مثل حزب الله (الحزب الإسلامي الشيعي) التعبير الأبرز عن الإسلام السياسي، بالرغم من أن الجماعة الإسلامية (السنية)، الأقل تأثيراً، تحالفت جزئياً مع تيار المستقبل وكتلة الأكثرية.
وفي إيران، ربما يمكن اعتبار الرئيس أحمدي نجاد المرشح الأقرب إلى معسكر التيار الإسلامي السياسي، بالرغم من أن حسين موسوي، الذي يوصف اليوم بالإصلاحي، كان رئيس وزراء راديكاليا إلى حد كبير خلال سنوات الحرب العراقية الإيرانية، سواء في توجهه السياسي أو إدارته الاقتصادية.
فاجأت نتائج الانتخابات اللبنانية أغلب المراقبين، ليس من حيث فوز الأكثرية وحسب، ولكن أيضاً من حيث حجم هذا الفوز. كان أغلب التوقعات يشير إلى فارق بسيط بين فوز هذا المعسكر وهزيمة الآخر، فارق لا يتجاوز المقعدين أو الثلاثة. ولكن انتصار الأكثرية جاء قاطعاً ولا لبس فيه، بفارق ثلاثة عشر مقعداً، سيؤهلها لفرض قواعد جديدة لتشكيل الحكومة اللبنانية القادمة.
هذه الحكومة، ستكون على الأرجح حكومة ائتلافية، نظراً لأن المعارضة، بالرغم من هزيمتها، حازت مقاعد الطائفة الشيعية كلها تقريباً، في نظام يقوم على المحاصصة الطائفية وضرورة تمثيل كافة طوائف البلاد الرئيسية، الذي أسس للنتائج التي أفرزتها الانتخابات اللبنانية كانت حزمة من الأسباب. بينها، على سبيل المثال، الاستقطاب الطائفي الحاد الذي شهدته الساحة اللبنانية خلال العام السابق على الانتخابات؛ وبالرغم من التقديرات شبه الإجماعية التي توقعت أن يكون الانقسام في صفوف المسيحيين اللبنانيين العامل الرئيسي في تحديد نتائج الانتخابات، فقد أظهرت النتائج في النهاية أن التدافع السني الشيعي كان العامل الأكثر تأثيراً.
ولكن نظام الحكم اللبناني لم يتغير كثيراً على أية حال منذ الاستقلال بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. لا الحروب الأهلية، لا المد القومي واليساري العربي، لا وجود المقاومة الفلسطينية، ولا النفوذ السوري الطويل، أدى إلى تغيير نظام الحكم اللبناني الموالي للغرب. هكذا وجد لبنان، وهكذا سيبقى في المدى المنظور.
كذلك فاجأت نتيجة الانتخابات الرئاسية الإيرانية التوقعات، ليس لأنها جاءت مخالفة لحقائق الواقع، بل لأن وسائل الإعلام العالمية صنعت الواقع الإيراني الذي تريده، ثم لم تستطع تقبل النتيجة المخالفة لهذا الواقع.
وبناء على رغبة غربية وإقليمية كاسحة في رؤية هزيمة أحمدي نجاد، عكست وسائل الإعلام الحشود الجماهيرية الكبيرة في بعض المدن دعماً للمرشح الإصلاحي حسين موسوي، ولم تلتقط الحشود الجماهيرية الأكبر دعماً لنجاد. ولأن قطاعات شبان شمال طهران والطبقات الإيرانية العليا أكثر صخباً وقدرة على الوصول إلى الفضاء الإعلامي، وأكثر جاذبية لزاوية نظر العالم الحديث، فإن قلة لاحظت المدن الصغيرة والقرى (التي تشكل معاً ثلثي الشعب الإيراني)، التي تقف بصلابة خلف نجاد، والتي كانت قد أوصلته قبل أربع سنوات للرئاسة في مواجهة أحد أعمدة الجمهورية.
ليس بالإمكان القول يقيناً أن نتائج الانتخابات الإيرانية كانت عادلة، ولكن الحسابات المنطقية تؤشر إلى أن تزييفاً لإرادة الناخبين لم يقع. أولاً، لأن الفارق بين المتنافسين كان هائلاً، وليس من الحجم الذي يوحي بتلاعب في الأصوات؛ وثانياً، لأنه ليست ثمة تقاليد للتلاعب الانتخابي في إيران؛ ولو كان هناك داع لمثل هذا التلاعب لما شهد العالم انتصار خاتمي الانتخابي الثاني بعد رئاسة أولى اتسمت بعلاقات متوترة بين الرئيس الإصلاحي، من ناحية، ومرشد الجمهورية والبرلمان، من ناحية أخرى. حقق أحمدي نجاد الفوز في انتخابات تنافسية حادة؛ فاز ليس بالضرورة لأنه أفضل من يدير شؤون الدولة والحكم، ولكن لأنه الأقرب إلى عموم الناس، ولأنه رئيس نظيف اليد، وسط طبقة سياسية متهمة بالفساد.
ولكن هذا لا ينفي أن إيران تعاني من انقسام على مستوى الطبقة الطبقة الحاكمة وعلى مستوى المجتمع، ليس من السهل تقدير حجمه أو مدلولاته بالنسبة لمستقبل الجمهورية. هذا الانقسام، وليس بالضرورة هزيمة حسين موسوي، ما أدى إلى ردود الفعل العنيفة على نتائج الانتخابات، التي شهدتها شوارع طهران مساء السبت الماضي.
فما الذي تعنيه الانتخابات البرلمانية اللبنانية وانتخابات الرئاسة الإيرانية لفهم القوى الإسلامية السياسية وتقدير موقعها ودورها المستقبلي إذن؟
المسألة الأولى التي ينبغي إدراكها أن هذه القوى أصبحت جزءاً لا يتجزأ من الخارطة السياسية للمجتمعات العربية والإسلامية، بغض النظر عن الحكم الأخلاقي أو المعنوي على هذه القوى.
يستجيب بروز التيار الإسلامي لمتغيرات موضوعية في بنية المجتمعات الإسلامية لحيوية حركة التحديث وأثرها، لعلاقة المسلمين بدينهم وميراثهم الإسلامي التاريخي، وللإشكاليات المتراكمة للعلاقة بين العالم الإسلامي والقوى الغربية المهيمنة. ولأن هذا السياق الموضوعي لم يصل إلى نهايته، وليس مرشحاً للوصول إلى محطة النهاية سريعاً، فإن القوى الإسلامية السياسية باقية في قلب تفاعلات المجتمعات الإسلامية السياسية.
كون التيار الإسلامي السياسي ظاهرة حديثة النشأة، لا يعني أن بالإمكان التنبؤ بمستقبلها، وما إن كانت ستبقى طويلاً أو أنها مجرد رد فعل سريع وقصير العمر. أثارت ولادة الفكرة القومية في نهاية القرن الثامن عشر معارضة في موطنها الأوروبي الأول وفي خارج الفضاء الأوروبي، وسواء داخل الإمبراطوريات التقليدية، أو من دول رأت فيها تهديداً للسلم والاستقرار الإقليمي.
وقد كتب رثاء الفكرة القومية مرة تلو الأخرى، وتنبأ سياسيون وكتاب وأكاديميون مراراً بوصول المد القومي إلى نهايته. ولكن أحداث ما بعد نهاية الحرب الباردة، من انهيار الكتلة الشيوعية والاتحاد السوفييتي، مروراً بحروب البلقان والقوقاز، وارتفاع مستوى التوتر القومي داخل الدول متعددة القومية، تشير جميعها إلى أن حداثة الحركات السياسية الكبرى لا تشير بالضرورة إلى مداها الزمني.
المسألة الثانية، أن الأداء السياسي لهذه القوى، وزنها وموقعها، لا يمكن أن يفهم من منظار واحد، وعلى أساس من قائمة واحدة من المعايير، فقط لأن خطابها السياسي يعود إلى مرجعية إسلامية.
الوضع اللبناني يتطلب خطاباً مختلفاً من قوى الإسلام السياسي، ويفرض شروطاً أكثر اختلافاً عن أغلب بلدان العالم الإسلامي؛ بل ويمكن أن يفرز الوضع اللبناني، بطبيعته الطائفية، قوى إسلامية سياسية سنية وشيعية، تختلف في توجهاتها وتحالفاتها ورؤيتها للعلاقة مع الدولة.
وإيران، التي تعتبر الدولة الإسلامية الأولى التي شهدت انتصار تيار الإسلام السياسي، هي بالتأكيد حالة خاصة جداً، يصعب تصور تكرارها في دولة إسلامية أخرى. في إيران لم ينتج الفكر الإسلامي السياسي الشيعي جمهوريته وحسب، بل ولم يزل يعيش جدلاً متصلاً وحاداً حول سلطة الفقيه وسلطة الشعب، حول معنى الجمهورية الإسلامية في بلد ذي أكثرية إسلامية شيعية، وإشكالية العلاقة بين نظام الحكم والأقليات الطائفية الأخرى.
التيار الإسلامي السياسي ليس تياراً شمولياً، لا فكراً ونظرية، ولا سياقاً وسلوكاً سياسياً؛ وتتطلب قراءة تعبيراته المختلفة أخذ العديد من الخصوصيات في الاعتبار.
المسألة الثالثة أن وجود هذه القوى على الخارطة السياسية لأغلب البلدان الإسلامية يدخل الآن مرحلة التطبيع؛ بمعنى أن مفاجأة صعودها الكبير في العقود القليلة الماضية، الذي صاحبه قدر متفاوت من التوتر السياسي، تتحول شيئاً فشيئاً إلى تعبير سياسي طبيعي، يخضع لقواعد وخصوصيات الموازين السياسية لكل بلد من بلدان العالم الإسلامي.
في ظل مناخ ولو محدود من التعددية السياسية، وتدافع سياسي ديمقراطي أو شبه ديمقراطي، تتقدم القوى الإسلامية أو تتراجع، تنتصر انتخابياً أو تخفق، وتزداد قوة وتأثيراً أو تنحدر، طبقاً لذات الشروط التي تنطبق على أية قوة سياسية حديثة أخرى.ومن بدون الاستجابة لأسئلة المرحلة، ودون تقديم أدلة كافية على جدارتها بثقة الناخبين، لن توفر المرجعية الإسلامية للقوى الإسلامية السياسية حصانة من الفشل.
ولكن الوعي بتطبيع أوضاع أغلب القوى الإسلامية السياسية لا يقدم درساً لهذه القوى وحسب، بل أيضاً للأنظمة التي تمارس مستويات مختلفة من قمع واضطهاد التيار الإسلامي السياسي والمنتمين لتنظيماته؛ إذ لم يعد بإمكان هذه الأنظمة إقناع حتى أنصارها المقربين بدعاوى تهديد الأمن والاستقرار التي استخدمتها طويلاً لتسويغ سياسات منع الإسلاميين ومطاردتهم. بالنسبة للأغلبية العظمى من الشعوب، تبدو القوى الإسلامية السياسية أكثر عقلانية ومدعاة للثقة من الأنظمة التي تمنعها.
.العصر
في ظل مناخ ولو محدود من التعددية السياسية، وتدافع سياسي ديمقراطي أو شبه ديمقراطي، تتقدم القوى الإسلامية أو تتراجع، تنتصر انتخابياً أو تخفق، وتزداد قوة وتأثيراً أو تنحدر، طبقاً لذات الشروط التي تنطبق على أية قوة سياسية حديثة أخرى.ومن بدون الاستجابة لأسئلة المرحلة، ودون تقديم أدلة كافية على جدارتها بثقة الناخبين، لن توفر المرجعية الإسلامية للقوى الإسلامية السياسية حصانة من الفشل.
بقلم د. بشير موسى نافع
قبل أسابيع قليلة، كتبت حول ظاهرة التقدم والتراجع في أداء القوى الإسلامية السياسية. هنا بعض من الملاحظات الإضافية، استدعتها نتائج الانتخابات البرلمانية في لبنان والرئاسية في إيران، التي عقدت خلال أيام من الأسبوع الماضي. كلتا المناسبتين الانتخابيتين جذبت اهتماماً إقليمياً وعالمياً واسع النطاق، واللذين يتعلقان، على نحو أو آخر، بالجدل المستمر حول قوى الإسلام السياسي، موقع هذه القوى على الخارطة السياسية العربية وعبر العالم الإسلامي ككل، ومستقبل هذه القوى.
في لبنان، تنافست في الانتخابات كتلتان رئيسيتان، ضمت الأولى قوى الأكثرية النيابية السابقة، من أحزاب وشخصيات، وعلى رأسها تيار المستقبل، الذي يقوده الحريري الابن؛ وضمت الثانية قوى المعارضة، وفي مقدمتها تحالف حزب الله وتيار الجنرال عون.
في إيران، تنافس على مقعد رئاسة الجمهورية الإسلامية أربعة من المرشحين، أبرزهم الإصلاحي مير حسين موسوي، رئيس الوزراء الأسبق، والمحافظ محمود أحمدي نجاد، رئيس الجمهورية الحالي. في كلتا المناسبتين الانتخابيتين، كان ثمة عامل إسلامي جلي. ففي لبنان، وبالرغم من التفاوت الكبير في الدلالات الاصطلاحية، مثل حزب الله (الحزب الإسلامي الشيعي) التعبير الأبرز عن الإسلام السياسي، بالرغم من أن الجماعة الإسلامية (السنية)، الأقل تأثيراً، تحالفت جزئياً مع تيار المستقبل وكتلة الأكثرية.
وفي إيران، ربما يمكن اعتبار الرئيس أحمدي نجاد المرشح الأقرب إلى معسكر التيار الإسلامي السياسي، بالرغم من أن حسين موسوي، الذي يوصف اليوم بالإصلاحي، كان رئيس وزراء راديكاليا إلى حد كبير خلال سنوات الحرب العراقية الإيرانية، سواء في توجهه السياسي أو إدارته الاقتصادية.
فاجأت نتائج الانتخابات اللبنانية أغلب المراقبين، ليس من حيث فوز الأكثرية وحسب، ولكن أيضاً من حيث حجم هذا الفوز. كان أغلب التوقعات يشير إلى فارق بسيط بين فوز هذا المعسكر وهزيمة الآخر، فارق لا يتجاوز المقعدين أو الثلاثة. ولكن انتصار الأكثرية جاء قاطعاً ولا لبس فيه، بفارق ثلاثة عشر مقعداً، سيؤهلها لفرض قواعد جديدة لتشكيل الحكومة اللبنانية القادمة.
هذه الحكومة، ستكون على الأرجح حكومة ائتلافية، نظراً لأن المعارضة، بالرغم من هزيمتها، حازت مقاعد الطائفة الشيعية كلها تقريباً، في نظام يقوم على المحاصصة الطائفية وضرورة تمثيل كافة طوائف البلاد الرئيسية، الذي أسس للنتائج التي أفرزتها الانتخابات اللبنانية كانت حزمة من الأسباب. بينها، على سبيل المثال، الاستقطاب الطائفي الحاد الذي شهدته الساحة اللبنانية خلال العام السابق على الانتخابات؛ وبالرغم من التقديرات شبه الإجماعية التي توقعت أن يكون الانقسام في صفوف المسيحيين اللبنانيين العامل الرئيسي في تحديد نتائج الانتخابات، فقد أظهرت النتائج في النهاية أن التدافع السني الشيعي كان العامل الأكثر تأثيراً.
ولكن نظام الحكم اللبناني لم يتغير كثيراً على أية حال منذ الاستقلال بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. لا الحروب الأهلية، لا المد القومي واليساري العربي، لا وجود المقاومة الفلسطينية، ولا النفوذ السوري الطويل، أدى إلى تغيير نظام الحكم اللبناني الموالي للغرب. هكذا وجد لبنان، وهكذا سيبقى في المدى المنظور.
كذلك فاجأت نتيجة الانتخابات الرئاسية الإيرانية التوقعات، ليس لأنها جاءت مخالفة لحقائق الواقع، بل لأن وسائل الإعلام العالمية صنعت الواقع الإيراني الذي تريده، ثم لم تستطع تقبل النتيجة المخالفة لهذا الواقع.
وبناء على رغبة غربية وإقليمية كاسحة في رؤية هزيمة أحمدي نجاد، عكست وسائل الإعلام الحشود الجماهيرية الكبيرة في بعض المدن دعماً للمرشح الإصلاحي حسين موسوي، ولم تلتقط الحشود الجماهيرية الأكبر دعماً لنجاد. ولأن قطاعات شبان شمال طهران والطبقات الإيرانية العليا أكثر صخباً وقدرة على الوصول إلى الفضاء الإعلامي، وأكثر جاذبية لزاوية نظر العالم الحديث، فإن قلة لاحظت المدن الصغيرة والقرى (التي تشكل معاً ثلثي الشعب الإيراني)، التي تقف بصلابة خلف نجاد، والتي كانت قد أوصلته قبل أربع سنوات للرئاسة في مواجهة أحد أعمدة الجمهورية.
ليس بالإمكان القول يقيناً أن نتائج الانتخابات الإيرانية كانت عادلة، ولكن الحسابات المنطقية تؤشر إلى أن تزييفاً لإرادة الناخبين لم يقع. أولاً، لأن الفارق بين المتنافسين كان هائلاً، وليس من الحجم الذي يوحي بتلاعب في الأصوات؛ وثانياً، لأنه ليست ثمة تقاليد للتلاعب الانتخابي في إيران؛ ولو كان هناك داع لمثل هذا التلاعب لما شهد العالم انتصار خاتمي الانتخابي الثاني بعد رئاسة أولى اتسمت بعلاقات متوترة بين الرئيس الإصلاحي، من ناحية، ومرشد الجمهورية والبرلمان، من ناحية أخرى. حقق أحمدي نجاد الفوز في انتخابات تنافسية حادة؛ فاز ليس بالضرورة لأنه أفضل من يدير شؤون الدولة والحكم، ولكن لأنه الأقرب إلى عموم الناس، ولأنه رئيس نظيف اليد، وسط طبقة سياسية متهمة بالفساد.
ولكن هذا لا ينفي أن إيران تعاني من انقسام على مستوى الطبقة الطبقة الحاكمة وعلى مستوى المجتمع، ليس من السهل تقدير حجمه أو مدلولاته بالنسبة لمستقبل الجمهورية. هذا الانقسام، وليس بالضرورة هزيمة حسين موسوي، ما أدى إلى ردود الفعل العنيفة على نتائج الانتخابات، التي شهدتها شوارع طهران مساء السبت الماضي.
فما الذي تعنيه الانتخابات البرلمانية اللبنانية وانتخابات الرئاسة الإيرانية لفهم القوى الإسلامية السياسية وتقدير موقعها ودورها المستقبلي إذن؟
المسألة الأولى التي ينبغي إدراكها أن هذه القوى أصبحت جزءاً لا يتجزأ من الخارطة السياسية للمجتمعات العربية والإسلامية، بغض النظر عن الحكم الأخلاقي أو المعنوي على هذه القوى.
يستجيب بروز التيار الإسلامي لمتغيرات موضوعية في بنية المجتمعات الإسلامية لحيوية حركة التحديث وأثرها، لعلاقة المسلمين بدينهم وميراثهم الإسلامي التاريخي، وللإشكاليات المتراكمة للعلاقة بين العالم الإسلامي والقوى الغربية المهيمنة. ولأن هذا السياق الموضوعي لم يصل إلى نهايته، وليس مرشحاً للوصول إلى محطة النهاية سريعاً، فإن القوى الإسلامية السياسية باقية في قلب تفاعلات المجتمعات الإسلامية السياسية.
كون التيار الإسلامي السياسي ظاهرة حديثة النشأة، لا يعني أن بالإمكان التنبؤ بمستقبلها، وما إن كانت ستبقى طويلاً أو أنها مجرد رد فعل سريع وقصير العمر. أثارت ولادة الفكرة القومية في نهاية القرن الثامن عشر معارضة في موطنها الأوروبي الأول وفي خارج الفضاء الأوروبي، وسواء داخل الإمبراطوريات التقليدية، أو من دول رأت فيها تهديداً للسلم والاستقرار الإقليمي.
وقد كتب رثاء الفكرة القومية مرة تلو الأخرى، وتنبأ سياسيون وكتاب وأكاديميون مراراً بوصول المد القومي إلى نهايته. ولكن أحداث ما بعد نهاية الحرب الباردة، من انهيار الكتلة الشيوعية والاتحاد السوفييتي، مروراً بحروب البلقان والقوقاز، وارتفاع مستوى التوتر القومي داخل الدول متعددة القومية، تشير جميعها إلى أن حداثة الحركات السياسية الكبرى لا تشير بالضرورة إلى مداها الزمني.
المسألة الثانية، أن الأداء السياسي لهذه القوى، وزنها وموقعها، لا يمكن أن يفهم من منظار واحد، وعلى أساس من قائمة واحدة من المعايير، فقط لأن خطابها السياسي يعود إلى مرجعية إسلامية.
الوضع اللبناني يتطلب خطاباً مختلفاً من قوى الإسلام السياسي، ويفرض شروطاً أكثر اختلافاً عن أغلب بلدان العالم الإسلامي؛ بل ويمكن أن يفرز الوضع اللبناني، بطبيعته الطائفية، قوى إسلامية سياسية سنية وشيعية، تختلف في توجهاتها وتحالفاتها ورؤيتها للعلاقة مع الدولة.
وإيران، التي تعتبر الدولة الإسلامية الأولى التي شهدت انتصار تيار الإسلام السياسي، هي بالتأكيد حالة خاصة جداً، يصعب تصور تكرارها في دولة إسلامية أخرى. في إيران لم ينتج الفكر الإسلامي السياسي الشيعي جمهوريته وحسب، بل ولم يزل يعيش جدلاً متصلاً وحاداً حول سلطة الفقيه وسلطة الشعب، حول معنى الجمهورية الإسلامية في بلد ذي أكثرية إسلامية شيعية، وإشكالية العلاقة بين نظام الحكم والأقليات الطائفية الأخرى.
التيار الإسلامي السياسي ليس تياراً شمولياً، لا فكراً ونظرية، ولا سياقاً وسلوكاً سياسياً؛ وتتطلب قراءة تعبيراته المختلفة أخذ العديد من الخصوصيات في الاعتبار.
المسألة الثالثة أن وجود هذه القوى على الخارطة السياسية لأغلب البلدان الإسلامية يدخل الآن مرحلة التطبيع؛ بمعنى أن مفاجأة صعودها الكبير في العقود القليلة الماضية، الذي صاحبه قدر متفاوت من التوتر السياسي، تتحول شيئاً فشيئاً إلى تعبير سياسي طبيعي، يخضع لقواعد وخصوصيات الموازين السياسية لكل بلد من بلدان العالم الإسلامي.
في ظل مناخ ولو محدود من التعددية السياسية، وتدافع سياسي ديمقراطي أو شبه ديمقراطي، تتقدم القوى الإسلامية أو تتراجع، تنتصر انتخابياً أو تخفق، وتزداد قوة وتأثيراً أو تنحدر، طبقاً لذات الشروط التي تنطبق على أية قوة سياسية حديثة أخرى.ومن بدون الاستجابة لأسئلة المرحلة، ودون تقديم أدلة كافية على جدارتها بثقة الناخبين، لن توفر المرجعية الإسلامية للقوى الإسلامية السياسية حصانة من الفشل.
ولكن الوعي بتطبيع أوضاع أغلب القوى الإسلامية السياسية لا يقدم درساً لهذه القوى وحسب، بل أيضاً للأنظمة التي تمارس مستويات مختلفة من قمع واضطهاد التيار الإسلامي السياسي والمنتمين لتنظيماته؛ إذ لم يعد بإمكان هذه الأنظمة إقناع حتى أنصارها المقربين بدعاوى تهديد الأمن والاستقرار التي استخدمتها طويلاً لتسويغ سياسات منع الإسلاميين ومطاردتهم. بالنسبة للأغلبية العظمى من الشعوب، تبدو القوى الإسلامية السياسية أكثر عقلانية ومدعاة للثقة من الأنظمة التي تمنعها.
.العصر