السلفية الحركية.. النشأة والمسار
نبيل البكيري [email protected]
ظهرت حركة الشيخ محمد بن عبدالوهاب كحركة دينية إصلاحية في منطقة نجد من أواسط الجزيرة العربية في أوائل القرن الثامن عشر كنتيجة طبيعية لحالة التخلف والركود والانحطاط الذي وصلت إليه الأمة والذي كان يلبس رداء الدين، فانتشر الجهل والخرافة والدجل والشعوذة التي أدت إلى ردت فعل تمثل بهذه الحركة الإصلاحية السلفية.
ومثل ظهور محمد بن سعود كزعيم سياسي تزامنا مع حركة الشيخ محمد بن عبدالوهاب هذه التي اصطلح على تسميتها بالوهابية، نقطة تحول في اتجاه ومسار هذه الحركة الإصلاحية الدينية التي جاءت من أجله، خاصة مع مبايعة ابن سعود للشيخ بن عبدالوهاب لنشر دعوة هذا الأخير في عام 1744م، هادفا في نفس الوقت إلى إكساب شرعية دينية لدولته الوليدة هذه، في الوقت الذي يضمن فيها ابن عبدالوهاب حماية سياسية لنشر دعوته.
ومع استمرار هذا التحالف القائم بين الدولة السعودية ممثلة بأسرة آل سعود، والدعوة الوهابية ممثلة بآل الشيخ، الذين هم أحفاد لابن عبدالوهاب، فقد مثل انتكاسة لهذه الأخيرة وارتدادا عما دعت إليه وذلك لتحولها إلى مجرد أداة وورقة شرعية وعصا غليظة يرفعها الحاكم في وجه خصومة السياسيين، ولو كانوا من نفس هذه المدرسة.
وتماهى هنا الديني بالسياسي والعكس، وذلك من خلال تحول القرار السياسي إلى فتوى دينية تمهر بأختام الهيئات الدينية العليا كلها، فأصبح الدين هنا مجرد وسيلة للمزايدة وأداة لشر عنة السياسة ليس إلا، وفتاوى استقدام القوات الأمريكية وحلفائها إلى الأراضي المقدسة عام 1990م إثر الاجتياح العراقي للكويت، وفتاوى السلام مع اليهود عام 1993م(1)، ثم فتاوى تحريم العمليات الاستشهادية والجهاد في العراق وغيرها، والتي كانت بمثابة قرارات صادرة عن القصر الملكي، ما هي إلا جزءً من هذا الإسفاف في استخدام الدين لتمرير مثل هذه القرارات السياسية والتي لا تخدم غير الأسرة المالكة ومصالحها الخاصة.
وفي ظل هكذا وضع ظهرت هناك أصوات ودعوات للإصلاح والمراجعة في إطار هذه المدرسة السلفية الوهابية.
فقد مثل تمرد الإخوان السعوديين وهم هنا الإخوان النجديين أنصار الشيخ محمد بن عبدالوهاب والذين حاربوا مع ابن سعود في تمديد وتوسيع سلطته السياسية على كافة الأراضي التي تعرف اليوم بالمملكة السعودية أول تمرد على المؤسستين السياسية والدينية السعوديتين والتي استطاع الملك عبدالعزيز بن سعود من السيطرة عليها مبكرا إثر موقعة السبلة 1929م(2) التي شاركت فيها الطائرات البريطانية إلى جانب قوات ابن سعود.
وما عرف بحركة جهيمان العتيبي أيضا في عام 1979م والتي استولى فيها على الحرم المكي إلا واحدة من تلك الأصوات التي دعت إلى إصلاح الوضع ووضع حد للفساد، وقد عبر جهيمان عن هذا من خلال سبع كراريس كانت بمثابة رسائل تعالج موضوعات سياسية ودينية بحتة.
ويقول في كتابه (دعوة الإخوان كيف بدأت وإلى أين تسير؟) ويقصد بالإخوان هنا الإخوان النجديين وهم أنصار الشيخ محمد بن عبدالوهاب يقول فيه «نحن مسلمون نود أن نتعلم الشريعة لكن سرعان ما أدركنا أننا لا يمكن أن نتعلم في مؤسسات تقيدها الحكومة، ولقد انفصلنا عن الانتهازيين والمأجورين» وأما موقفه من آل سعود فيتحدث جهيمان: «فهؤلاء الحكام ليسوا أئمة لأن إمامتهم للمسلمين باطلة ومنكر يجب إنكاره لأنهم لا يقيمون الدين ولم يجتمع عليهم المسلمون وإنما أصحاب ملك سخروا الدين لصالحهم وجعلوه وسيلة لتحقيق مصالحهم الدنيوية فعطلوا الجهاد ووالوا النصارى (أمريكا) وجلبوا على المسلمين كل شر وفساد، نسأل الله أن يريح المسلمين منهم ويجعل لهم من لدنه وليا ويجعل لهم من لدنه نصيرا)(3).
كما تضمنت الكراريس الست انتقادات حادة للمؤسسة الدينية الوهابية الرسمية ورجالها وخاصة فيما يتعلق بصمتهم الرهيب تجاه مفاسد الأسرة الحاكمة، لكن وكما هو معروف فقد قوبلت هذه الحركة بعنف وقسوة النظام الحاكم وسطوته ومثلت المؤسسة الوهابية الرسمية سلاحا رئيسيا في هذه المواجهة، من خلال تلك الحملات الإعلامية في تضليل وتكفير أتباع هذه الحركة، ووصفها بأبشع الأوصاف وأقذعها، وظهرت في تلك الأثناء شائعات لا نستطيع تفسيرها والجزم بصحتها بمعزل عن الجو العام للأزمة، وهي أن أحد أتباع جهيمان وهو محمد بن سعود القحطاني ادعى أنه المهدي المنتظر ومما يشكك في هذا الأمر هو أن كلا الرجلين جهيمان العتيبي الذي كان ضابطا لمدة 18 عاما في الحرس الملكي وتلميذا للعلوم الدينية في جامعة مكة الإسلامية وصاحبه محمد القحطاني هذا هو الآخر تلميذ للشيخ ابن باز أيضا، ومن هنا لا يتأتى أن يدعي مثل هذا الخزعبلات التي ستؤثر على حركتهم وتضرها أكثر من أن تخدمها، ثم إن كتابات وتسجيلات جهيمان تنفي هذا الادعاء تماما.
ومن مجمل هذا نلاحظ أن الحركة لم تكن كما روج عنها حينها بأنها فتنة وفاعليها مجرمون وخارجون عن النظام والقانون بقدر ما كانت حركة سياسية احتجاجية ذات مطالب إصلاحية في كلا المؤسستين السعوديتين الدينية والحكومية، هذا عدا عن الطموح السياسي في الحكم والسلطان الذي فسرته رسالة البيعة والإمارة والطاعة لجهيمان.
ثم إنه ومن خلال هذه الأحداث نجد أن هذه الحركة الاحتجاجية المعارضة كانت في عملها أقرب إلى الطابع الارتجالي العشوائي منها إلى الحركي المنظم وهذا ما مكن النظام الحاكم من القضاء عليها قضاء مبرما وإنهاءها بهذه الصورة الدراماتيكية لتكون درسا لمن بعدها من حركات المعارضة في إطار هذا المدرسة الفكرية.
وتزامناً مع نشأة هذه الجماعة السلفية التي كانت تعرف بجماعة الحسبة كان هناك تيار سلفي آخر قد قطع شوطاً كبيرا في الإعداد والتكون والتمدد والانتشار متكئاً في أسسه وأفكاره على الوهابية عقيدة والإخوان حركة وتنظيما.
فقد بدأت تتبلور حينها بوادر هذا التيار السلفي الحركي الذي حاول مؤسسوه أن يطعموا العقيدة السلفية الوهابية الجامدة بالدينامكية الحركية للإخوان، هذه الفكرة التي كانت تراود أبرز مؤسسي هذا التيار الشيخ محمد سرور زين العابدين بن نايف الإخواني السوري السابق الذي ينسب إليه هذا التيار السلفي الذي يطلق عليه البعض تسمية السرورية.
ذلك التيار السلفي الذي هو محل دراستنا وبحثنا هنا والذي يطلق عليه خصومه بالتيار السروري أو القطبي(4) وينكر أصحابه هذه التسمية بشدة ويحبون أن يطلق عليهم بالتيار الصحوي أو تيار الصحوة الإسلامية.
وقبل أن نخوض في تفاصيل هذا التيار، أشير هنا أني عييت في إيجاد مراجع علمية، يمكن الاعتماد عليها، وكل ما وجدته من أبحاث ومراجع ما هي إلا كتابات هي أقرب إلى المحاكمات منها إلى الدراسات والأبحاث تفتقد إلى الموضوعية ومن ثم كان لازما على أن أعمل بحذر شديد وأنا أخوض هذا الحقل الشائك.
تيار الصحوة الإسلامية: السلفية الحركية
البدايات الأولى: تيار الصحوة الإسلامية أو التيار الصحوي تيار ديني إصلاحي سياسي وهّابي العقيدة إخواني الفكر والتنظيم لا يتجاوز عمره الثلاثين السنة الماضية وهو وليد شرعي للصحوة الإسلامية التي برزت بقوة خلال سبعينات وثمانينات القرن الماضي ويطلق على هذا التيار بعض خصومه بالتيار السروري أو القطبي، وأما تسميته بالتيار السروري فهي نسبة إلى القيادي الإخواني السوري السابق الشيخ محمد سرور زين العابدين بن نايف الذي قدم إلى المملكة العربية السعودية في منتصف ستينات القرن الماضي وعمل أستاذا في معهد بريدة العلمي(5) لمدة تزيد عن خمس سنوات هاجر بعدها إلى الكويت لأسباب لم يفصح عنها حتى اليوم.
وانتقل بعد إقامته في الكويت لمدة أربع سنوات إلى لندن التي أسس فيها مركز دراسات السنة النبوية في مدينة برمنجهام البريطانية وأصدر مجلة السنة اللندنية التي لعبت دورا كبيرا أثناء حرب الخليج الثانية خلال الصراع المحتدم حينها بين هذا التيار والسلطات الحاكمة السعودية على خلفية فتوى استقدام القوات الأمريكية لحماية المملكة وتحرير الكويت، والتي توقفت عن الصدور بعد ذلك ويقيم الشيخ سرور حاليا في العاصمة الأردنية عمان.
وأما تسمية هذا التيار بالقطبي فهي نسبة إلى كل من الشهيد سيد قطب وأخيه غير الشقيق الشيخ محمد قطب وذلك لاهتمام هذا التيار بأفكار هذين المفكرين الإسلاميين وأدبياتهما الفكرية والتنظيمية والحركية حيث يعد هذا التيار نفسه أنه من يمثل التيار الإخواني الحقيقي الذي اختطف بعد ذلك -كما يعتقدون- ويرى هذا التيار أن سيد قطب بمثابة المرشد الثاني له بعد الإمام البنا والشيخ سرور بمثابة المرشد الثالث له.
وبالنسبة لتسميته بالسرورية أو القطبية فهو ما ينفيه أصحاب هذا التيار بشدة وعلى رأسهم الشيخ محمد سرور الذي قال إن هذه التسمية ما هي إلا تهمة لهذا التيار المبارك للتشويش والتشكيك والتقليل من حجمه ومكانته من خلال نسبته إلى شخص متسائلا من هذا الذي يقبل أن ينسب إلى شخص ما(6).
وإن سلمنا جدلا هنا أن هذه التسمية ليست إلا تهمة وتهكما يطلقها خصوم هذا التيار فإن هذا لا ينفي الدور الكبير والأثر البارز للشيخ محمد سرور بن نايف في تكوين هذا التيار فكريا وتنظيميا إذا يمثل أحد مراجعه الفكرية والحركية بلا منازع وذلك لخلفيته الحركية والتنظيمية والسياسية التي اكتسبها في إطار التنظيم الإخواني السوري من جهة ثم توافقه الفكري الكبير مع فكر المدرسة السلفية الوهابية العقدية من جهة ثانية.
أضف إلى هذا اختلافه وخروجه التنظيمي عن إخوانه في التنظيم الإخواني السوري الذي يعد دليلا على أنه وجد بديلا في هذا التنظيم الوليد يشبع من طموحه الشخصي والقيادي ثم ما يقال عن اختلافه مع مراقب الإخوان في التنظيم السعودي حينذاك الشيخ مناع القطان الذي كان ملتزما للنظام السعودي بعدم العمل الحركي في المجتمع السعودي بين المواطنين السعوديين وهو ما اخترقه الشيخ سرور من خلال البدء بالعمل الحركي بين السعوديين.
ولكي نكون أكثر دقة في تحديد البدايات الأولى لهذا التيار التي سبقت مخاض هذا التكوين الذي هو عليه اليوم فإن التتبع التاريخي لحقيقة هذا التيار يشير إلى أن جذوره تعود إلى فترة الستينات من القرن الماضي وهي الفترة التي حدث فيها الصدام والمواجهة بين تيار الإخوان المسلمين في مصر ونظام جمال عبدالناصر وما تلا ذلك من حملات الاعتقال والتشريد والإعدامات في صفوف هذه الجماعة والتي رأى بعض أفرادها أن المملكة العربية السعودية تمثل ملجأ آمنا لهم من بطش عبدالناصر وذلك من خلال استقرائهم للواقع السياسي حينذاك والذي كان لصالحهم.
وذلك من خلال اشتداد المواجهة والصراع بين نظامي الرياض والقاهرة وهي الفترة التي يطلق عليها في التاريخ العربي الحديث بالحرب العربية الباردة بين نظامي عبدالناصر وفيصل بن عبدالعزيز والتي كانت اليمن تمثل أحد ميادين هذه المواجهة.
وفي تلك الأثناء عمد الملك فيصل إلى استقطاب كوادر الإخوان لأهداف عدة منها سياسية وهي نكاية بخصمه عبدالناصر من حيث استخدام الإخوان كورقة ضغط ضده في اللحظة المناسبة ثم إن المملكة في تلك الفترة كانت في بداية نهضتها العمرانية وكانت في أمسّ الحاجة إلى كادر مؤهل في كل التخصصات والمجالات وكان الإخوان أهلا لذلك بحكم تأهلهم فمثلوا بذلك نقلة نوعية في مجال التحديث العمراني السريع الذي دفعت إليه الوفرة النفطية السعودية(7).
أضف إلى ذلك -كما قلنا- السياسات الإقليمية التي أجبرت الرياض إلى استخدام ورقة الإسلام السياسي المتمثل بتيار الإخوان كسلاح في نزاعها العقائدي -السياسي مع جيرانها القوميين من ناصريين وبعثيين(8).
ومن خلال وجود الإخوان في كل مرافق الدولة السعودية من تعليم إلى إعلام إلى صناعة إلى غيرها من المرافق التي مثل التعليم أهمها فقد اتسع دورهم مما جعلهم يلعبون دورا كبيرا في صياغة مناهجها وأفكارها مما يعني أيضا أنهم نقلوا إلى هذه المناهج نظرتهم الخاصة للإسلام بشموله لكل مجالات الحياة والتي تعني أن الإسلام كما أنه دين فهو كذلك دولة ومصحف وسيف.
ومن خلال هذا التلاقح والامتزاج الفكري بين السلفية والإخوان نشأ هذا التيار الذي أراح الفكر السلفي الوهابي كثيرا عن منازلة المعتزلة والأشاعرة وخرج به من عقدته المزمنة في صراعه مع الماضي إلى آفاق أكثر رحابة وأوسع رؤى من تلك التي كان مأسورا لها ومشدودا إليها.
ولما يمتاز به الفكر الإخواني من ديناميكية حركية فقد أضاف إلى الفكر السلفي الوهابي المتصف بأستاتيكيته العجيبة طاقة حركية جعلته يندفع إلى أعلى بعيدا عن متناول الحكام، ولهذا السبب فقط اندفع الأمير نايف بن عبدالعزيز وزير الداخلية السعودية في هجومه الحاد والعنيف ضد جماعة الإخوان المسلمين بشقيه المصري والسوري في 2002 والذي اتهمهم فيه بأنهم سبب البلاء وفساد المجتمع السعودي وأنهم سبب الإرهاب(9).
العقد الذهبي للسلفية الحركية
لقد مثلت فترة الثمانينات المرحلة الذهبية للتيار الصحوي فتمدد في كل الاتجاهات والأمكنة من المدارس والجامعات إلى الأندية والمساجد وحلقات التحفيظ شاملا بذلك معظم قطاعات المجتمع السعودي بكافة أعمارهم ومستوياتهم العلمية والثقافية وظهر في هذه الفترة أيضا معظم مشايخ هذا التيار من خلال محاضراتهم وخطبهم وندواتهم في المساجد والجامعات وكان على رأس هؤلاء شيخا التيار البارزان الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة والشيخ الدكتور سفر بن عبدالرحمن الحوالي وكذا كلٌ من الشيخ عائض القرني، الدويش، سعيد بن مسفر وناصر العمر وغيرهم الكثير والذين انتشرت أشرطتهم في كل مكان فحازت مكانة كبيرة في قلوب الناس لعدة أسباب كان في مقدمتها أنه خطاب ديني لم يألفه الناس بمثل هذه الشمولية لكل مناحي الحياة ثم ملامسته لقضايا الواقع ومعالجته لهموم الناس ومشاكلهم وذلك بأسلوب أكثر اعتدالا وواقعية.
وقد مثلت كتابات المفكر الإسلامي والصحفي المصري جمال سلطان في تلك الفترة من الناحية الفكرية زادا معرفيا وفكريا لشباب هذا التيار فتحت مداركهم الفكرية حول العديد من القضايا المعاصرة التي كان يزهد التيار السلفي التقليدي الشباب من الخوض فيها لا لشيء إلا لأنها تشغل طلاب العلم عن تلقي العلم الشرعي بزعمهم.
وكما أشرنا سابقا إلى حادثة الاستيلاء على الحرم المكي في 1979م من قبل الناشط جهيمان العتيبي، فقد مثلت هذه الحادثة نقطة التحول الكبرى في تطور تيار الصحوة خلال فترة الثمانينات واتجاهه إلى الجانب الحركي التنظيمي الدقيق في البناء الكمي والكيفي لهذا التيار.
في هذه الفترة عمد النظام السعودي إلى تعزيز المؤسسة الدينية وإنفاق مزيد من الأموال الهائلة على هذه المؤسسة ودعم شرعيتها بدلا من انتهاز هذه الفرصة للبدء في تغيير سياسي واجتماعي طال أمد الحاجة إليه (10).
وقد أدى ذلك، بشكل غير مقصود، إلى تقوية تيار الصحوة أو التيار السلفي الحركي، الذي استخدم وجوده القوي في القطاع التعليمي للاستفادة من الإمكانات المالية الكبيرة في أنشطته الدعوية والحركية (11).
وبحسب الباحث والكاتب السعودي على العميم فقد «كانت هذه السنوات سنوات إيغال المؤسسة السياسية واستغراقها في دعم فكر الحركة الإسلامية ورعايتها وتمكينه من التغلغل في أوردة الدولة والسريان في شرايين المجتمع على نطاق رسمي وشعبي إلى الحد الذي كان فيه رموز الفكر الإسلامي الحركي السني وشخصياته المعاصرة لها ما يداني المهابة التي يحظى بها علماء المؤسسة الدينية الرسمية ومشايخها التقليديون(12).
وبحسب العميم أيضا فقد كان النظام السعودي ينظر إلى فكر الحركة الإسلامية على أنه صمام أمان سياسي ثقافي وفكري للدولة والمجتمع السعودي وأنه لا يشكل -البتة- تهديدا سياسيا وخطرا عقائديا إلا على الدول والمجتمعات العربية التي تنحي الإسلام فيها عن تسيير أمور الدولة وإدارة شؤون المجتمع، فالتهديد السياسي والخطر العقائدي في منظور تلك الفترة كان يعتقد أنه يأتي فقط من الأصولية الشيعية المدعومة إيرانيا، ومن الفكر العلماني بشقية القومي واليساري، إذن فإن المشايخ الجدد وحركتهم حركة الصحوة لم يكن لا هذا ولا ذاك فترك لهم الحبل على الغارب -كما يقال(13).
فأخذ مشايخ تيار الصحوة يشاركون بشكل متزايد في الحياة العامة واتخاذ مواقف معارضة لكل من اللبراليين باعتبارهم متهمين بتقويض المجتمع السعودي من خلال العلمانية وكذا المؤسسة الوهابية الرسمية التي انتقدوا عدم اهتمامها بالقضايا المعاصرة وتأييدها غير المشروط لنظام الحكم(14).
ولا يخفى على أحد هنا سياسات التوازنات التي تجيد الأنظمة العربية استخدامها في إدارة مجتمعاتها ولو على حساب مقدسات الأمة وثوابتها الوطنية ومن هنا عمد النظام السعودي من خلال هذا التيار الجديد إلى استخدامه -من حيث لا يشعر- لشق وإضعاف تيار الإخوان السعوديين خاصة تيار الإخوان المسلمين عموما فوفر لهذا التيار كل أسباب العمل والانتشار والدعم المادي والمعنوي ليكن لهم عدوا وحزنا وهذا ما سنتناوله في الحلقة القادمة بمشيئة الله تعالى.
نبيل البكيري [email protected]
ظهرت حركة الشيخ محمد بن عبدالوهاب كحركة دينية إصلاحية في منطقة نجد من أواسط الجزيرة العربية في أوائل القرن الثامن عشر كنتيجة طبيعية لحالة التخلف والركود والانحطاط الذي وصلت إليه الأمة والذي كان يلبس رداء الدين، فانتشر الجهل والخرافة والدجل والشعوذة التي أدت إلى ردت فعل تمثل بهذه الحركة الإصلاحية السلفية.
ومثل ظهور محمد بن سعود كزعيم سياسي تزامنا مع حركة الشيخ محمد بن عبدالوهاب هذه التي اصطلح على تسميتها بالوهابية، نقطة تحول في اتجاه ومسار هذه الحركة الإصلاحية الدينية التي جاءت من أجله، خاصة مع مبايعة ابن سعود للشيخ بن عبدالوهاب لنشر دعوة هذا الأخير في عام 1744م، هادفا في نفس الوقت إلى إكساب شرعية دينية لدولته الوليدة هذه، في الوقت الذي يضمن فيها ابن عبدالوهاب حماية سياسية لنشر دعوته.
ومع استمرار هذا التحالف القائم بين الدولة السعودية ممثلة بأسرة آل سعود، والدعوة الوهابية ممثلة بآل الشيخ، الذين هم أحفاد لابن عبدالوهاب، فقد مثل انتكاسة لهذه الأخيرة وارتدادا عما دعت إليه وذلك لتحولها إلى مجرد أداة وورقة شرعية وعصا غليظة يرفعها الحاكم في وجه خصومة السياسيين، ولو كانوا من نفس هذه المدرسة.
وتماهى هنا الديني بالسياسي والعكس، وذلك من خلال تحول القرار السياسي إلى فتوى دينية تمهر بأختام الهيئات الدينية العليا كلها، فأصبح الدين هنا مجرد وسيلة للمزايدة وأداة لشر عنة السياسة ليس إلا، وفتاوى استقدام القوات الأمريكية وحلفائها إلى الأراضي المقدسة عام 1990م إثر الاجتياح العراقي للكويت، وفتاوى السلام مع اليهود عام 1993م(1)، ثم فتاوى تحريم العمليات الاستشهادية والجهاد في العراق وغيرها، والتي كانت بمثابة قرارات صادرة عن القصر الملكي، ما هي إلا جزءً من هذا الإسفاف في استخدام الدين لتمرير مثل هذه القرارات السياسية والتي لا تخدم غير الأسرة المالكة ومصالحها الخاصة.
وفي ظل هكذا وضع ظهرت هناك أصوات ودعوات للإصلاح والمراجعة في إطار هذه المدرسة السلفية الوهابية.
فقد مثل تمرد الإخوان السعوديين وهم هنا الإخوان النجديين أنصار الشيخ محمد بن عبدالوهاب والذين حاربوا مع ابن سعود في تمديد وتوسيع سلطته السياسية على كافة الأراضي التي تعرف اليوم بالمملكة السعودية أول تمرد على المؤسستين السياسية والدينية السعوديتين والتي استطاع الملك عبدالعزيز بن سعود من السيطرة عليها مبكرا إثر موقعة السبلة 1929م(2) التي شاركت فيها الطائرات البريطانية إلى جانب قوات ابن سعود.
وما عرف بحركة جهيمان العتيبي أيضا في عام 1979م والتي استولى فيها على الحرم المكي إلا واحدة من تلك الأصوات التي دعت إلى إصلاح الوضع ووضع حد للفساد، وقد عبر جهيمان عن هذا من خلال سبع كراريس كانت بمثابة رسائل تعالج موضوعات سياسية ودينية بحتة.
ويقول في كتابه (دعوة الإخوان كيف بدأت وإلى أين تسير؟) ويقصد بالإخوان هنا الإخوان النجديين وهم أنصار الشيخ محمد بن عبدالوهاب يقول فيه «نحن مسلمون نود أن نتعلم الشريعة لكن سرعان ما أدركنا أننا لا يمكن أن نتعلم في مؤسسات تقيدها الحكومة، ولقد انفصلنا عن الانتهازيين والمأجورين» وأما موقفه من آل سعود فيتحدث جهيمان: «فهؤلاء الحكام ليسوا أئمة لأن إمامتهم للمسلمين باطلة ومنكر يجب إنكاره لأنهم لا يقيمون الدين ولم يجتمع عليهم المسلمون وإنما أصحاب ملك سخروا الدين لصالحهم وجعلوه وسيلة لتحقيق مصالحهم الدنيوية فعطلوا الجهاد ووالوا النصارى (أمريكا) وجلبوا على المسلمين كل شر وفساد، نسأل الله أن يريح المسلمين منهم ويجعل لهم من لدنه وليا ويجعل لهم من لدنه نصيرا)(3).
كما تضمنت الكراريس الست انتقادات حادة للمؤسسة الدينية الوهابية الرسمية ورجالها وخاصة فيما يتعلق بصمتهم الرهيب تجاه مفاسد الأسرة الحاكمة، لكن وكما هو معروف فقد قوبلت هذه الحركة بعنف وقسوة النظام الحاكم وسطوته ومثلت المؤسسة الوهابية الرسمية سلاحا رئيسيا في هذه المواجهة، من خلال تلك الحملات الإعلامية في تضليل وتكفير أتباع هذه الحركة، ووصفها بأبشع الأوصاف وأقذعها، وظهرت في تلك الأثناء شائعات لا نستطيع تفسيرها والجزم بصحتها بمعزل عن الجو العام للأزمة، وهي أن أحد أتباع جهيمان وهو محمد بن سعود القحطاني ادعى أنه المهدي المنتظر ومما يشكك في هذا الأمر هو أن كلا الرجلين جهيمان العتيبي الذي كان ضابطا لمدة 18 عاما في الحرس الملكي وتلميذا للعلوم الدينية في جامعة مكة الإسلامية وصاحبه محمد القحطاني هذا هو الآخر تلميذ للشيخ ابن باز أيضا، ومن هنا لا يتأتى أن يدعي مثل هذا الخزعبلات التي ستؤثر على حركتهم وتضرها أكثر من أن تخدمها، ثم إن كتابات وتسجيلات جهيمان تنفي هذا الادعاء تماما.
ومن مجمل هذا نلاحظ أن الحركة لم تكن كما روج عنها حينها بأنها فتنة وفاعليها مجرمون وخارجون عن النظام والقانون بقدر ما كانت حركة سياسية احتجاجية ذات مطالب إصلاحية في كلا المؤسستين السعوديتين الدينية والحكومية، هذا عدا عن الطموح السياسي في الحكم والسلطان الذي فسرته رسالة البيعة والإمارة والطاعة لجهيمان.
ثم إنه ومن خلال هذه الأحداث نجد أن هذه الحركة الاحتجاجية المعارضة كانت في عملها أقرب إلى الطابع الارتجالي العشوائي منها إلى الحركي المنظم وهذا ما مكن النظام الحاكم من القضاء عليها قضاء مبرما وإنهاءها بهذه الصورة الدراماتيكية لتكون درسا لمن بعدها من حركات المعارضة في إطار هذا المدرسة الفكرية.
وتزامناً مع نشأة هذه الجماعة السلفية التي كانت تعرف بجماعة الحسبة كان هناك تيار سلفي آخر قد قطع شوطاً كبيرا في الإعداد والتكون والتمدد والانتشار متكئاً في أسسه وأفكاره على الوهابية عقيدة والإخوان حركة وتنظيما.
فقد بدأت تتبلور حينها بوادر هذا التيار السلفي الحركي الذي حاول مؤسسوه أن يطعموا العقيدة السلفية الوهابية الجامدة بالدينامكية الحركية للإخوان، هذه الفكرة التي كانت تراود أبرز مؤسسي هذا التيار الشيخ محمد سرور زين العابدين بن نايف الإخواني السوري السابق الذي ينسب إليه هذا التيار السلفي الذي يطلق عليه البعض تسمية السرورية.
ذلك التيار السلفي الذي هو محل دراستنا وبحثنا هنا والذي يطلق عليه خصومه بالتيار السروري أو القطبي(4) وينكر أصحابه هذه التسمية بشدة ويحبون أن يطلق عليهم بالتيار الصحوي أو تيار الصحوة الإسلامية.
وقبل أن نخوض في تفاصيل هذا التيار، أشير هنا أني عييت في إيجاد مراجع علمية، يمكن الاعتماد عليها، وكل ما وجدته من أبحاث ومراجع ما هي إلا كتابات هي أقرب إلى المحاكمات منها إلى الدراسات والأبحاث تفتقد إلى الموضوعية ومن ثم كان لازما على أن أعمل بحذر شديد وأنا أخوض هذا الحقل الشائك.
تيار الصحوة الإسلامية: السلفية الحركية
البدايات الأولى: تيار الصحوة الإسلامية أو التيار الصحوي تيار ديني إصلاحي سياسي وهّابي العقيدة إخواني الفكر والتنظيم لا يتجاوز عمره الثلاثين السنة الماضية وهو وليد شرعي للصحوة الإسلامية التي برزت بقوة خلال سبعينات وثمانينات القرن الماضي ويطلق على هذا التيار بعض خصومه بالتيار السروري أو القطبي، وأما تسميته بالتيار السروري فهي نسبة إلى القيادي الإخواني السوري السابق الشيخ محمد سرور زين العابدين بن نايف الذي قدم إلى المملكة العربية السعودية في منتصف ستينات القرن الماضي وعمل أستاذا في معهد بريدة العلمي(5) لمدة تزيد عن خمس سنوات هاجر بعدها إلى الكويت لأسباب لم يفصح عنها حتى اليوم.
وانتقل بعد إقامته في الكويت لمدة أربع سنوات إلى لندن التي أسس فيها مركز دراسات السنة النبوية في مدينة برمنجهام البريطانية وأصدر مجلة السنة اللندنية التي لعبت دورا كبيرا أثناء حرب الخليج الثانية خلال الصراع المحتدم حينها بين هذا التيار والسلطات الحاكمة السعودية على خلفية فتوى استقدام القوات الأمريكية لحماية المملكة وتحرير الكويت، والتي توقفت عن الصدور بعد ذلك ويقيم الشيخ سرور حاليا في العاصمة الأردنية عمان.
وأما تسمية هذا التيار بالقطبي فهي نسبة إلى كل من الشهيد سيد قطب وأخيه غير الشقيق الشيخ محمد قطب وذلك لاهتمام هذا التيار بأفكار هذين المفكرين الإسلاميين وأدبياتهما الفكرية والتنظيمية والحركية حيث يعد هذا التيار نفسه أنه من يمثل التيار الإخواني الحقيقي الذي اختطف بعد ذلك -كما يعتقدون- ويرى هذا التيار أن سيد قطب بمثابة المرشد الثاني له بعد الإمام البنا والشيخ سرور بمثابة المرشد الثالث له.
وبالنسبة لتسميته بالسرورية أو القطبية فهو ما ينفيه أصحاب هذا التيار بشدة وعلى رأسهم الشيخ محمد سرور الذي قال إن هذه التسمية ما هي إلا تهمة لهذا التيار المبارك للتشويش والتشكيك والتقليل من حجمه ومكانته من خلال نسبته إلى شخص متسائلا من هذا الذي يقبل أن ينسب إلى شخص ما(6).
وإن سلمنا جدلا هنا أن هذه التسمية ليست إلا تهمة وتهكما يطلقها خصوم هذا التيار فإن هذا لا ينفي الدور الكبير والأثر البارز للشيخ محمد سرور بن نايف في تكوين هذا التيار فكريا وتنظيميا إذا يمثل أحد مراجعه الفكرية والحركية بلا منازع وذلك لخلفيته الحركية والتنظيمية والسياسية التي اكتسبها في إطار التنظيم الإخواني السوري من جهة ثم توافقه الفكري الكبير مع فكر المدرسة السلفية الوهابية العقدية من جهة ثانية.
أضف إلى هذا اختلافه وخروجه التنظيمي عن إخوانه في التنظيم الإخواني السوري الذي يعد دليلا على أنه وجد بديلا في هذا التنظيم الوليد يشبع من طموحه الشخصي والقيادي ثم ما يقال عن اختلافه مع مراقب الإخوان في التنظيم السعودي حينذاك الشيخ مناع القطان الذي كان ملتزما للنظام السعودي بعدم العمل الحركي في المجتمع السعودي بين المواطنين السعوديين وهو ما اخترقه الشيخ سرور من خلال البدء بالعمل الحركي بين السعوديين.
ولكي نكون أكثر دقة في تحديد البدايات الأولى لهذا التيار التي سبقت مخاض هذا التكوين الذي هو عليه اليوم فإن التتبع التاريخي لحقيقة هذا التيار يشير إلى أن جذوره تعود إلى فترة الستينات من القرن الماضي وهي الفترة التي حدث فيها الصدام والمواجهة بين تيار الإخوان المسلمين في مصر ونظام جمال عبدالناصر وما تلا ذلك من حملات الاعتقال والتشريد والإعدامات في صفوف هذه الجماعة والتي رأى بعض أفرادها أن المملكة العربية السعودية تمثل ملجأ آمنا لهم من بطش عبدالناصر وذلك من خلال استقرائهم للواقع السياسي حينذاك والذي كان لصالحهم.
وذلك من خلال اشتداد المواجهة والصراع بين نظامي الرياض والقاهرة وهي الفترة التي يطلق عليها في التاريخ العربي الحديث بالحرب العربية الباردة بين نظامي عبدالناصر وفيصل بن عبدالعزيز والتي كانت اليمن تمثل أحد ميادين هذه المواجهة.
وفي تلك الأثناء عمد الملك فيصل إلى استقطاب كوادر الإخوان لأهداف عدة منها سياسية وهي نكاية بخصمه عبدالناصر من حيث استخدام الإخوان كورقة ضغط ضده في اللحظة المناسبة ثم إن المملكة في تلك الفترة كانت في بداية نهضتها العمرانية وكانت في أمسّ الحاجة إلى كادر مؤهل في كل التخصصات والمجالات وكان الإخوان أهلا لذلك بحكم تأهلهم فمثلوا بذلك نقلة نوعية في مجال التحديث العمراني السريع الذي دفعت إليه الوفرة النفطية السعودية(7).
أضف إلى ذلك -كما قلنا- السياسات الإقليمية التي أجبرت الرياض إلى استخدام ورقة الإسلام السياسي المتمثل بتيار الإخوان كسلاح في نزاعها العقائدي -السياسي مع جيرانها القوميين من ناصريين وبعثيين(8).
ومن خلال وجود الإخوان في كل مرافق الدولة السعودية من تعليم إلى إعلام إلى صناعة إلى غيرها من المرافق التي مثل التعليم أهمها فقد اتسع دورهم مما جعلهم يلعبون دورا كبيرا في صياغة مناهجها وأفكارها مما يعني أيضا أنهم نقلوا إلى هذه المناهج نظرتهم الخاصة للإسلام بشموله لكل مجالات الحياة والتي تعني أن الإسلام كما أنه دين فهو كذلك دولة ومصحف وسيف.
ومن خلال هذا التلاقح والامتزاج الفكري بين السلفية والإخوان نشأ هذا التيار الذي أراح الفكر السلفي الوهابي كثيرا عن منازلة المعتزلة والأشاعرة وخرج به من عقدته المزمنة في صراعه مع الماضي إلى آفاق أكثر رحابة وأوسع رؤى من تلك التي كان مأسورا لها ومشدودا إليها.
ولما يمتاز به الفكر الإخواني من ديناميكية حركية فقد أضاف إلى الفكر السلفي الوهابي المتصف بأستاتيكيته العجيبة طاقة حركية جعلته يندفع إلى أعلى بعيدا عن متناول الحكام، ولهذا السبب فقط اندفع الأمير نايف بن عبدالعزيز وزير الداخلية السعودية في هجومه الحاد والعنيف ضد جماعة الإخوان المسلمين بشقيه المصري والسوري في 2002 والذي اتهمهم فيه بأنهم سبب البلاء وفساد المجتمع السعودي وأنهم سبب الإرهاب(9).
العقد الذهبي للسلفية الحركية
لقد مثلت فترة الثمانينات المرحلة الذهبية للتيار الصحوي فتمدد في كل الاتجاهات والأمكنة من المدارس والجامعات إلى الأندية والمساجد وحلقات التحفيظ شاملا بذلك معظم قطاعات المجتمع السعودي بكافة أعمارهم ومستوياتهم العلمية والثقافية وظهر في هذه الفترة أيضا معظم مشايخ هذا التيار من خلال محاضراتهم وخطبهم وندواتهم في المساجد والجامعات وكان على رأس هؤلاء شيخا التيار البارزان الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة والشيخ الدكتور سفر بن عبدالرحمن الحوالي وكذا كلٌ من الشيخ عائض القرني، الدويش، سعيد بن مسفر وناصر العمر وغيرهم الكثير والذين انتشرت أشرطتهم في كل مكان فحازت مكانة كبيرة في قلوب الناس لعدة أسباب كان في مقدمتها أنه خطاب ديني لم يألفه الناس بمثل هذه الشمولية لكل مناحي الحياة ثم ملامسته لقضايا الواقع ومعالجته لهموم الناس ومشاكلهم وذلك بأسلوب أكثر اعتدالا وواقعية.
وقد مثلت كتابات المفكر الإسلامي والصحفي المصري جمال سلطان في تلك الفترة من الناحية الفكرية زادا معرفيا وفكريا لشباب هذا التيار فتحت مداركهم الفكرية حول العديد من القضايا المعاصرة التي كان يزهد التيار السلفي التقليدي الشباب من الخوض فيها لا لشيء إلا لأنها تشغل طلاب العلم عن تلقي العلم الشرعي بزعمهم.
وكما أشرنا سابقا إلى حادثة الاستيلاء على الحرم المكي في 1979م من قبل الناشط جهيمان العتيبي، فقد مثلت هذه الحادثة نقطة التحول الكبرى في تطور تيار الصحوة خلال فترة الثمانينات واتجاهه إلى الجانب الحركي التنظيمي الدقيق في البناء الكمي والكيفي لهذا التيار.
في هذه الفترة عمد النظام السعودي إلى تعزيز المؤسسة الدينية وإنفاق مزيد من الأموال الهائلة على هذه المؤسسة ودعم شرعيتها بدلا من انتهاز هذه الفرصة للبدء في تغيير سياسي واجتماعي طال أمد الحاجة إليه (10).
وقد أدى ذلك، بشكل غير مقصود، إلى تقوية تيار الصحوة أو التيار السلفي الحركي، الذي استخدم وجوده القوي في القطاع التعليمي للاستفادة من الإمكانات المالية الكبيرة في أنشطته الدعوية والحركية (11).
وبحسب الباحث والكاتب السعودي على العميم فقد «كانت هذه السنوات سنوات إيغال المؤسسة السياسية واستغراقها في دعم فكر الحركة الإسلامية ورعايتها وتمكينه من التغلغل في أوردة الدولة والسريان في شرايين المجتمع على نطاق رسمي وشعبي إلى الحد الذي كان فيه رموز الفكر الإسلامي الحركي السني وشخصياته المعاصرة لها ما يداني المهابة التي يحظى بها علماء المؤسسة الدينية الرسمية ومشايخها التقليديون(12).
وبحسب العميم أيضا فقد كان النظام السعودي ينظر إلى فكر الحركة الإسلامية على أنه صمام أمان سياسي ثقافي وفكري للدولة والمجتمع السعودي وأنه لا يشكل -البتة- تهديدا سياسيا وخطرا عقائديا إلا على الدول والمجتمعات العربية التي تنحي الإسلام فيها عن تسيير أمور الدولة وإدارة شؤون المجتمع، فالتهديد السياسي والخطر العقائدي في منظور تلك الفترة كان يعتقد أنه يأتي فقط من الأصولية الشيعية المدعومة إيرانيا، ومن الفكر العلماني بشقية القومي واليساري، إذن فإن المشايخ الجدد وحركتهم حركة الصحوة لم يكن لا هذا ولا ذاك فترك لهم الحبل على الغارب -كما يقال(13).
فأخذ مشايخ تيار الصحوة يشاركون بشكل متزايد في الحياة العامة واتخاذ مواقف معارضة لكل من اللبراليين باعتبارهم متهمين بتقويض المجتمع السعودي من خلال العلمانية وكذا المؤسسة الوهابية الرسمية التي انتقدوا عدم اهتمامها بالقضايا المعاصرة وتأييدها غير المشروط لنظام الحكم(14).
ولا يخفى على أحد هنا سياسات التوازنات التي تجيد الأنظمة العربية استخدامها في إدارة مجتمعاتها ولو على حساب مقدسات الأمة وثوابتها الوطنية ومن هنا عمد النظام السعودي من خلال هذا التيار الجديد إلى استخدامه -من حيث لا يشعر- لشق وإضعاف تيار الإخوان السعوديين خاصة تيار الإخوان المسلمين عموما فوفر لهذا التيار كل أسباب العمل والانتشار والدعم المادي والمعنوي ليكن لهم عدوا وحزنا وهذا ما سنتناوله في الحلقة القادمة بمشيئة الله تعالى.