الحريّة في أصولها الإسلاميّة
الدكتور محمد سليم العوّا ***
السلطة والحريّة
تُعدُّ مشكلة الصراع بين السلطة والحريّة من أعقد المشكلات التي تواجه الباحثين في تأريخ وأصول الأنظمة السياسيّة والدستوريّة. وعلى الرغم من اتفاق المفكرّين من رجال القانون والسياسة ومن علماء الاجتماع في مختلف الأمم، وفي كافة العصور على أنّ الحريّة هي الغاية السامية التي تتطلّع إليها الأنظمة الحاكمة، والنظريّات السياسيّة، والقوانين الموضوعة لتنظيم العلاقات الاجتماعيّة ـ على الرغم من ذلك ـ فإنّ الحرّيّة كانت، ولا تزال، بعيدة عن أن يُحدّد لها معنى معيّن يقبله الجميع أو يُتفق بصدد ممارستها على طريقة معيّنة.
وحتى في المجال السياسي حيث يبدو أنّ للحرّيّة معناها الواضح وهو ((عدم استبداد الحاكمين بالمحكومين)) فإنّه يندر أن يبقى هذا المعنى على هذه الدرجة من الوضوح، خاصّة حين تتفاوت الأطراف المتصارعة في تحديد معنى الحرّيّة. ويقسم الباحثون في الفقه الدستوري حديث الحرّيّة إلى شُعب عديدة: فهناك حرّيّة الرأي وحرّيّة العقيدة، وحرّيّة التعليم، وحرّيّة الملكية، والحرّيّة الشخصيّة. وقد تنقسم بعض هذه الشعب إلى أقسام أو فروع متعددة، كما هو الحال بالنسبة للحرّيّة الشخصيّة التي تشمل حرّيّة التنقل وحق الأمن وحرّيّة المسكن، ولعلَّ حرّيّة الرأي هي الأصل في هذه الشعب والأقسام جميعاً، وهي على أي حال ألصق هذه الحرّيّات بالنظام السياسي للدولة وذلك سوف نكتفي هنا ببيان مدى كفالة الإسلام لحرّيّة الرأي ـ بل أمره بها ـ واعتباره إياها حقّاً أساسيّاً للإنسان لا يجوز الإخلال به.
كفالة الإسلام لحرّيّة الرأي
وليس من شك ـ عندي ـ في أن التشريع الإسلامي يذهب في اعتباره لهذه الحرّيّة واحتفائه بها الى مدى ندر أن تصل إليه المذاهب السياسيّة أو النظم الدستوريّة الوضعيّة. ومرد ذلك فيما أرى إلى اعتبار الإسلام أن فطرة الله التي فطر الناس عليها تتضمن ((حقهم في الاختيار)) في اختيار الرأي، واختيار الفعل أو الموقف الذي يترتب على هذا الرأي. وليس أوضح في الدلالة على هذا المعنى مما يقرره القرآن الكريم في قصة آدم وزوجه. فقد بين القرآن كيف نهاهما الله عن الأكل من إحدى شجرات الجنة. ثم كيف خالفا هذا النهي. ((فأكلا منها)) ((وعصى آدم ربه فغوى)). وترتب على هذه المعصية خروجهما من الجنة مع قول الله تعالى لهما ((فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا يضل ولا يشقى. ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً)).
فتعبير هذه الآيات عن فعل آدم وزوجه بالأكل والمعصية ثم التعبير باتباع الهدى أو الأعراض عنه، هذه التعبيرات مجتمعة تبين بوضوح دلالة هذه الحادثة الأولى في تاريخ البشرية على أن ((الحق في الاختيار)) قدرة فطر الإنسان عليها، ومارسها منذ كان.
وقد مضى الإنسان يمارس حقه هذا في الاختيار منذ أن وجد على الأرض حتى قال القرآن الكريم ((ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض، والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب)) سورة الحج ـ 18. فمخلوقات الله جميعا تسجد له إلا بني الإنسان فإن منهم الساجدين ومنهم الكافرين. أو منهم المطيع ومنهم العاصي. وهذا اختيار محض.
وإذا كان ما قدمنا صحيحا ـ وهو عندي صحيح لا ريب فيه ـ فإنه يكون صحيحا من وجه نظر إسلامية؛ ذلك التصور الذي يقول إنه من حق الإنسان أن يمارس دائما حرّيّته أو حقه أو الاختيار. وإن الحرّيّة في هذا التصور قدرة لدى الإنسان، أو فطرة فطر عليها، ليس لأحد ـ كائناً من كان ـ أن يمنعه إياها أو يحرمه ممارستها.
الحرّيّة من الفطرة
أما وقد تمهد هذا، فإننا ننتقل إلى بيان مدى كفالة تشريع الإسلام لحرّيّة الرأي. ونحن نقول: ((تشريع الإسلام)) ولا نقول تاريخه لتخرج من حدود هذا البحث تلك الحقب التي عاشها المسلمون في ظل حكومات لا تلتزم حدود هذا التشريع، أو تلتزم بعض حدوده دون بعض. ذلك أننا نعتقد أن الإسلام إنما يحكم على تصرفات الناس وأفعالهم ـ ويحكم فيها ـ ويقاس به صلاح واقعهم أو فساده. بينما لا يجوز أن يحكم على الإسلام من خلال تصرفات الناس أو واقع حياتهم طالما كانت هذه التصرفات أو هذا الواقع مخالفين لأحكام شريعة الإسلام. ويطَّرد هذا الحكم حتى ولو كان من خالف واقع حياتهم شريعة الإسلام ينتسبون اليه، أو يتذرعون به. إذ المعتبر في هذا هو الحقيقة دون المظهر، والمسميات لا الأسماء. وان كان من الواجب أن نسجل هنا أن تاريخ الإسلام على امتداده الطويل قد شهد نماذج رائعة في ممارسة الحرية حتى في وجه اعتى موجات الظلم والاضطهاد ولا نستثني من ذلك أي عصر من عصور هذا التاريخ في القديم أو الحديث.
وعلى أساس من تصورنا لحقيقة الحرّيّة وكونها فطرة في الإنسان ننظر إلى آيات القرآن الكريم فنجدها تجعل التفكير في مصاف الفرائض الواجبة على الإنسان ليهتدي بعقله إلى خالقه من خلال تأمله في مخلوقاته ((وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم. إن في خلق السماوات والأرض واختلاف اللّيل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها، وبث فيها من كل دابة، وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون)) (سورة البقرة 163 ـ 164) فالقرآن لا يقيم غير برهان العقل برهاناً على اختصاص الله وحده بالألوهية، ولا يدين العاقلون لأحد بها سواه. وتوجيهات القرآن الكريم في هذا الباب للناس عامة، ولا يمكن أن يحصيها مثل البحث المحدود المجال. وهي كلها ناطقة بأن على الناس أن يستخدموا عقولهم فيما خلقت له، وألا يلغوا ملكات الفهم التي أودعها الله في نفوسهم فيضلوا بذلك عن سبيل الله.
سيرة الرسل جميعاً تؤكد حرّيّة الرأي
وحياة رسل الله جميعا ـ كما يحكيها القرآن ـ كانت كلها بياناً بالحجة وجدالاً بالبرهان الذي يقبله العقل، ويخضع له الفكر، قبل أن يسلم به القلب، وتستجيب له عاطفة الإيمان. فها هو نوح بعد أن لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يقول له قومه: ((يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا)) (سورة هود ـ 32). وهاهو هود يقول لقومه: ((أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم)) (سورة الأعراف ـ 71). وليس أدل من هذه المجادلات، التي يحكيها القرآن بين رسل الله وأقوامهم، على مدى إقرار الإسلام ـ دين الله منذ كان الإنسان ـ بحق الناس في حرّيّة التفكير وحرّيّة الرأي. فمن البين أن الجدال يقتضي الأخذ والرد، أي يقتضي إلقاء الأنبياء بحججهم إلى الناس، وسماع ردود الناس على هذه الحجج، وليس أبعد مدى من تلك الحرّيّة.
القرآن والسنة يقرران حرّيّة الرأي
ولقد بين القرآن لرسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تكون دعوته إلى ربه: ((اُدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن)) (سورة النحل ـ 125). بل ان القرآن ليبين لرسول الله أنه لا سبيل إلى الحجر على حرية الناس في التفكير أو في الاعتقاد، وأن الأمر في ذلك إليهم يختار كل منهم لنفسه: ((ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)) (سورة يونس ـ 99). بل إن القرآن ليقرر في ذلك تقرير الحقيقة الواقعة: ((وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين)) (سورة يوسف ـ 103). وسبيل التعامل مع هؤلاء الذين لا يؤمنون، هو ما أمر القرآن به الرسول صلى الله عليه وسلم: ((قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين)) (سورة النمل ـ 64). وليس أعظم كفالة لحرية الرأي، حتى للمخالفين فيه، من هذا السبيل.
ومن الدلائل الصادقة على تقرير القرآن لهذه الحقيقة في حرية الإنسان وأنها فطرته التي خلق عليها، أنه أباح للمسلمين ـ بل أوجب عليهم ـ حين تضيق أرض بهم وبدينهم أن يهاجروا منها إلى غيرها توسلاً إلى حماية حريتهم في العقيدة والبيان. وهذه الهجرة الواجبة لا يشترط فيها أن تكون إلى أرض يحكم فيها الإسلام. بل يكفي أن يكون بإمكان المسلمين في مهجرهم أن يعبدوا ربهم ويقيموا شعائر دينهم. وذلك كان حال المسلمين في هجرتهم إلى الحبشة التي كان أهلها وملكها من النصارى ((وهذه الهجرة التي لا تنقطع إلى يوم القيامة)).
واذا كانت هذه هي أحكام القرآن الكريم ـ مصدر تشريع الإسلام الأول ـ في شأن مسألة العقيدة والإيمان، وهي أعظم مسائل الدين على الإطلاق، فهل يجوز بعد ذلك أن يقال إن تعاليم هذا الدين تحجر على الناس آراءهم في النواحي الأخرى لحياتهم الاجتماعية أو السياسية؟ لا شك أن ذلك مما تأباه نصوص القرآن وروحه، وفهم المسلمين وعملهم في مختلف العصور. ولن يستطيع أحد أن يأتي على مثل هذا القول بدليل من تشريع الإسلام أو تاريخ رسوله أو تاريخ الراشدين ممن حكموا به. ويكفينا تدليلا على ذلك أن نذكر حديث رسول الله الذي يقول فيه لأصحابه: ((لا يكن أحدكم إمّعة يقول أنا مع الناس أن أحسن الناس أحسنت وإن أساءوا أسأت)).
وقد كان ذلك كذلك هو فهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والوقائع الثابتة سنداً ومتناً عنهم لا تحصى. فهذا علي ’’رضي الله عنه’’ يفوت على نفسه الخلافة تمسكا بحقه في حرية الرأي، إذ بايعه عبد الرحمن بن عوف عقب مداولات الستة الذين عينهم عمر للشورى على الكتاب والسنة وفعل الشيخين (أبي بكر وعمر) فأبى ذلك متمسكا بأن يجتهد برأيه بعد التزام الكتاب والسنة وقد حدث ذلك في مسجد الرسول أمام جمهور المسلمين يومئذ. وقد تمسك كذلك بحرية الناس في اختيار حاكمهم حين قيل له وهو على فراش الموت: نولّي بعدك الحسن (أي ابنه) فقال: ((لا آمركم ولا أنهاكم وأنتم أبصر)).
وهذه الحرية التي يقررها الإسلام للعقل البشري، أو حرية الرأي التي تكفلها آيات القرآن الكريم التي قدمنا ذكر بعضها، يحدها قيد واحد هو التزام حدود الشريعة الإسلامية. فلا يجوز أن يكون الرأي الذي يُبديه المسلم ـ إعمالا لهذه الحرية ـ طعنا في الدين أو خروجاً عليه. فذلك مخالف للنظام العام في الدولة الإسلامية، يحجر ـ لذلك ـ على صاحبه، وقد يجوز ـ إذا توافرت شروط معينة ـ أن يعاقب عليه.
الجهر بالرأي واجب وليس مجرد حق أو رخصة
ولا يفوتنا هُنا أن نذكر ما سبق أن أشرنا إليه في موضع آخر من إيجاب شريعة الإسلام على المسلمين أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر. والواقع أن تقرير واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعتبر سبقاً تميزت به شريعة الإسلام في مجال الحرية ولم تصل إلى مثله أية شريعة من الشرائع الوضعية.
ذلك أن الأدلة التي قدمنا ذكرها من القرآن الكريم تبيح للناس أن يكونوا أحرارا فيما يعتقدون ويقولون. وتضيف شريعة الإسلام ـ إلى ذلك ـ إيجابها على المسلمين أن يقولوا ما يعتقدون أنه الحق. فلحرية الرأي في هذه الشريعة شقان: الإباحة والإيجاب. والفارق بينهما هو الفارق بين الواجب والمباح ومن ثم فلا يحتاج الى كثير بيان. فمجرد إباحة أمر من الأمور لا تلُزم الناس بإتيانه، ولا توجب عليهم فعله. ولذلك عرف علماء أصول الفقه المباح بأنه ((ما خُيِّر المكلف بين فعله وتركه)) أما الواجب فهو ((ما طُلب على وجه اللزوم فعله بحيث يأثم تاركه)).
ومن هنا يبدو أن للحق مغزى سلبيا فقط مؤداه أنه لا يجوز منع صاحب الحق من استعمال حقه متى توافرت الشروط المقررة لاستعماله، وأهمها ألا يسيء صاحب الحق استعمال حقه. بينما الواجب ذو مضمون إيجابي يتميز به عن الحق، مؤداه يجب على المكلف القيام بأدائه وإلا كان آثما مستحقاً للعقاب.
ومن هنا يتبين مدى الفارق بين تقرير تشريع الإسلام لحرية الرأي ـ بشقيها ـ وبين التشريعات الوضعية التي تكتفي بشق الإباحة ولا تعرف أصلاً إمكان إيجاب إبداء الرأي على الأفراد. خصوصا وواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يشمل في عموم أدلته وإطلاقها كل ما يتصور من أمور تتعلق بالحياة العامة للأمة، وإذا كان ذلك هو المدى الذي بلغه تشريع الإسلام في تقرير حرية الرأي فانه يمكننا أن ندرك في وضوح الى أي مدىّ يقرر تشريع الإسلام ـ ويحمي ـ غيرها من الحريات.
العلماء المسلمون وحرية الرأي السياسي
ومما يتصل بسبب وثيق بموضوع هذا البحث بيان أن إنكار مزج الإسلام بين السياسة والدين، أو بين قواعده المتعلقة بنظام الحكم وتنظيم المجتمع، وقواعده المتعلقة بالعقيدة والعبادات، ينافي حقائق التاريخ ويخالف فهم علماء الإسلام في مختلف عصوره ويناقض سلوكهم. ولعله مما يزيد هذا المعنى وضوحاً أن نذكر هنا بعض مواقف العلماء المسلمين في الجهر بآرائهم السياسية في مواجهة الحاكمين غير مبالين بما وراء ذلك من عواقب. ولم يكن العلماء المسلمون في ذلك إلاّ متبعين لسنة رسول الله عليه وسلم، مهتدين بمثل قوله عليه الصلاة والسلام لأصحابه ((الدين النصيحة)) قلنا لمن؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)). وقوله صلى الله عليه وسلم ((أن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر)).
وقد توالت عصور الإسلام وعلماؤه العاملون لا يكتمون حقا ولا ينصرون باطلا ولا يهابون ذا سلطان بل يجهرون بآرائهم في شؤون السياسة والحكم ذاكرين قول جابر بن عبد الله (رضي الله عنه): أمرنا رسول الله أن نضرب بهذا ـ يعني السيف ـ من عدل عن هذا يعني ـ المصحف ـ.
ولا يعني ذلك أن علماء الإسلام فهموا من شريعته أن يخرجوا محاربين كل حاكم يميل أدنى ميل عن أحكام شريعة الله ولو كان متأوّلا أو آخذا بقول ظاهر الضعف لمصلحة يراها وإنما كانوا في هذه الحالات يكتفون بالقول والنصح والإرشاد والبيان. وادخروا الاُخرى للحالات التي لا يجدي في علاجها سواها. عاملين بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في النهي عن الخروج على الحاكم المسلم ((إلاّ أن تروا كفراً بواحا عندكم من الله فيه برهان)).
وفيما دون ذلك اكتفوا كما قلنا بالجهر بالحق والأمر بالمعروف، بلا خوف من حاكم أو غيره، إذ كانت قلوبهم خالصة العبودية لله، متحررة من سلطان كل ذي سلطان سواه، حتى قال قائلهم: ((الحرية حرية القلب والعبودية عبودية القلب)). أي إنّ من كان موصول القلب بالله تعالى كامل الطاعة له، مستيقنا من قدرته وقهره ونفاذ إرادته وأمره: هو الحر حقاً. أما غير هؤلاء ممن تعلّقت قلوبهم بالدنيا وأصحابها، وطمعوا فيما عند الناس، ونسوا ما عند الله؛ فهم غير أحرار ولو كانوا بين الناس من ذوي المكانة والجاه، أو كانوا عند ذوي السلطان من المقربين المكرمين.
بمثل هذا الفهم عاش علماء الإسلام حياتهم، يعلمون الناس دينهم، ويبينون لهم أحكام شريعتهم، ويقولون رأيهم في سلوك حكامهم. رأيهم المعبر عما فهموه من أصول الإسلام وقواعده، وما استنبطوه من شريعته التي أمرهم مبلغها عن الله عز وجل ألا يخافوا في الحق لومة لائم.
ويروي التاريخ من مواقفهم في ذلك ما لا يحيط به الحصر، فمن ذلك ما يرويه مؤرخ الإسلام الحافظ الذهبي من أن عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي بعث الى عامله بالمدينة بأن يبايعوا من بعده بالخلافة ولديه الوليد وسليمان. فامتنع من ذلك سعيد بن المسيب ’’رضي الله عنه’’ وخوطب كثيراً ليعدل عن امتناعه فلم يقبل وصمم عليه حتى ضُرب في ذلك ستين سوطاً وما بايع.
ودعي سعيد بن المسيب الى ثلاثين ألفاً ليأخذها ـ هدية من الوالي فقال: ((لا حاجة لي فيها ولا في بني مروان حتى ألقى الله فيحكم بيني وبينهم)).
وكان عمر بن هبيرة والياً ليزيد بن عبد الملك الخليفة الاموي فدعا الحسن البصري، وابن سيرين والشعبي يوماً وقال لهم: إن أمير المؤمنين يكتب إلي في الأمر إن فعلته خفت على ديني وإن لم أفعله خفت على نفسي. فقال له الشعبي وابن سيرين قولاً لينا رقّقا فيه. وقال له الحسن البصري: يا ابن هبيرة خف الله في يزيد ولا تخف يزيد في الله. يا ابن هبيرة إن الله يمنعك من يزيد لا يمنعك من الله. يا ابن هبيرة إنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.. فما وافق كتاب الله من كتب يزيد فأنفذه، وما خالفه فلا تنفذه. فإن الله أولى بك من يزيد، وكتاب الله أولى بك من كتابه. فقال ابن هبيرة: هذا الشيخ صدقني ورب الكعبة.
وقد عقد حجة الإسلام الإمام الغزالي في موسوعته ((إحياء علوم الدين)).
فصلاً مطولا ذكر فيه ما يحل وما يحرم من مخالطة الحكام وغشيان مجالسهم، وأورد جملاً من سلوك العلماء حيالهم، فروى أن هشام بن عبد الملك حج فقال ائتوني برجل من الصحابة. فقيل: قد تفانوا. فقال: من التابعين. فأتي بطاوُس اليماني فدخل عليه فخلع نعليه بحاشية بساطه، وقال: السلام عليك يا هشام وجلس فقال: كيف انت يا هشام؟ فغضب هشام غضباً شديداً حتى هم بقتله. فقيل له إنك في حرم الله ورسوله ولا يحل ذلك.. فقال له هشام: ما حملك على ما صنعت؟ قال طاوُس: وما الذي صنعت؟.. فذكر له هشام ما أغضبه حتى قال: ولم تسلم عليّ بإمرة المؤمنين فأجابه طاوُس: ((ليس كل الناس راضين بإمرتك فكرهت أن أكذب)).
وهذا أبو جعفر المنصور ثاني خلفاء بني العباس يدعو سفيان الثوري فيقول له: عظني أبا عبد الله. فيجيبه سفيان: وما عملت يا أمير المؤمنين فيما عملت حتى أعظك فيما جهلت؟ فيقول المنصور: ما يمنعك أن تأتينا؟ فيقول سفيان: قال الله تعالى ((ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار)).
فهو يقول له رأيه فيه بجرأة إلا من وصل بالله قلبه، ويعلن له أنه من الذين ظلموا ومن الذين لا يعملون بما علموا ولذلك يأبى أن يأتي إليه أو يخاطبه. حتى يقول فيه ((ألقينا الحَب الى العلماء فالتقطوا إلاّ ما كان من سفيان فإنه أعيانا فراراً)).
وشرط أهل البصرة للمنصور أيضاً أن لا يخرجوا عليه فان هم فعلوا حلت له دماؤهم. ثم نقضوا شرطهم وخرجوا عليه، وأراد أن ينفذ ما شرطوا له.. فسأل أبا حنيفة النعمان في ذلك فقال له: ((انهم شرطوا ما لا يملكونه، وشرطت عليهم ما ليس لك.. فان أخذتهم أخذت بما لا يحل)).
ولقي هارون الرشيد الفضيل بن عياض ـ وكان من العباد الزاهدين ـ فسلم عليه وقال له: ((يالها من كف، ما ألينها إن نجت غداً من عذاب الله عز وجل)) ووعظه وعظاً شديداً فكان من قوله له: ((إياك أن تصبح و تمسي وفي قلبك غش لأحد من رعيتك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أصبح لهم غاشاً لم يرح رائحة الجنة)).
وحين سأل هارون الرشيد أبا يوسف تلميذ أبي حنيفة وصاحبه، أن يكتب له كتاب يبين له فيه بعض قواعد الإسلام المتعلقة بجباية الأموال وتولية الولاة والقضاة وجهاد المشركين وحرب البغاة والمرتدين. اغتنم الفرصة السانحة ليجعل مقدمة كتابه حديثاً جامعاً في واجبات الحاكم وما يحل له وملا يحل له في مباشرته أمور رعيته. وهو بيان بليغ ناطق بمدى إيمان هؤلاء العلماء الأفذاذ بحقهم في إبداء الرأي و واجبهم في التبليغ والبيان والنصح للحكام.
فكان مما جاء في مقدمة كتابه: ((فلا تلق الله غداً وأنت سالك سبيل المعتدين، فإنّ ديان الدين يوم الدين إنما يدين العباد بأعمالهم ولا يدينهم بمنازلهم وقد حذرك الله فاحذر، فإنك لم تخلق عبثاً، ولن تترك سدى. وإن الله سائلك عما أنت فيه وعما عملت به فانظر ما الجواب. واعلم أنه لن تزول قدم عبد حتى يسأل عن أربع: عن علمه ما عمل فيه وعن عمره فيم أفناه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسده فيم أبلاه. فأعدد يا أمير المؤمنين للمسألة جوابها فان ما عملت فأثبت فهو عليك غدا يقرأ، فاذكر كشف قناعك فيما بينك وبين الله في مجمع الأشهاد. وإني أوصيك يا أمير المؤمنين بحفظ ما استحفظك الله، ورعاية ما استرعاك الله، وألا تنظر في ذلك إلا إليه وله. فإنك إن لم تفعل تتوعر عليك سهولة الهدى، وتعمى في عينيك وتتعفى رسومه، ويضيق عليك رحبه، وتنكر منه ما تعرف، وتعرف منه ما تنكر)).
ولم يكن هارون الرشيد حاكماً صغير الشأن محدود السلطان بل إنه هو الذي مرت به سحابة فقال بعض أصحابه: أمطرينا… فرد هارون قائلا: أمطري حيث شئت فسوف يأتيني خراجك)). وابو يوسف يدرك بما علم من دين الله وسنة رسوله، وسيرة أصحابه واجبه نحو الحاكم فيوجه له هذا الكلام ناصحاً ومذكراً، في عبارة بينة بلا غموض، مستقيمة بلا عوج. ولله در عمر بن الخطاب إذ يقول عن نصح الرعية وحاكمهم وصراحتهم معه ((لا خير فيهم إن لم يقولوها، ولا خير فينا إن لم نقبل)).
ولم يكن ذلك مسلك العلماء المسلمين في العصور الأولى للإسلام فحسب حين كان العهد قريباً بزمان النبوة، والاستشراف قويا إلى سيرة الصحابة رضوان الله عليهم. بل ظلت تلك سيرة العلماء في كل عصور الإسلام على امتدادها الطويل. فالتاريخ يحكي لنا عن النووي والعز بن عبد السلام وابن تيمية وكثيرين غيرهم من المتأخرين مثل هذه المواقف التي قدمناها وأشد. مع غلبة الظلم في عصور هؤلاء، وتفشي الجور والبعد عن الحق. وقد كانوا يلاقون في سبيل الحق الذي يصدعون به التعذيب والسجن والقتل أحياناً، وهم لا يداهنون ولا يشترون رضاء المخلوقين بسخط الخالق. ولعل ذلك كله ليس إلا مصداق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا تزال طائفة من أمتي قائمين بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون)).
وبعد فأين مما قدمنا قول القائلين ((لا علاقة بين الإسلام والسياسة))؟ ولم كانت هذه المواقف من علماء الإسلام اذن؟ أكانت طلبا للدنيا وسعيا وراء الجاه؟.. كلا فالذي لا مراء فيه أن الدنيا كانت تسعى إليهم ويفرون منها، والمناصب تعرض عليهم فيرفضونها. ومن كان غنياً فيهم كان غناه في عمله أو تجارته، ومات أكثرهم فقراء من المال وإن عاشوا أغنياء النفوس أعزاء القلوب.
فلم تكن مواقفهم تلك إلا صادرة عن علمهم أن هذه الشريعة التي أخلصوا لها وحدة واحدة. وأنه لا يجزئ عن العالم فيها علمه ما لم يكن مقروناً بالعمل. وأن خير العمل ما كان نصحاً للأمة، وأمراً بالمعروف، وصدعاً بالحق. فأين من ذلك كله علماؤنا اليوم؟
وبقدر ما تعتبر هذه المواقف تطبيقاً صحيحاً لتعاليم الإسلام، وتاريخاً مجيداً لعلمائه، فإنها تعتبر شهادة عدل وخير للحكام المسلمين الذين لم تغرهم الدنيا بجاهها ولا الحكم بسلطانه كي يقهروا الراي الحر والنصيحة المخلصة. وان التاريخ لينبئ بصدق أن الحاكم العادل هو الذي تزدهر الحرية في عهده. حتى إنه لا يخطئ من يقول إن عدل الحاكم وحرية الرعية يتلازمان دائماً. وأن ظلم الحاكم وجوره يقترن أبداً باختفاء الرأي الحر والكلمة الصادقة في المجتمع الذي يسوده الظلم والقهر.
وما أصدق تعبير العالم الجزائري المجاهد، الشيخ عبد الحميد بن باديس عن واجب الدولة الإسلامية في كفالة الحرية للفرد المسلم، قال: ((حق كل إنسان في الحرية كحقه في الحياة، ومقدار ما عنده من حياة هو مقدار ما عنده من حرية. والمعتدى عليه في شيء من حريته كالمعتدى عليه في شيء من حياته، وما أرسل الله من رسل وما شرع لهم الشرع إلا ليحيوا أحراراً، وليعرفوا كيف يأخذوا بأسباب الحياة والحرية، وحتى يستثمروا تلك الحياة وتلك الحرية إلى أقصى حدود الاستثمار النافع، وما انتشر الإسلام في الأمم إلا لما شاهدت فيه من تعظيم للحياة والحرية ومحافظة عليها وتسوية بين الناس فيها مما لم تعرفة تلك الأمم من قبل لا من ملوكها ولا من أحبارها ورهبانها)).
وكان جماع هذه المعاني كلها ما جاء في الاعلان العالمي عن حقوق الإنسان في الإسلام الصادر عن المؤتمر الإسلامي العالمي (لندن / أبريل / 1980) ونصه:
حق الحرية:
( أ ) حرية الإنسان مقدسة ـ كحياته سواء بسواء ـ وهي الصفة الطبيعية الأولى بها يولد الإنسان: ((ما من مولود إلا ويولد على الفطرة)) وهي مستصحبة ومستمرة ليس لأحد أن يعتدي عليها: ((متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً))، ويجب توفير الضمانات الكافية لحماية حرية الأفراد، ولا يجوز تقييدها أو الحد منها إلا بسلطان الشريعة، وبالإجراءات التي تقرها.
( ب ) لا يجوز لشعب أن يعتدي على حرية شعب آخر، وللشعب المعتدى عليه أن يرد العدوان، ويسترد حريته بكل السبل الممكنة: ((ولمن أنتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل)) وعلى المجتمع الدولي مساندة كل شعب يجاهد من أجل حريته، ويتحمل المسلمون في هذا واجباً لا ترخص فيه: ((الذين إن مكّناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر)).
حق اللجوء:
( أ ) من حق كل مسلم مضطهد أو مظلوم أن يلجأ إلى حيث يأمن، في نطاق دار الإسلام. وهو حق يكفله الإسلام لكل مضطهد، أياً كانت جنسيته، أو عقيدته، أو لونه، ويحمل المسلمين واجب توفير الأمن له متى لجأ إليهم: ((وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه)).
( ب ) بيت الله الحرام ـ بمكة المشرفة ـ هو مثابة وأمن للناس جميعاً لا يصد عنه مسلم: ((وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا)) ((ومن دخله كان آمنا)) ((سواء العاكف فيه والباد)).
.الوحدة
الدكتور محمد سليم العوّا ***
السلطة والحريّة
تُعدُّ مشكلة الصراع بين السلطة والحريّة من أعقد المشكلات التي تواجه الباحثين في تأريخ وأصول الأنظمة السياسيّة والدستوريّة. وعلى الرغم من اتفاق المفكرّين من رجال القانون والسياسة ومن علماء الاجتماع في مختلف الأمم، وفي كافة العصور على أنّ الحريّة هي الغاية السامية التي تتطلّع إليها الأنظمة الحاكمة، والنظريّات السياسيّة، والقوانين الموضوعة لتنظيم العلاقات الاجتماعيّة ـ على الرغم من ذلك ـ فإنّ الحرّيّة كانت، ولا تزال، بعيدة عن أن يُحدّد لها معنى معيّن يقبله الجميع أو يُتفق بصدد ممارستها على طريقة معيّنة.
وحتى في المجال السياسي حيث يبدو أنّ للحرّيّة معناها الواضح وهو ((عدم استبداد الحاكمين بالمحكومين)) فإنّه يندر أن يبقى هذا المعنى على هذه الدرجة من الوضوح، خاصّة حين تتفاوت الأطراف المتصارعة في تحديد معنى الحرّيّة. ويقسم الباحثون في الفقه الدستوري حديث الحرّيّة إلى شُعب عديدة: فهناك حرّيّة الرأي وحرّيّة العقيدة، وحرّيّة التعليم، وحرّيّة الملكية، والحرّيّة الشخصيّة. وقد تنقسم بعض هذه الشعب إلى أقسام أو فروع متعددة، كما هو الحال بالنسبة للحرّيّة الشخصيّة التي تشمل حرّيّة التنقل وحق الأمن وحرّيّة المسكن، ولعلَّ حرّيّة الرأي هي الأصل في هذه الشعب والأقسام جميعاً، وهي على أي حال ألصق هذه الحرّيّات بالنظام السياسي للدولة وذلك سوف نكتفي هنا ببيان مدى كفالة الإسلام لحرّيّة الرأي ـ بل أمره بها ـ واعتباره إياها حقّاً أساسيّاً للإنسان لا يجوز الإخلال به.
كفالة الإسلام لحرّيّة الرأي
وليس من شك ـ عندي ـ في أن التشريع الإسلامي يذهب في اعتباره لهذه الحرّيّة واحتفائه بها الى مدى ندر أن تصل إليه المذاهب السياسيّة أو النظم الدستوريّة الوضعيّة. ومرد ذلك فيما أرى إلى اعتبار الإسلام أن فطرة الله التي فطر الناس عليها تتضمن ((حقهم في الاختيار)) في اختيار الرأي، واختيار الفعل أو الموقف الذي يترتب على هذا الرأي. وليس أوضح في الدلالة على هذا المعنى مما يقرره القرآن الكريم في قصة آدم وزوجه. فقد بين القرآن كيف نهاهما الله عن الأكل من إحدى شجرات الجنة. ثم كيف خالفا هذا النهي. ((فأكلا منها)) ((وعصى آدم ربه فغوى)). وترتب على هذه المعصية خروجهما من الجنة مع قول الله تعالى لهما ((فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا يضل ولا يشقى. ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً)).
فتعبير هذه الآيات عن فعل آدم وزوجه بالأكل والمعصية ثم التعبير باتباع الهدى أو الأعراض عنه، هذه التعبيرات مجتمعة تبين بوضوح دلالة هذه الحادثة الأولى في تاريخ البشرية على أن ((الحق في الاختيار)) قدرة فطر الإنسان عليها، ومارسها منذ كان.
وقد مضى الإنسان يمارس حقه هذا في الاختيار منذ أن وجد على الأرض حتى قال القرآن الكريم ((ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض، والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب)) سورة الحج ـ 18. فمخلوقات الله جميعا تسجد له إلا بني الإنسان فإن منهم الساجدين ومنهم الكافرين. أو منهم المطيع ومنهم العاصي. وهذا اختيار محض.
وإذا كان ما قدمنا صحيحا ـ وهو عندي صحيح لا ريب فيه ـ فإنه يكون صحيحا من وجه نظر إسلامية؛ ذلك التصور الذي يقول إنه من حق الإنسان أن يمارس دائما حرّيّته أو حقه أو الاختيار. وإن الحرّيّة في هذا التصور قدرة لدى الإنسان، أو فطرة فطر عليها، ليس لأحد ـ كائناً من كان ـ أن يمنعه إياها أو يحرمه ممارستها.
الحرّيّة من الفطرة
أما وقد تمهد هذا، فإننا ننتقل إلى بيان مدى كفالة تشريع الإسلام لحرّيّة الرأي. ونحن نقول: ((تشريع الإسلام)) ولا نقول تاريخه لتخرج من حدود هذا البحث تلك الحقب التي عاشها المسلمون في ظل حكومات لا تلتزم حدود هذا التشريع، أو تلتزم بعض حدوده دون بعض. ذلك أننا نعتقد أن الإسلام إنما يحكم على تصرفات الناس وأفعالهم ـ ويحكم فيها ـ ويقاس به صلاح واقعهم أو فساده. بينما لا يجوز أن يحكم على الإسلام من خلال تصرفات الناس أو واقع حياتهم طالما كانت هذه التصرفات أو هذا الواقع مخالفين لأحكام شريعة الإسلام. ويطَّرد هذا الحكم حتى ولو كان من خالف واقع حياتهم شريعة الإسلام ينتسبون اليه، أو يتذرعون به. إذ المعتبر في هذا هو الحقيقة دون المظهر، والمسميات لا الأسماء. وان كان من الواجب أن نسجل هنا أن تاريخ الإسلام على امتداده الطويل قد شهد نماذج رائعة في ممارسة الحرية حتى في وجه اعتى موجات الظلم والاضطهاد ولا نستثني من ذلك أي عصر من عصور هذا التاريخ في القديم أو الحديث.
وعلى أساس من تصورنا لحقيقة الحرّيّة وكونها فطرة في الإنسان ننظر إلى آيات القرآن الكريم فنجدها تجعل التفكير في مصاف الفرائض الواجبة على الإنسان ليهتدي بعقله إلى خالقه من خلال تأمله في مخلوقاته ((وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم. إن في خلق السماوات والأرض واختلاف اللّيل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها، وبث فيها من كل دابة، وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون)) (سورة البقرة 163 ـ 164) فالقرآن لا يقيم غير برهان العقل برهاناً على اختصاص الله وحده بالألوهية، ولا يدين العاقلون لأحد بها سواه. وتوجيهات القرآن الكريم في هذا الباب للناس عامة، ولا يمكن أن يحصيها مثل البحث المحدود المجال. وهي كلها ناطقة بأن على الناس أن يستخدموا عقولهم فيما خلقت له، وألا يلغوا ملكات الفهم التي أودعها الله في نفوسهم فيضلوا بذلك عن سبيل الله.
سيرة الرسل جميعاً تؤكد حرّيّة الرأي
وحياة رسل الله جميعا ـ كما يحكيها القرآن ـ كانت كلها بياناً بالحجة وجدالاً بالبرهان الذي يقبله العقل، ويخضع له الفكر، قبل أن يسلم به القلب، وتستجيب له عاطفة الإيمان. فها هو نوح بعد أن لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يقول له قومه: ((يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا)) (سورة هود ـ 32). وهاهو هود يقول لقومه: ((أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم)) (سورة الأعراف ـ 71). وليس أدل من هذه المجادلات، التي يحكيها القرآن بين رسل الله وأقوامهم، على مدى إقرار الإسلام ـ دين الله منذ كان الإنسان ـ بحق الناس في حرّيّة التفكير وحرّيّة الرأي. فمن البين أن الجدال يقتضي الأخذ والرد، أي يقتضي إلقاء الأنبياء بحججهم إلى الناس، وسماع ردود الناس على هذه الحجج، وليس أبعد مدى من تلك الحرّيّة.
القرآن والسنة يقرران حرّيّة الرأي
ولقد بين القرآن لرسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تكون دعوته إلى ربه: ((اُدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن)) (سورة النحل ـ 125). بل ان القرآن ليبين لرسول الله أنه لا سبيل إلى الحجر على حرية الناس في التفكير أو في الاعتقاد، وأن الأمر في ذلك إليهم يختار كل منهم لنفسه: ((ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)) (سورة يونس ـ 99). بل إن القرآن ليقرر في ذلك تقرير الحقيقة الواقعة: ((وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين)) (سورة يوسف ـ 103). وسبيل التعامل مع هؤلاء الذين لا يؤمنون، هو ما أمر القرآن به الرسول صلى الله عليه وسلم: ((قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين)) (سورة النمل ـ 64). وليس أعظم كفالة لحرية الرأي، حتى للمخالفين فيه، من هذا السبيل.
ومن الدلائل الصادقة على تقرير القرآن لهذه الحقيقة في حرية الإنسان وأنها فطرته التي خلق عليها، أنه أباح للمسلمين ـ بل أوجب عليهم ـ حين تضيق أرض بهم وبدينهم أن يهاجروا منها إلى غيرها توسلاً إلى حماية حريتهم في العقيدة والبيان. وهذه الهجرة الواجبة لا يشترط فيها أن تكون إلى أرض يحكم فيها الإسلام. بل يكفي أن يكون بإمكان المسلمين في مهجرهم أن يعبدوا ربهم ويقيموا شعائر دينهم. وذلك كان حال المسلمين في هجرتهم إلى الحبشة التي كان أهلها وملكها من النصارى ((وهذه الهجرة التي لا تنقطع إلى يوم القيامة)).
واذا كانت هذه هي أحكام القرآن الكريم ـ مصدر تشريع الإسلام الأول ـ في شأن مسألة العقيدة والإيمان، وهي أعظم مسائل الدين على الإطلاق، فهل يجوز بعد ذلك أن يقال إن تعاليم هذا الدين تحجر على الناس آراءهم في النواحي الأخرى لحياتهم الاجتماعية أو السياسية؟ لا شك أن ذلك مما تأباه نصوص القرآن وروحه، وفهم المسلمين وعملهم في مختلف العصور. ولن يستطيع أحد أن يأتي على مثل هذا القول بدليل من تشريع الإسلام أو تاريخ رسوله أو تاريخ الراشدين ممن حكموا به. ويكفينا تدليلا على ذلك أن نذكر حديث رسول الله الذي يقول فيه لأصحابه: ((لا يكن أحدكم إمّعة يقول أنا مع الناس أن أحسن الناس أحسنت وإن أساءوا أسأت)).
وقد كان ذلك كذلك هو فهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والوقائع الثابتة سنداً ومتناً عنهم لا تحصى. فهذا علي ’’رضي الله عنه’’ يفوت على نفسه الخلافة تمسكا بحقه في حرية الرأي، إذ بايعه عبد الرحمن بن عوف عقب مداولات الستة الذين عينهم عمر للشورى على الكتاب والسنة وفعل الشيخين (أبي بكر وعمر) فأبى ذلك متمسكا بأن يجتهد برأيه بعد التزام الكتاب والسنة وقد حدث ذلك في مسجد الرسول أمام جمهور المسلمين يومئذ. وقد تمسك كذلك بحرية الناس في اختيار حاكمهم حين قيل له وهو على فراش الموت: نولّي بعدك الحسن (أي ابنه) فقال: ((لا آمركم ولا أنهاكم وأنتم أبصر)).
وهذه الحرية التي يقررها الإسلام للعقل البشري، أو حرية الرأي التي تكفلها آيات القرآن الكريم التي قدمنا ذكر بعضها، يحدها قيد واحد هو التزام حدود الشريعة الإسلامية. فلا يجوز أن يكون الرأي الذي يُبديه المسلم ـ إعمالا لهذه الحرية ـ طعنا في الدين أو خروجاً عليه. فذلك مخالف للنظام العام في الدولة الإسلامية، يحجر ـ لذلك ـ على صاحبه، وقد يجوز ـ إذا توافرت شروط معينة ـ أن يعاقب عليه.
الجهر بالرأي واجب وليس مجرد حق أو رخصة
ولا يفوتنا هُنا أن نذكر ما سبق أن أشرنا إليه في موضع آخر من إيجاب شريعة الإسلام على المسلمين أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر. والواقع أن تقرير واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعتبر سبقاً تميزت به شريعة الإسلام في مجال الحرية ولم تصل إلى مثله أية شريعة من الشرائع الوضعية.
ذلك أن الأدلة التي قدمنا ذكرها من القرآن الكريم تبيح للناس أن يكونوا أحرارا فيما يعتقدون ويقولون. وتضيف شريعة الإسلام ـ إلى ذلك ـ إيجابها على المسلمين أن يقولوا ما يعتقدون أنه الحق. فلحرية الرأي في هذه الشريعة شقان: الإباحة والإيجاب. والفارق بينهما هو الفارق بين الواجب والمباح ومن ثم فلا يحتاج الى كثير بيان. فمجرد إباحة أمر من الأمور لا تلُزم الناس بإتيانه، ولا توجب عليهم فعله. ولذلك عرف علماء أصول الفقه المباح بأنه ((ما خُيِّر المكلف بين فعله وتركه)) أما الواجب فهو ((ما طُلب على وجه اللزوم فعله بحيث يأثم تاركه)).
ومن هنا يبدو أن للحق مغزى سلبيا فقط مؤداه أنه لا يجوز منع صاحب الحق من استعمال حقه متى توافرت الشروط المقررة لاستعماله، وأهمها ألا يسيء صاحب الحق استعمال حقه. بينما الواجب ذو مضمون إيجابي يتميز به عن الحق، مؤداه يجب على المكلف القيام بأدائه وإلا كان آثما مستحقاً للعقاب.
ومن هنا يتبين مدى الفارق بين تقرير تشريع الإسلام لحرية الرأي ـ بشقيها ـ وبين التشريعات الوضعية التي تكتفي بشق الإباحة ولا تعرف أصلاً إمكان إيجاب إبداء الرأي على الأفراد. خصوصا وواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يشمل في عموم أدلته وإطلاقها كل ما يتصور من أمور تتعلق بالحياة العامة للأمة، وإذا كان ذلك هو المدى الذي بلغه تشريع الإسلام في تقرير حرية الرأي فانه يمكننا أن ندرك في وضوح الى أي مدىّ يقرر تشريع الإسلام ـ ويحمي ـ غيرها من الحريات.
العلماء المسلمون وحرية الرأي السياسي
ومما يتصل بسبب وثيق بموضوع هذا البحث بيان أن إنكار مزج الإسلام بين السياسة والدين، أو بين قواعده المتعلقة بنظام الحكم وتنظيم المجتمع، وقواعده المتعلقة بالعقيدة والعبادات، ينافي حقائق التاريخ ويخالف فهم علماء الإسلام في مختلف عصوره ويناقض سلوكهم. ولعله مما يزيد هذا المعنى وضوحاً أن نذكر هنا بعض مواقف العلماء المسلمين في الجهر بآرائهم السياسية في مواجهة الحاكمين غير مبالين بما وراء ذلك من عواقب. ولم يكن العلماء المسلمون في ذلك إلاّ متبعين لسنة رسول الله عليه وسلم، مهتدين بمثل قوله عليه الصلاة والسلام لأصحابه ((الدين النصيحة)) قلنا لمن؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)). وقوله صلى الله عليه وسلم ((أن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر)).
وقد توالت عصور الإسلام وعلماؤه العاملون لا يكتمون حقا ولا ينصرون باطلا ولا يهابون ذا سلطان بل يجهرون بآرائهم في شؤون السياسة والحكم ذاكرين قول جابر بن عبد الله (رضي الله عنه): أمرنا رسول الله أن نضرب بهذا ـ يعني السيف ـ من عدل عن هذا يعني ـ المصحف ـ.
ولا يعني ذلك أن علماء الإسلام فهموا من شريعته أن يخرجوا محاربين كل حاكم يميل أدنى ميل عن أحكام شريعة الله ولو كان متأوّلا أو آخذا بقول ظاهر الضعف لمصلحة يراها وإنما كانوا في هذه الحالات يكتفون بالقول والنصح والإرشاد والبيان. وادخروا الاُخرى للحالات التي لا يجدي في علاجها سواها. عاملين بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في النهي عن الخروج على الحاكم المسلم ((إلاّ أن تروا كفراً بواحا عندكم من الله فيه برهان)).
وفيما دون ذلك اكتفوا كما قلنا بالجهر بالحق والأمر بالمعروف، بلا خوف من حاكم أو غيره، إذ كانت قلوبهم خالصة العبودية لله، متحررة من سلطان كل ذي سلطان سواه، حتى قال قائلهم: ((الحرية حرية القلب والعبودية عبودية القلب)). أي إنّ من كان موصول القلب بالله تعالى كامل الطاعة له، مستيقنا من قدرته وقهره ونفاذ إرادته وأمره: هو الحر حقاً. أما غير هؤلاء ممن تعلّقت قلوبهم بالدنيا وأصحابها، وطمعوا فيما عند الناس، ونسوا ما عند الله؛ فهم غير أحرار ولو كانوا بين الناس من ذوي المكانة والجاه، أو كانوا عند ذوي السلطان من المقربين المكرمين.
بمثل هذا الفهم عاش علماء الإسلام حياتهم، يعلمون الناس دينهم، ويبينون لهم أحكام شريعتهم، ويقولون رأيهم في سلوك حكامهم. رأيهم المعبر عما فهموه من أصول الإسلام وقواعده، وما استنبطوه من شريعته التي أمرهم مبلغها عن الله عز وجل ألا يخافوا في الحق لومة لائم.
ويروي التاريخ من مواقفهم في ذلك ما لا يحيط به الحصر، فمن ذلك ما يرويه مؤرخ الإسلام الحافظ الذهبي من أن عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي بعث الى عامله بالمدينة بأن يبايعوا من بعده بالخلافة ولديه الوليد وسليمان. فامتنع من ذلك سعيد بن المسيب ’’رضي الله عنه’’ وخوطب كثيراً ليعدل عن امتناعه فلم يقبل وصمم عليه حتى ضُرب في ذلك ستين سوطاً وما بايع.
ودعي سعيد بن المسيب الى ثلاثين ألفاً ليأخذها ـ هدية من الوالي فقال: ((لا حاجة لي فيها ولا في بني مروان حتى ألقى الله فيحكم بيني وبينهم)).
وكان عمر بن هبيرة والياً ليزيد بن عبد الملك الخليفة الاموي فدعا الحسن البصري، وابن سيرين والشعبي يوماً وقال لهم: إن أمير المؤمنين يكتب إلي في الأمر إن فعلته خفت على ديني وإن لم أفعله خفت على نفسي. فقال له الشعبي وابن سيرين قولاً لينا رقّقا فيه. وقال له الحسن البصري: يا ابن هبيرة خف الله في يزيد ولا تخف يزيد في الله. يا ابن هبيرة إن الله يمنعك من يزيد لا يمنعك من الله. يا ابن هبيرة إنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.. فما وافق كتاب الله من كتب يزيد فأنفذه، وما خالفه فلا تنفذه. فإن الله أولى بك من يزيد، وكتاب الله أولى بك من كتابه. فقال ابن هبيرة: هذا الشيخ صدقني ورب الكعبة.
وقد عقد حجة الإسلام الإمام الغزالي في موسوعته ((إحياء علوم الدين)).
فصلاً مطولا ذكر فيه ما يحل وما يحرم من مخالطة الحكام وغشيان مجالسهم، وأورد جملاً من سلوك العلماء حيالهم، فروى أن هشام بن عبد الملك حج فقال ائتوني برجل من الصحابة. فقيل: قد تفانوا. فقال: من التابعين. فأتي بطاوُس اليماني فدخل عليه فخلع نعليه بحاشية بساطه، وقال: السلام عليك يا هشام وجلس فقال: كيف انت يا هشام؟ فغضب هشام غضباً شديداً حتى هم بقتله. فقيل له إنك في حرم الله ورسوله ولا يحل ذلك.. فقال له هشام: ما حملك على ما صنعت؟ قال طاوُس: وما الذي صنعت؟.. فذكر له هشام ما أغضبه حتى قال: ولم تسلم عليّ بإمرة المؤمنين فأجابه طاوُس: ((ليس كل الناس راضين بإمرتك فكرهت أن أكذب)).
وهذا أبو جعفر المنصور ثاني خلفاء بني العباس يدعو سفيان الثوري فيقول له: عظني أبا عبد الله. فيجيبه سفيان: وما عملت يا أمير المؤمنين فيما عملت حتى أعظك فيما جهلت؟ فيقول المنصور: ما يمنعك أن تأتينا؟ فيقول سفيان: قال الله تعالى ((ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار)).
فهو يقول له رأيه فيه بجرأة إلا من وصل بالله قلبه، ويعلن له أنه من الذين ظلموا ومن الذين لا يعملون بما علموا ولذلك يأبى أن يأتي إليه أو يخاطبه. حتى يقول فيه ((ألقينا الحَب الى العلماء فالتقطوا إلاّ ما كان من سفيان فإنه أعيانا فراراً)).
وشرط أهل البصرة للمنصور أيضاً أن لا يخرجوا عليه فان هم فعلوا حلت له دماؤهم. ثم نقضوا شرطهم وخرجوا عليه، وأراد أن ينفذ ما شرطوا له.. فسأل أبا حنيفة النعمان في ذلك فقال له: ((انهم شرطوا ما لا يملكونه، وشرطت عليهم ما ليس لك.. فان أخذتهم أخذت بما لا يحل)).
ولقي هارون الرشيد الفضيل بن عياض ـ وكان من العباد الزاهدين ـ فسلم عليه وقال له: ((يالها من كف، ما ألينها إن نجت غداً من عذاب الله عز وجل)) ووعظه وعظاً شديداً فكان من قوله له: ((إياك أن تصبح و تمسي وفي قلبك غش لأحد من رعيتك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أصبح لهم غاشاً لم يرح رائحة الجنة)).
وحين سأل هارون الرشيد أبا يوسف تلميذ أبي حنيفة وصاحبه، أن يكتب له كتاب يبين له فيه بعض قواعد الإسلام المتعلقة بجباية الأموال وتولية الولاة والقضاة وجهاد المشركين وحرب البغاة والمرتدين. اغتنم الفرصة السانحة ليجعل مقدمة كتابه حديثاً جامعاً في واجبات الحاكم وما يحل له وملا يحل له في مباشرته أمور رعيته. وهو بيان بليغ ناطق بمدى إيمان هؤلاء العلماء الأفذاذ بحقهم في إبداء الرأي و واجبهم في التبليغ والبيان والنصح للحكام.
فكان مما جاء في مقدمة كتابه: ((فلا تلق الله غداً وأنت سالك سبيل المعتدين، فإنّ ديان الدين يوم الدين إنما يدين العباد بأعمالهم ولا يدينهم بمنازلهم وقد حذرك الله فاحذر، فإنك لم تخلق عبثاً، ولن تترك سدى. وإن الله سائلك عما أنت فيه وعما عملت به فانظر ما الجواب. واعلم أنه لن تزول قدم عبد حتى يسأل عن أربع: عن علمه ما عمل فيه وعن عمره فيم أفناه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسده فيم أبلاه. فأعدد يا أمير المؤمنين للمسألة جوابها فان ما عملت فأثبت فهو عليك غدا يقرأ، فاذكر كشف قناعك فيما بينك وبين الله في مجمع الأشهاد. وإني أوصيك يا أمير المؤمنين بحفظ ما استحفظك الله، ورعاية ما استرعاك الله، وألا تنظر في ذلك إلا إليه وله. فإنك إن لم تفعل تتوعر عليك سهولة الهدى، وتعمى في عينيك وتتعفى رسومه، ويضيق عليك رحبه، وتنكر منه ما تعرف، وتعرف منه ما تنكر)).
ولم يكن هارون الرشيد حاكماً صغير الشأن محدود السلطان بل إنه هو الذي مرت به سحابة فقال بعض أصحابه: أمطرينا… فرد هارون قائلا: أمطري حيث شئت فسوف يأتيني خراجك)). وابو يوسف يدرك بما علم من دين الله وسنة رسوله، وسيرة أصحابه واجبه نحو الحاكم فيوجه له هذا الكلام ناصحاً ومذكراً، في عبارة بينة بلا غموض، مستقيمة بلا عوج. ولله در عمر بن الخطاب إذ يقول عن نصح الرعية وحاكمهم وصراحتهم معه ((لا خير فيهم إن لم يقولوها، ولا خير فينا إن لم نقبل)).
ولم يكن ذلك مسلك العلماء المسلمين في العصور الأولى للإسلام فحسب حين كان العهد قريباً بزمان النبوة، والاستشراف قويا إلى سيرة الصحابة رضوان الله عليهم. بل ظلت تلك سيرة العلماء في كل عصور الإسلام على امتدادها الطويل. فالتاريخ يحكي لنا عن النووي والعز بن عبد السلام وابن تيمية وكثيرين غيرهم من المتأخرين مثل هذه المواقف التي قدمناها وأشد. مع غلبة الظلم في عصور هؤلاء، وتفشي الجور والبعد عن الحق. وقد كانوا يلاقون في سبيل الحق الذي يصدعون به التعذيب والسجن والقتل أحياناً، وهم لا يداهنون ولا يشترون رضاء المخلوقين بسخط الخالق. ولعل ذلك كله ليس إلا مصداق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا تزال طائفة من أمتي قائمين بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون)).
وبعد فأين مما قدمنا قول القائلين ((لا علاقة بين الإسلام والسياسة))؟ ولم كانت هذه المواقف من علماء الإسلام اذن؟ أكانت طلبا للدنيا وسعيا وراء الجاه؟.. كلا فالذي لا مراء فيه أن الدنيا كانت تسعى إليهم ويفرون منها، والمناصب تعرض عليهم فيرفضونها. ومن كان غنياً فيهم كان غناه في عمله أو تجارته، ومات أكثرهم فقراء من المال وإن عاشوا أغنياء النفوس أعزاء القلوب.
فلم تكن مواقفهم تلك إلا صادرة عن علمهم أن هذه الشريعة التي أخلصوا لها وحدة واحدة. وأنه لا يجزئ عن العالم فيها علمه ما لم يكن مقروناً بالعمل. وأن خير العمل ما كان نصحاً للأمة، وأمراً بالمعروف، وصدعاً بالحق. فأين من ذلك كله علماؤنا اليوم؟
وبقدر ما تعتبر هذه المواقف تطبيقاً صحيحاً لتعاليم الإسلام، وتاريخاً مجيداً لعلمائه، فإنها تعتبر شهادة عدل وخير للحكام المسلمين الذين لم تغرهم الدنيا بجاهها ولا الحكم بسلطانه كي يقهروا الراي الحر والنصيحة المخلصة. وان التاريخ لينبئ بصدق أن الحاكم العادل هو الذي تزدهر الحرية في عهده. حتى إنه لا يخطئ من يقول إن عدل الحاكم وحرية الرعية يتلازمان دائماً. وأن ظلم الحاكم وجوره يقترن أبداً باختفاء الرأي الحر والكلمة الصادقة في المجتمع الذي يسوده الظلم والقهر.
وما أصدق تعبير العالم الجزائري المجاهد، الشيخ عبد الحميد بن باديس عن واجب الدولة الإسلامية في كفالة الحرية للفرد المسلم، قال: ((حق كل إنسان في الحرية كحقه في الحياة، ومقدار ما عنده من حياة هو مقدار ما عنده من حرية. والمعتدى عليه في شيء من حريته كالمعتدى عليه في شيء من حياته، وما أرسل الله من رسل وما شرع لهم الشرع إلا ليحيوا أحراراً، وليعرفوا كيف يأخذوا بأسباب الحياة والحرية، وحتى يستثمروا تلك الحياة وتلك الحرية إلى أقصى حدود الاستثمار النافع، وما انتشر الإسلام في الأمم إلا لما شاهدت فيه من تعظيم للحياة والحرية ومحافظة عليها وتسوية بين الناس فيها مما لم تعرفة تلك الأمم من قبل لا من ملوكها ولا من أحبارها ورهبانها)).
وكان جماع هذه المعاني كلها ما جاء في الاعلان العالمي عن حقوق الإنسان في الإسلام الصادر عن المؤتمر الإسلامي العالمي (لندن / أبريل / 1980) ونصه:
حق الحرية:
( أ ) حرية الإنسان مقدسة ـ كحياته سواء بسواء ـ وهي الصفة الطبيعية الأولى بها يولد الإنسان: ((ما من مولود إلا ويولد على الفطرة)) وهي مستصحبة ومستمرة ليس لأحد أن يعتدي عليها: ((متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً))، ويجب توفير الضمانات الكافية لحماية حرية الأفراد، ولا يجوز تقييدها أو الحد منها إلا بسلطان الشريعة، وبالإجراءات التي تقرها.
( ب ) لا يجوز لشعب أن يعتدي على حرية شعب آخر، وللشعب المعتدى عليه أن يرد العدوان، ويسترد حريته بكل السبل الممكنة: ((ولمن أنتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل)) وعلى المجتمع الدولي مساندة كل شعب يجاهد من أجل حريته، ويتحمل المسلمون في هذا واجباً لا ترخص فيه: ((الذين إن مكّناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر)).
حق اللجوء:
( أ ) من حق كل مسلم مضطهد أو مظلوم أن يلجأ إلى حيث يأمن، في نطاق دار الإسلام. وهو حق يكفله الإسلام لكل مضطهد، أياً كانت جنسيته، أو عقيدته، أو لونه، ويحمل المسلمين واجب توفير الأمن له متى لجأ إليهم: ((وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه)).
( ب ) بيت الله الحرام ـ بمكة المشرفة ـ هو مثابة وأمن للناس جميعاً لا يصد عنه مسلم: ((وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا)) ((ومن دخله كان آمنا)) ((سواء العاكف فيه والباد)).
.الوحدة