الإسلام والآخر .. رؤية في علم الاستغراب
محمد فتحي النادي
بعد انكسار الآخر (الغرب) إثر الحروب الصليبية -التي امتدت على فترة من الزمان قاربت مائتي عام؛ حيث ابتدأت الحملة الأولى عام 1096م، والأخيرة انتهت عام 1270، وتم جلاء الصليبيين النهائي عام 1291م، وقف مع نفسه وقفة متأنية حاول من خلالها تقويم أعماله الحربية وجدواها في محاولته سحق الإسلام أو حتى إضعاف شكوته، فوجد الحقيقة التي تجلت أمامه أن الفارق كبير بينه وبين الشرق من ناحية الرقي الحضاري والتقدم العلمي، فشعر بضرورة الاستفادة من التقدم الشرقي في كافة المناحي والمجالات.
ولم يمض وقت طويل حتى عقد مؤتمر فيينا الكنسي بين عامي 1311-1312م، وكان ’’من أهم قراراته: إنشاء كرسي للغة العبرية والعربية في معظم جامعات أوروبا، فتأسس كرسي اللغة العربية في روما على نفقة الفاتيكان، وفي باريس على نفقة ملك فرنسا، وفي أكسفورد على نفقة ملك إنجلترا، ويعتبر كثير من المؤرخين لحركة الاستشراق أن هذا المؤتمر هو البداية المنظمة وشبه الرسمية للاستشراق، وما كان قبل ذلك إنما كان بمثابة الإرهاص لميلاد هذه الحركة، وتبع ذلك انتشار المدارس والمعاهد الاستشراقية المعنية بدراسة الشرق وعلومه الإسلامية بصفة خاصة’’. وهذا معناه أن الآخر (الغرب) ازداد عنده الوعي ونما، واستشعر ذاته، فعمل على تغذيتها بآخِر ما توصل إليه العلم، والذي كان العرب والمسلمون أربابه.
ثم جاء السقوط الكبير المدوي للقسطنطينية عاصمة الإمبراطورية الرومانية الشرقية في يوم الثلاثاء 20 جمادى الأولى 857هـ / 29مايو 1453م فزاد من فزع الآخر (الغرب)، مما جعله يُعجِّل من خطاه ليواجه الإسلام الذي بات يسكن معه في عقر داره بعد أن كانت المناوشات بينهما تدور في أراضٍ بعيدة عن موطنه، ورأى أن القوة العسكرية في هذه الظروف لا تنفع فلجأ إلى دراسة الإسلام من كل جوانبه متلمسًا جوانب القوة وكاشفًا عن مواطن الضعف.
وشاءت إرادة الله أن تدب في العالم الإسلامي إبان النهضة في الغرب أمراض الأمم والشعوب، فتخلى عن قيادته للعالم، وحدث تبادل لمواقع القيادة بين العالم الإسلامي والآخر (الغرب)، فلقد كان العالم الإسلامي هو الهادي للبشرية في حيرتها الروحية، وكان آخذًا بزمام العقل، وإمامًا للتفكير العلمي السليم، وهذا يعني أن حضارته كانت حضارة متوازنة شاملة، معنية بالروح والمادة معًا، لا تضخم جانبًا وتهمل الآخر، ولكن حدث قصور في فهم المسلمين ونظرتهم للحياة أدى بهم إلى اعتزال قيادة البشرية.
وفي هذه الأثناء هب (الآخر) الغرب من رقدته التي تطاولت على مدى قرون، نافضًا عنه غبار الجهل والتخلف حتى تحولت عجلة الحضارة من الشرق مولية وجهها نحو الغرب، وترك العالم الإسلامي عرشه الذي كان متوجًا عليه ليحل محله (الآخر) الغرب.
وقد ساعده على ذلك الدراسة العميقة للإسلام من خلال المستشرقين الذين وضعوا الإسلام وشعوبه تحت المبضع، فما تركوا حاجة أو داجة من شؤونهم إلا أحصوها وحللوها؛ فدرسوا العقائد واللغات والآداب والفنون، حتى العادات والتقاليد. لقد رسموا صورة واضحة في أذهانهم عن كيفية التعامل مع الإسلام وشعوبه، وعندئذٍ هجم الغرب علينا متسلحًا بأسلحة كثيرة ومتنوعة من علمية وعسكرية وثقافية... إلخ، فتمكن منا واحتل أراضينا وكذلك عقولنا، وعمل على مسخ هويتنا وذاتيتنا وثقافتنا وحضارتنا، وإحلال ثقافته وحضارته محلها، وذلك من خلال أشياعه من بني جلدتنا الذين انبهروا بحضارته إجمالاً، فاستمرءوا تبعيته، وأصبحوا أبواقًا له، لا يصدرون إلا عن أوامره، ولا يفكرون إلا من خلال رؤيته، فيما سمي بعملية التغريب.
تلك العملية التي حاول الآخر (الغرب) من خلالها أن نكون ذيولاً له، فاقدين لخصائصنا الحضارية، وأن ندور في فلكه، وأن تكون له المركزية الحضارية.
ولكن الأمة الإسلامية قاومت هذا التذويب المتعمد للشخصية، وعملت على التمسك بقيمها وثوابتها.
هذه هي ’’عملية الوعي بالذات’’، ولكن تبقى ’’عملية الدفع’’، أي: الدفع بعجلة التقدم للنهوض الحضاري من جديد. هذا الدفع الحضاري يحتاج إلى عاملين أساسيين:
الأول: التمسك بالقيم والمبادئ والثوابت والتصورات والأطر الإسلامية العامة.
الثاني: الانفتاح على الآخر للاستفادة بمنجزاته الحضارية التي لا تخالف تصوراتنا العقدية ولا تصطدم معها، وليس معنى ذلك النقل فقط عنه، ولكن تجاوز ذلك بالبناء عليه والإبداع الخلاق.
وهذا يتم -من وجهة نظري، وقد سبقني إلى ذلك أعلام كبار- من خلال ما اصطلح عليه ’’علم الاستغراب’’؛ فهذا العلم ’’هو الوجه الآخر المقابل بل والنقيض من ’’الاستشراق’’؛ فإذا كان الاستشراق هو رؤية الأنا (الشرق) من خلال الآخر (الغرب)، يهدف ’’علم الاستغراب’’ إذن إلى فك العقدة التاريخية المزدوجة بين الأنا والآخر، والجدل بين مركب النقص عند الأنا ومركب العظمة عند الآخر’’.
وقد ’’نشأ علم الاستغراب occidentalism في مواجهة التغريب westernization الذي امتد أثره ليس فقط إلى الحياة الثقافية وتصوراتنا للعالم، وهدد استقلالنا الحضاري’’.
وقد ظهرت إرهاصاتٌ لهذا العلم، ولكن ’’لم تقم حتى الآن حركة نقد له إلا في أقل الحدود بمنهج الخطابة أو الجدل، دون منهج النقد ومنطق البرهان’’.
فنحن في حاجة ماسة لتعميق هذا العلم، وإيجاد الكوادر العلمية المتخصصة فيه في كافة التخصصات، والتي تجعل من الآخر ذاتًا مدروسة بعد أن ظلت لفترة طويلة ذاتًا دارسة لنا، فخير وسيلة للدفاع هي الهجوم، بحيث نجعل علومهم في ميزان النقد والتمحيص، ولا قدسية لفكرة بشرية.
وللقيام بذلك على الوجه الأكمل ندعو لتضافر الجهود؛ حيث تضيع الجهود ويتأخر الإثمار إذا كان القائمون على ذلك فرادى، فنحن نريد مؤسسات ترعاها الدول العربية والإسلامية، وكذلك المنظمات الكبرى كمنظمة المؤتمر الإسلامي، أو جامعة الدول العربية؛ فالعمل المؤسسي يكون أجدى وأفضل، وحتى يصب العلم وتوصياته مباشرة في دائرة صنع القرار، وبذلك يتضافر العلم مع السلطة من أجل إنهاض هذه الأمة من جديد، ودفعها لقيادة ركب الأمم.
ونؤكد على أن هذا لا يتم بين عشية وضحاها، ولكنه يحتاج إلى حسن تخطيط، وطول نفس فما انهار في قرون لا يُقام في عقود، ويحتاج كذلك إلى دراسة واعية من دارسين على أعلى المستويات من التحكم في الأدوات العلمية من معرفة بلغات الآخر، وطرق تفكيره، إلى جانب إخراج هذا العلم وهذه المعطيات من بين جدران الجامعات ودور البحث العلمي ومعاهده إلى الفضاء الثقافي العام حتى يعم نفعه الجميع.
.المختار
محمد فتحي النادي
بعد انكسار الآخر (الغرب) إثر الحروب الصليبية -التي امتدت على فترة من الزمان قاربت مائتي عام؛ حيث ابتدأت الحملة الأولى عام 1096م، والأخيرة انتهت عام 1270، وتم جلاء الصليبيين النهائي عام 1291م، وقف مع نفسه وقفة متأنية حاول من خلالها تقويم أعماله الحربية وجدواها في محاولته سحق الإسلام أو حتى إضعاف شكوته، فوجد الحقيقة التي تجلت أمامه أن الفارق كبير بينه وبين الشرق من ناحية الرقي الحضاري والتقدم العلمي، فشعر بضرورة الاستفادة من التقدم الشرقي في كافة المناحي والمجالات.
ولم يمض وقت طويل حتى عقد مؤتمر فيينا الكنسي بين عامي 1311-1312م، وكان ’’من أهم قراراته: إنشاء كرسي للغة العبرية والعربية في معظم جامعات أوروبا، فتأسس كرسي اللغة العربية في روما على نفقة الفاتيكان، وفي باريس على نفقة ملك فرنسا، وفي أكسفورد على نفقة ملك إنجلترا، ويعتبر كثير من المؤرخين لحركة الاستشراق أن هذا المؤتمر هو البداية المنظمة وشبه الرسمية للاستشراق، وما كان قبل ذلك إنما كان بمثابة الإرهاص لميلاد هذه الحركة، وتبع ذلك انتشار المدارس والمعاهد الاستشراقية المعنية بدراسة الشرق وعلومه الإسلامية بصفة خاصة’’. وهذا معناه أن الآخر (الغرب) ازداد عنده الوعي ونما، واستشعر ذاته، فعمل على تغذيتها بآخِر ما توصل إليه العلم، والذي كان العرب والمسلمون أربابه.
ثم جاء السقوط الكبير المدوي للقسطنطينية عاصمة الإمبراطورية الرومانية الشرقية في يوم الثلاثاء 20 جمادى الأولى 857هـ / 29مايو 1453م فزاد من فزع الآخر (الغرب)، مما جعله يُعجِّل من خطاه ليواجه الإسلام الذي بات يسكن معه في عقر داره بعد أن كانت المناوشات بينهما تدور في أراضٍ بعيدة عن موطنه، ورأى أن القوة العسكرية في هذه الظروف لا تنفع فلجأ إلى دراسة الإسلام من كل جوانبه متلمسًا جوانب القوة وكاشفًا عن مواطن الضعف.
وشاءت إرادة الله أن تدب في العالم الإسلامي إبان النهضة في الغرب أمراض الأمم والشعوب، فتخلى عن قيادته للعالم، وحدث تبادل لمواقع القيادة بين العالم الإسلامي والآخر (الغرب)، فلقد كان العالم الإسلامي هو الهادي للبشرية في حيرتها الروحية، وكان آخذًا بزمام العقل، وإمامًا للتفكير العلمي السليم، وهذا يعني أن حضارته كانت حضارة متوازنة شاملة، معنية بالروح والمادة معًا، لا تضخم جانبًا وتهمل الآخر، ولكن حدث قصور في فهم المسلمين ونظرتهم للحياة أدى بهم إلى اعتزال قيادة البشرية.
وفي هذه الأثناء هب (الآخر) الغرب من رقدته التي تطاولت على مدى قرون، نافضًا عنه غبار الجهل والتخلف حتى تحولت عجلة الحضارة من الشرق مولية وجهها نحو الغرب، وترك العالم الإسلامي عرشه الذي كان متوجًا عليه ليحل محله (الآخر) الغرب.
وقد ساعده على ذلك الدراسة العميقة للإسلام من خلال المستشرقين الذين وضعوا الإسلام وشعوبه تحت المبضع، فما تركوا حاجة أو داجة من شؤونهم إلا أحصوها وحللوها؛ فدرسوا العقائد واللغات والآداب والفنون، حتى العادات والتقاليد. لقد رسموا صورة واضحة في أذهانهم عن كيفية التعامل مع الإسلام وشعوبه، وعندئذٍ هجم الغرب علينا متسلحًا بأسلحة كثيرة ومتنوعة من علمية وعسكرية وثقافية... إلخ، فتمكن منا واحتل أراضينا وكذلك عقولنا، وعمل على مسخ هويتنا وذاتيتنا وثقافتنا وحضارتنا، وإحلال ثقافته وحضارته محلها، وذلك من خلال أشياعه من بني جلدتنا الذين انبهروا بحضارته إجمالاً، فاستمرءوا تبعيته، وأصبحوا أبواقًا له، لا يصدرون إلا عن أوامره، ولا يفكرون إلا من خلال رؤيته، فيما سمي بعملية التغريب.
تلك العملية التي حاول الآخر (الغرب) من خلالها أن نكون ذيولاً له، فاقدين لخصائصنا الحضارية، وأن ندور في فلكه، وأن تكون له المركزية الحضارية.
ولكن الأمة الإسلامية قاومت هذا التذويب المتعمد للشخصية، وعملت على التمسك بقيمها وثوابتها.
هذه هي ’’عملية الوعي بالذات’’، ولكن تبقى ’’عملية الدفع’’، أي: الدفع بعجلة التقدم للنهوض الحضاري من جديد. هذا الدفع الحضاري يحتاج إلى عاملين أساسيين:
الأول: التمسك بالقيم والمبادئ والثوابت والتصورات والأطر الإسلامية العامة.
الثاني: الانفتاح على الآخر للاستفادة بمنجزاته الحضارية التي لا تخالف تصوراتنا العقدية ولا تصطدم معها، وليس معنى ذلك النقل فقط عنه، ولكن تجاوز ذلك بالبناء عليه والإبداع الخلاق.
وهذا يتم -من وجهة نظري، وقد سبقني إلى ذلك أعلام كبار- من خلال ما اصطلح عليه ’’علم الاستغراب’’؛ فهذا العلم ’’هو الوجه الآخر المقابل بل والنقيض من ’’الاستشراق’’؛ فإذا كان الاستشراق هو رؤية الأنا (الشرق) من خلال الآخر (الغرب)، يهدف ’’علم الاستغراب’’ إذن إلى فك العقدة التاريخية المزدوجة بين الأنا والآخر، والجدل بين مركب النقص عند الأنا ومركب العظمة عند الآخر’’.
وقد ’’نشأ علم الاستغراب occidentalism في مواجهة التغريب westernization الذي امتد أثره ليس فقط إلى الحياة الثقافية وتصوراتنا للعالم، وهدد استقلالنا الحضاري’’.
وقد ظهرت إرهاصاتٌ لهذا العلم، ولكن ’’لم تقم حتى الآن حركة نقد له إلا في أقل الحدود بمنهج الخطابة أو الجدل، دون منهج النقد ومنطق البرهان’’.
فنحن في حاجة ماسة لتعميق هذا العلم، وإيجاد الكوادر العلمية المتخصصة فيه في كافة التخصصات، والتي تجعل من الآخر ذاتًا مدروسة بعد أن ظلت لفترة طويلة ذاتًا دارسة لنا، فخير وسيلة للدفاع هي الهجوم، بحيث نجعل علومهم في ميزان النقد والتمحيص، ولا قدسية لفكرة بشرية.
وللقيام بذلك على الوجه الأكمل ندعو لتضافر الجهود؛ حيث تضيع الجهود ويتأخر الإثمار إذا كان القائمون على ذلك فرادى، فنحن نريد مؤسسات ترعاها الدول العربية والإسلامية، وكذلك المنظمات الكبرى كمنظمة المؤتمر الإسلامي، أو جامعة الدول العربية؛ فالعمل المؤسسي يكون أجدى وأفضل، وحتى يصب العلم وتوصياته مباشرة في دائرة صنع القرار، وبذلك يتضافر العلم مع السلطة من أجل إنهاض هذه الأمة من جديد، ودفعها لقيادة ركب الأمم.
ونؤكد على أن هذا لا يتم بين عشية وضحاها، ولكنه يحتاج إلى حسن تخطيط، وطول نفس فما انهار في قرون لا يُقام في عقود، ويحتاج كذلك إلى دراسة واعية من دارسين على أعلى المستويات من التحكم في الأدوات العلمية من معرفة بلغات الآخر، وطرق تفكيره، إلى جانب إخراج هذا العلم وهذه المعطيات من بين جدران الجامعات ودور البحث العلمي ومعاهده إلى الفضاء الثقافي العام حتى يعم نفعه الجميع.
.المختار