( أَصْلُهَا ثَابِتٌ وفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ) 1
د . عبد الكريم بكار
سيظل للكلمة أثرها الفعال في تغيير أفكار الناس وأمزجتهم ومشاعرهم وواقعهم ، وذلك إذا استوفت شروطاً معينة .
وليس أدل على رفعة مكانة الكلمة في حياة البشر من أن الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام -كانوا يجيدون استخدامها في التعبير عن الحقائق الراسخة والربط بينها وبين واقع البشر ورصيد الفطرة المتبقي لديهم .
فهذا نوح -عليه السلام - يجادل قومه باستفاضة ، حتى ضج قومه من ذلك حين قالوا : ( قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا ) [ هود : 32] ، وهذا إبراهيم - عليه السلام- يكرمه الله تعالى ، فيهبه من قوة الحجة ما يفحم قومه : ( وتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ إنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) [ الأنعام : 83] .
وهذا موسى -عليه السلام- يقول : ( واحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي ) [طه : 27 ، 28] ، ثم يطلب من الله تعالى أن يتفضل عليه بإشراك هارون معه في التبليغ لفصاحة لسانه حين يقول : ( وأَخِي هَرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ ) [ القصص : 34 ] . والله تعالى يقوم لخاتم أنبيائه : ( وقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً ) [ النساء : 63 ] .
وكل هذا قبس مما نسبه الباري -جل وعلا- لنفسه حين قال : ( قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ) [ الأنعام : 149] وحجج النبيين ومضامين خطابهم للخلق -في الأصول - واحدة أو تكاد ، مما يجعل جذور الكلمة الطيبة ضاربة في أعماق الزمن من لدن نوح -عليه السلام- إلى خاتمهم محمد -صلى الله عليه وسلم- ، وهذا يجعل حركة التاريخ كلها في سياقٍ عامٍ واحدٍ ، هو : التأكيد على أهمية الكلمة الطيبة في إنقاذ البشرية من الضلالة .
ونحن في كثير من الأحيان نستخف بقيمة الكلمة ، ومع أهمية العمل إلا أن لكل منهما مجاله الذي لا يصلح فيه غيره ، وفى تاريخنا الإسلامي أمثلة كثيرة جداً غيَّرت فيها الكلمة مسار شخص أو مدينة ، بل قارة ، فمما يذكرون في هذا الصدد أن وفداً من بعض بلاد أفريقية وفد حاجاً ، فالتقى بالإمام مالك بن أنس صاحب المذهب ؛ فأثنى مالك على والي ذلك البلد خيراً ، وتمنى لو رزقت المدينة مثله في عدله وصلاحه . فبلغ ذلك والي ذلك البلد الإفريقي ، فأمر بتدريس كتب مالك في بلده ، وأدى ذلك إلى انتشار المذهب المالكي في أرجاء أفريقية ! . وما أظن أن ما حدث كان يخطر للإمام على بال .
وقد تغني الكلمة الواحدة غناء جيش أو جيوش ، كما حدث في غزوة الأحزاب حين أسلم نعيم بن مسعود ، واستخدم عدم علم المشركين بذلك في تبديد الثقة بين قريش واليهود على ما هو مشهور . وقد أدركت الشركات والمؤسسات التجارية قيمة الكلمة في التأثير على المشتري ودفعه إلى شراء ما لا يحتاج له ، قال أحدهم : لو كان لى عشرة دولارات لتاجرت بواحدٍ وصنعتُ دعاية بالتسعة الباقية . وإذا أردت أن تشل فاعلية شخص ما ، فيكفى أن تقنعه : أن عمله غير ذي فائدة .
والآية التي نحن بصددها زاخرة بالمعاني والصور التي تجعل الكلمة في أرقى حال جمالاً وكمالاً ونفعاً . ولنقرأ الآية وما تلاها لنقتبس شيئاً من نورها ، قال الله -جل وعلا- : ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإذْنِ رَبِّهَا ويَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) [إبراهيم : 24-25] ، لقد شبه الباري -عز اسمه - الكلمة الطيبة بشجرة طيبة ، وهذه الشجرة الطيبة تتصف بثلاث صفات أساسية : ثبات أصلها وعمق جذورها ، ثم ذهاب فروعها وأفنانها في السماء ، ثم نفعها الدائم للخلق باستمرار أكلها وثمارها . ولنفصل القول في تنزيل هذه الصفات على الكلمة الطيبة .
1 - ثبات الأصول :
حين نعرف أن أصول دعوات الأنبياء -عليهم السلام- واحدة ، تركزت في الدعوة إلى التوحيد الخالص وعبادة الله تعالى وإقامة الحق والعدل في الأرض وإعمارها بما يسمح بإقامة مجتمع التوحيد ؛ ندرك أي جذور ضاربة تمتلكها الكلمة الطيبة على اتساع أمداء الزمان والمكان ، وندرك أي رصيد من المنطق العام الذي بناه الأنبياء تستند إليه ، وأي رصيد ضخم من الفطرة يؤازرها في عملية البلاغ المبين .
وقد أخرج البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : » أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة ، والأنبياء إخوة لعلات ، أمهاتهم شتى ودينهم واحد « . قال ابن حجر : ومعنى الحديث أن أصل دينهم واحد ، وهو التوحيد وإن اختلفت فروع الشرائع -[ فتح الباري 489/6]
فالكلمة الطيبة إرث موروث متصل بالأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- . ولكن المشكلة أن التفريق بين الأصول والفروع قد لا يتهيأ لكل الناس مما يجعل الخلط بينهما وارداً ، وحينئذ فقد يجمد ما ينبغي أن يتطور ، وقد يتطور ما ينبغي أن يثبت . واليوم نتيجة لعلميات الضغط الفكري التي تمارسها التيارات المادية ، نجد أن كثيراً من الكتاب والمفكرين الذين لهم صبغة إسلامية بدأوا يتزحزحون عن كثير من مواقعهم ، مصطحبين معهم أفكاراً أو أحكاماً عليها الإجماع ، أو السواد الأعظم من علماء المسلمين ، بل بعض الأصول التي ليست موضع نزاع .
ويحضرني هنا ما كتبه أحد الذين لهم نفس إسلامي عن لقائه مع القسس الذين يعيشون في بعض بلدان العالم الإسلامي ، حيث أثنوا على كتاباته ، وسألوه عن الوضع الذي ينبغي أن يكونوا عليه وهم يعيشون بين المسلمين ؟ وقد أجابهم بقوله : أول ما نطلبه من النصراني الذي يعيش بيننا أن يتمسك بنصرانيته… ! ! وهذا المطلب عجيب غريب ، وهو غني عن كل تعليق . فهل يصح لهذا و أضرابه أن يدعي أنه يكمل مهمة نبيه - صلى الله عليه وسلم - في تبليغ الرسالة وهداية الخلق ؟ ! .
وقريب من هذا الفتاوى التي صفق لها كثيراً الذين في قلوبهم مرض ، من أمثال : إباحة الربا الذي تتعامل به البنوك اليوم ، ومن مثل : القول بعدم وجود حد للردة في الشريعة… . الخ . وإذا استمر هذا النهج على ما هو عليه اليوم فسنجد أنفسنا أمام دين يقبل كل إضافة كما يقبل أي حذف ، ويصبح قابلاً للتشكيل على ما يشتهي أهل الأهواء والشهوات ، لأنه صار شيئاً ليس بذي طعم ولا لون ولا رائحة… ولكن ذلك لن يكون -بإذن الله- ما نشط أهل الحق في توضيحه والذود عن حياضه .
2 - مرونة الأساليب وتنوعها :
على مقدار ما تكون جذور الكلمة الطيبة وأصولها راسخة ثابتة تكون أساليبها مرنة نامية منوعة ، وهذا في حد ذاته أحد مقتضيات ثبات الأصول ؛ فأحوال البشر وأفهامهم مختلفة ، ولذلك تعدد الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وتنوعت شرائعهم ، وصدق الله العظيم إذ يقول : ( ومَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ) [إبراهيم : 14] ، فالرسول يكلم الناس بلغتهم التي يتكلمون بها على أوسع ما تحمله هذه الكلمة من دلالات ، والهدف هو : أن يبين لهم ما يدعو إليه ، وقد أخذ الأسلوب القرآني من العرب كل مأخذٍ ، وتحداهم وطاولهم في التحدي ، وأقام عليهم الحجج الدامغة التي تناسب أوضاعهم الفكرية آنذاك . واللغة في أبسط تعاريفها هي : مجموعة الإمكانات التعبيرية في بيئة من البيئات ، وهذه الإمكانات التعبيرية تتسع باتساع حضارة اللاغين بها ، واتساع غنى الخلفيات الثقافية لديهم ، وهذه الإمكانات دائمة التغيير والتشكل تمر بعين الأطوار التي يمر بها الكائن الحى من الولادة إلى الموت وما بينهما من مراحل . ولغتنا الفصحى تنمو ضمن أطر صارمة ، فالفاعل لن ينمو ليصبح مجروراً ، والمضاف إليه لن ينمو ليكون مرفوعاً ، ولكن بين تلك الأطر مساحات واسعة شاسعة تتحرك فيها اللغة على مستوى التراكيب والدلالات والأصوات ، وتلك الحركة تساير وتناغم شلالات الثقافة في الأمة في تنوعها ودرجة عنفها .
لغة العصر :
من سمات حركة التاريخ أن دور العبادة تظل كهوفاً لنوعٍ أو لأنواعٍ من العلم مهما ساءت أحوال الأمة الثقافية ، وعلى امتداد تاريخنا الإسلامي كان علماء الشرع يشكلون السواد الأعظم من الكتاب والباحثين والمفكرين ، مما جعل اللغة التي يتكلم بها الصفوة من الناس هي عين اللغة التي يتحدث بها الدعاة ، لأنهم هم الذين شكلوها ، وعلى ألسنتهم تطورت ونمت ...
ولكن الزمان قد اختلف ، حيث إن اللغة التي يتكلم بها النخبة اليوم تكونت من جهد ثقافي متنوع ، فأجهزة الإعلام والجرائد والمجلات والقصص والروايات والكتب التي صنفها باحثون تنوعت ثقافاتهم مضامين وأساليب ، وبفعل وسائل الاتصالات الحديثة صار العالم بمثابة قرية صغيرة تكثفت فيها الآراء والاتجاهات والثقافات ...
وكان في هذا تحدٍ عظيم لكل من يريد مخاطبة الناس والتأثير فيهم ، إذ أن الخلفية الثقافية للمخاطبين صارت أكثر تعقيداً بسبب ثراء الساحة الثقافية وتنوعها ، مما أسفر عن وجود حواجز كثيرة ، على الكلمة أن تتجاوزها قبل الاستقرار في الذهن أو العاطفة ، كما صار التزام الدقة في أداء الكلمة شرطا أساسيا للحيلولة دون أن يساء فهمها ، كما صار اختيار العبارات المناسبة للحقيقة التي يُراد إيصالها للمخاطب أمراً ضرورياً جداً .
فإذا كانت الحقيقة التي نريد توصيلها أدبية أو حضارية فإن العبارة القادرة على اختراق الحجب هي التي تحمل في تركيبها قابلية تعدد المعاني عند مختلف الدارسين ، بحيث يكون لكل منهم فيها خطة من التفسير و التأويل ، بشرط أن يكون ذلك ضمن طاقة التركيب اللغوي الذي بين يديه . أما الحقيقة العلمية الكونية أو العقدية أو الفقهية : فينبغي أن تصاغ بعبارة غاية في الدقة لا تدع مجالاً إلا لمعنى واحد ، كما أن في تلك المعنى لا يجد دقة صياغته إلا في تلك العبارة .
فإذا لم يراع المتحدث أو الكاتب هذا أحدثت عباراته للناس فتناً ، وأوقعته في الريبة مع سلامة قصده ، وفتحت عليه من نوافذ النقد ما لا قبل له به .
من خصائص لغة العصر :
يتمخض عن تلاطم الأفكار والثقافات المختلفة قناعات ومفاهيم عند السواد الأعظم من الناس ، وهذه المفاهيم قد تكون صحيحة ، وقد لا تكون لأنها لا ترتكز في أكثر الأمر على حقائق موضوعية بقدر ما تنبع من قوة الفعاليات على الساحات الثقافية والفكرية ، وهذه القناعات تشكل مفردات التركيب الذهني لدى الناس ، مما يجعل امتصاصهم للمعلومات التي يطلعون عليها ذا سمات خاصة تنسجم مع ذلك التركيب . وحينئذ فإن الداعية مطالب بمعرفة تلك القناعات والمفاهيم ، كما أنه مطالب بتحسس التركيب الذهني السائد في عصره حتى يخاطب الناس بلسانهم ،
ومن هذه الخصائص :
أ- اعتماد الإحصاء بدلاً عن الفلسفة :
كانت الفلسفة تسمى ملكة العلوم ، وذلك بسبب تأثير منهج أرسطو في منحنيات الفكر البشري ومساراته ، وقد كان الناس إلى عهد قريب يسمون من أوتي فيهم مقدرة خاصة على التعبير بـ (الفيلسوف) ، بل إن بلداً مثل بريطانيا مازال يستخدم كلمة (فلسفة) في شهادات التخصصات العليا لديه . وقد تأثر الفكر الإسلامي قديماً بالمنطق الأرسطاليسي ، وتسربت مقولاته وأقيسته إلى كثير من كتب الأصول والفقه والعربية ، بل والعقيدة . ذلك الفكر الذي لا يقيم للتجربة أدنى وزن ، ومن الطرائف المتناقلة في هذا : أن أرسطو كان يزعم أن أسنان الرجل أكثر من أسنان المرأة ! ولو أن زوجته فتحت فمها وعدَّ أسنانها لعرف أن زعمه حديث خرافة .. وقد أدركت أوربة في أوائل عصر نهضتها ألا نهضة ولا تقدم قبل نبذ الفكر الأرسطي القياسي ، ثم الاتجاه إلى التجريب لتتويجه ملكاً على العلوم المادية ، ومن ذلك اليوم بدأت قناعات الناس تنحو منحى لغة الرقم لاستفتائها والبناء عليها ، وهذه نقطة إيجابية إذا أحسنا التعامل معها ، ولكن كثيرين منَّا مازالوا غير واعين لهذه الحقيقة ، مما يجعلهم يستمرون في سوق الحجج العقلية مع توفر أرقام واقعية تدعم قوله ، وتؤيده ، فعلى سبيل المثال : فإن تقديم نماذج واقعية ذات أرقام محددة على ما يكن أن ينتج من الأمن والرخاء نتيجة تطبيق الحدود والنظام الاقتصادي الإسلامي - أجدى وأنجع بكثير من سرد مجلدات من العلل والحجج العقلية التي تشرح فوائد الالتزام بالإسلام ، أو تلك التي توضح سلبيات الربا وتطبيق القوانين الوضعية .
ومن المفيد هنا أن نقول : إن أرسطو أنشأ فن الجدل ليسد الثغرات التي يتركها الاستقراء الناقص للأحداث والأفكار ؛ كما أنشئت فلسفة التاريخ فيما بعد لتسد النقص في التفاصيل التاريخية ، أما اليوم فقد أضحى الإحصاء إحدى أهم سمات عصرنا البارزة ، مما يسهل استخدامه حتى نخفف من الجدل والمماحكات اللفظية العقيمة .
- للبحث صلة -
د . عبد الكريم بكار
سيظل للكلمة أثرها الفعال في تغيير أفكار الناس وأمزجتهم ومشاعرهم وواقعهم ، وذلك إذا استوفت شروطاً معينة .
وليس أدل على رفعة مكانة الكلمة في حياة البشر من أن الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام -كانوا يجيدون استخدامها في التعبير عن الحقائق الراسخة والربط بينها وبين واقع البشر ورصيد الفطرة المتبقي لديهم .
فهذا نوح -عليه السلام - يجادل قومه باستفاضة ، حتى ضج قومه من ذلك حين قالوا : ( قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا ) [ هود : 32] ، وهذا إبراهيم - عليه السلام- يكرمه الله تعالى ، فيهبه من قوة الحجة ما يفحم قومه : ( وتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ إنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ) [ الأنعام : 83] .
وهذا موسى -عليه السلام- يقول : ( واحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي ) [طه : 27 ، 28] ، ثم يطلب من الله تعالى أن يتفضل عليه بإشراك هارون معه في التبليغ لفصاحة لسانه حين يقول : ( وأَخِي هَرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ ) [ القصص : 34 ] . والله تعالى يقوم لخاتم أنبيائه : ( وقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً ) [ النساء : 63 ] .
وكل هذا قبس مما نسبه الباري -جل وعلا- لنفسه حين قال : ( قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ) [ الأنعام : 149] وحجج النبيين ومضامين خطابهم للخلق -في الأصول - واحدة أو تكاد ، مما يجعل جذور الكلمة الطيبة ضاربة في أعماق الزمن من لدن نوح -عليه السلام- إلى خاتمهم محمد -صلى الله عليه وسلم- ، وهذا يجعل حركة التاريخ كلها في سياقٍ عامٍ واحدٍ ، هو : التأكيد على أهمية الكلمة الطيبة في إنقاذ البشرية من الضلالة .
ونحن في كثير من الأحيان نستخف بقيمة الكلمة ، ومع أهمية العمل إلا أن لكل منهما مجاله الذي لا يصلح فيه غيره ، وفى تاريخنا الإسلامي أمثلة كثيرة جداً غيَّرت فيها الكلمة مسار شخص أو مدينة ، بل قارة ، فمما يذكرون في هذا الصدد أن وفداً من بعض بلاد أفريقية وفد حاجاً ، فالتقى بالإمام مالك بن أنس صاحب المذهب ؛ فأثنى مالك على والي ذلك البلد خيراً ، وتمنى لو رزقت المدينة مثله في عدله وصلاحه . فبلغ ذلك والي ذلك البلد الإفريقي ، فأمر بتدريس كتب مالك في بلده ، وأدى ذلك إلى انتشار المذهب المالكي في أرجاء أفريقية ! . وما أظن أن ما حدث كان يخطر للإمام على بال .
وقد تغني الكلمة الواحدة غناء جيش أو جيوش ، كما حدث في غزوة الأحزاب حين أسلم نعيم بن مسعود ، واستخدم عدم علم المشركين بذلك في تبديد الثقة بين قريش واليهود على ما هو مشهور . وقد أدركت الشركات والمؤسسات التجارية قيمة الكلمة في التأثير على المشتري ودفعه إلى شراء ما لا يحتاج له ، قال أحدهم : لو كان لى عشرة دولارات لتاجرت بواحدٍ وصنعتُ دعاية بالتسعة الباقية . وإذا أردت أن تشل فاعلية شخص ما ، فيكفى أن تقنعه : أن عمله غير ذي فائدة .
والآية التي نحن بصددها زاخرة بالمعاني والصور التي تجعل الكلمة في أرقى حال جمالاً وكمالاً ونفعاً . ولنقرأ الآية وما تلاها لنقتبس شيئاً من نورها ، قال الله -جل وعلا- : ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإذْنِ رَبِّهَا ويَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) [إبراهيم : 24-25] ، لقد شبه الباري -عز اسمه - الكلمة الطيبة بشجرة طيبة ، وهذه الشجرة الطيبة تتصف بثلاث صفات أساسية : ثبات أصلها وعمق جذورها ، ثم ذهاب فروعها وأفنانها في السماء ، ثم نفعها الدائم للخلق باستمرار أكلها وثمارها . ولنفصل القول في تنزيل هذه الصفات على الكلمة الطيبة .
1 - ثبات الأصول :
حين نعرف أن أصول دعوات الأنبياء -عليهم السلام- واحدة ، تركزت في الدعوة إلى التوحيد الخالص وعبادة الله تعالى وإقامة الحق والعدل في الأرض وإعمارها بما يسمح بإقامة مجتمع التوحيد ؛ ندرك أي جذور ضاربة تمتلكها الكلمة الطيبة على اتساع أمداء الزمان والمكان ، وندرك أي رصيد من المنطق العام الذي بناه الأنبياء تستند إليه ، وأي رصيد ضخم من الفطرة يؤازرها في عملية البلاغ المبين .
وقد أخرج البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : » أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة ، والأنبياء إخوة لعلات ، أمهاتهم شتى ودينهم واحد « . قال ابن حجر : ومعنى الحديث أن أصل دينهم واحد ، وهو التوحيد وإن اختلفت فروع الشرائع -[ فتح الباري 489/6]
فالكلمة الطيبة إرث موروث متصل بالأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- . ولكن المشكلة أن التفريق بين الأصول والفروع قد لا يتهيأ لكل الناس مما يجعل الخلط بينهما وارداً ، وحينئذ فقد يجمد ما ينبغي أن يتطور ، وقد يتطور ما ينبغي أن يثبت . واليوم نتيجة لعلميات الضغط الفكري التي تمارسها التيارات المادية ، نجد أن كثيراً من الكتاب والمفكرين الذين لهم صبغة إسلامية بدأوا يتزحزحون عن كثير من مواقعهم ، مصطحبين معهم أفكاراً أو أحكاماً عليها الإجماع ، أو السواد الأعظم من علماء المسلمين ، بل بعض الأصول التي ليست موضع نزاع .
ويحضرني هنا ما كتبه أحد الذين لهم نفس إسلامي عن لقائه مع القسس الذين يعيشون في بعض بلدان العالم الإسلامي ، حيث أثنوا على كتاباته ، وسألوه عن الوضع الذي ينبغي أن يكونوا عليه وهم يعيشون بين المسلمين ؟ وقد أجابهم بقوله : أول ما نطلبه من النصراني الذي يعيش بيننا أن يتمسك بنصرانيته… ! ! وهذا المطلب عجيب غريب ، وهو غني عن كل تعليق . فهل يصح لهذا و أضرابه أن يدعي أنه يكمل مهمة نبيه - صلى الله عليه وسلم - في تبليغ الرسالة وهداية الخلق ؟ ! .
وقريب من هذا الفتاوى التي صفق لها كثيراً الذين في قلوبهم مرض ، من أمثال : إباحة الربا الذي تتعامل به البنوك اليوم ، ومن مثل : القول بعدم وجود حد للردة في الشريعة… . الخ . وإذا استمر هذا النهج على ما هو عليه اليوم فسنجد أنفسنا أمام دين يقبل كل إضافة كما يقبل أي حذف ، ويصبح قابلاً للتشكيل على ما يشتهي أهل الأهواء والشهوات ، لأنه صار شيئاً ليس بذي طعم ولا لون ولا رائحة… ولكن ذلك لن يكون -بإذن الله- ما نشط أهل الحق في توضيحه والذود عن حياضه .
2 - مرونة الأساليب وتنوعها :
على مقدار ما تكون جذور الكلمة الطيبة وأصولها راسخة ثابتة تكون أساليبها مرنة نامية منوعة ، وهذا في حد ذاته أحد مقتضيات ثبات الأصول ؛ فأحوال البشر وأفهامهم مختلفة ، ولذلك تعدد الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وتنوعت شرائعهم ، وصدق الله العظيم إذ يقول : ( ومَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ) [إبراهيم : 14] ، فالرسول يكلم الناس بلغتهم التي يتكلمون بها على أوسع ما تحمله هذه الكلمة من دلالات ، والهدف هو : أن يبين لهم ما يدعو إليه ، وقد أخذ الأسلوب القرآني من العرب كل مأخذٍ ، وتحداهم وطاولهم في التحدي ، وأقام عليهم الحجج الدامغة التي تناسب أوضاعهم الفكرية آنذاك . واللغة في أبسط تعاريفها هي : مجموعة الإمكانات التعبيرية في بيئة من البيئات ، وهذه الإمكانات التعبيرية تتسع باتساع حضارة اللاغين بها ، واتساع غنى الخلفيات الثقافية لديهم ، وهذه الإمكانات دائمة التغيير والتشكل تمر بعين الأطوار التي يمر بها الكائن الحى من الولادة إلى الموت وما بينهما من مراحل . ولغتنا الفصحى تنمو ضمن أطر صارمة ، فالفاعل لن ينمو ليصبح مجروراً ، والمضاف إليه لن ينمو ليكون مرفوعاً ، ولكن بين تلك الأطر مساحات واسعة شاسعة تتحرك فيها اللغة على مستوى التراكيب والدلالات والأصوات ، وتلك الحركة تساير وتناغم شلالات الثقافة في الأمة في تنوعها ودرجة عنفها .
لغة العصر :
من سمات حركة التاريخ أن دور العبادة تظل كهوفاً لنوعٍ أو لأنواعٍ من العلم مهما ساءت أحوال الأمة الثقافية ، وعلى امتداد تاريخنا الإسلامي كان علماء الشرع يشكلون السواد الأعظم من الكتاب والباحثين والمفكرين ، مما جعل اللغة التي يتكلم بها الصفوة من الناس هي عين اللغة التي يتحدث بها الدعاة ، لأنهم هم الذين شكلوها ، وعلى ألسنتهم تطورت ونمت ...
ولكن الزمان قد اختلف ، حيث إن اللغة التي يتكلم بها النخبة اليوم تكونت من جهد ثقافي متنوع ، فأجهزة الإعلام والجرائد والمجلات والقصص والروايات والكتب التي صنفها باحثون تنوعت ثقافاتهم مضامين وأساليب ، وبفعل وسائل الاتصالات الحديثة صار العالم بمثابة قرية صغيرة تكثفت فيها الآراء والاتجاهات والثقافات ...
وكان في هذا تحدٍ عظيم لكل من يريد مخاطبة الناس والتأثير فيهم ، إذ أن الخلفية الثقافية للمخاطبين صارت أكثر تعقيداً بسبب ثراء الساحة الثقافية وتنوعها ، مما أسفر عن وجود حواجز كثيرة ، على الكلمة أن تتجاوزها قبل الاستقرار في الذهن أو العاطفة ، كما صار التزام الدقة في أداء الكلمة شرطا أساسيا للحيلولة دون أن يساء فهمها ، كما صار اختيار العبارات المناسبة للحقيقة التي يُراد إيصالها للمخاطب أمراً ضرورياً جداً .
فإذا كانت الحقيقة التي نريد توصيلها أدبية أو حضارية فإن العبارة القادرة على اختراق الحجب هي التي تحمل في تركيبها قابلية تعدد المعاني عند مختلف الدارسين ، بحيث يكون لكل منهم فيها خطة من التفسير و التأويل ، بشرط أن يكون ذلك ضمن طاقة التركيب اللغوي الذي بين يديه . أما الحقيقة العلمية الكونية أو العقدية أو الفقهية : فينبغي أن تصاغ بعبارة غاية في الدقة لا تدع مجالاً إلا لمعنى واحد ، كما أن في تلك المعنى لا يجد دقة صياغته إلا في تلك العبارة .
فإذا لم يراع المتحدث أو الكاتب هذا أحدثت عباراته للناس فتناً ، وأوقعته في الريبة مع سلامة قصده ، وفتحت عليه من نوافذ النقد ما لا قبل له به .
من خصائص لغة العصر :
يتمخض عن تلاطم الأفكار والثقافات المختلفة قناعات ومفاهيم عند السواد الأعظم من الناس ، وهذه المفاهيم قد تكون صحيحة ، وقد لا تكون لأنها لا ترتكز في أكثر الأمر على حقائق موضوعية بقدر ما تنبع من قوة الفعاليات على الساحات الثقافية والفكرية ، وهذه القناعات تشكل مفردات التركيب الذهني لدى الناس ، مما يجعل امتصاصهم للمعلومات التي يطلعون عليها ذا سمات خاصة تنسجم مع ذلك التركيب . وحينئذ فإن الداعية مطالب بمعرفة تلك القناعات والمفاهيم ، كما أنه مطالب بتحسس التركيب الذهني السائد في عصره حتى يخاطب الناس بلسانهم ،
ومن هذه الخصائص :
أ- اعتماد الإحصاء بدلاً عن الفلسفة :
كانت الفلسفة تسمى ملكة العلوم ، وذلك بسبب تأثير منهج أرسطو في منحنيات الفكر البشري ومساراته ، وقد كان الناس إلى عهد قريب يسمون من أوتي فيهم مقدرة خاصة على التعبير بـ (الفيلسوف) ، بل إن بلداً مثل بريطانيا مازال يستخدم كلمة (فلسفة) في شهادات التخصصات العليا لديه . وقد تأثر الفكر الإسلامي قديماً بالمنطق الأرسطاليسي ، وتسربت مقولاته وأقيسته إلى كثير من كتب الأصول والفقه والعربية ، بل والعقيدة . ذلك الفكر الذي لا يقيم للتجربة أدنى وزن ، ومن الطرائف المتناقلة في هذا : أن أرسطو كان يزعم أن أسنان الرجل أكثر من أسنان المرأة ! ولو أن زوجته فتحت فمها وعدَّ أسنانها لعرف أن زعمه حديث خرافة .. وقد أدركت أوربة في أوائل عصر نهضتها ألا نهضة ولا تقدم قبل نبذ الفكر الأرسطي القياسي ، ثم الاتجاه إلى التجريب لتتويجه ملكاً على العلوم المادية ، ومن ذلك اليوم بدأت قناعات الناس تنحو منحى لغة الرقم لاستفتائها والبناء عليها ، وهذه نقطة إيجابية إذا أحسنا التعامل معها ، ولكن كثيرين منَّا مازالوا غير واعين لهذه الحقيقة ، مما يجعلهم يستمرون في سوق الحجج العقلية مع توفر أرقام واقعية تدعم قوله ، وتؤيده ، فعلى سبيل المثال : فإن تقديم نماذج واقعية ذات أرقام محددة على ما يكن أن ينتج من الأمن والرخاء نتيجة تطبيق الحدود والنظام الاقتصادي الإسلامي - أجدى وأنجع بكثير من سرد مجلدات من العلل والحجج العقلية التي تشرح فوائد الالتزام بالإسلام ، أو تلك التي توضح سلبيات الربا وتطبيق القوانين الوضعية .
ومن المفيد هنا أن نقول : إن أرسطو أنشأ فن الجدل ليسد الثغرات التي يتركها الاستقراء الناقص للأحداث والأفكار ؛ كما أنشئت فلسفة التاريخ فيما بعد لتسد النقص في التفاصيل التاريخية ، أما اليوم فقد أضحى الإحصاء إحدى أهم سمات عصرنا البارزة ، مما يسهل استخدامه حتى نخفف من الجدل والمماحكات اللفظية العقيمة .
- للبحث صلة -