الإفراط في طلب الكمال
د. محمد بن إبراهيم الحمد
تذكر كتب السير أن زياد بن أبيه كان مفرطاً في الذكاء، وكان من دهاة العرب المعدودين.
وقد جاء في قصة زياد أنه لما عزله عمر بن الخطاب عن العراق، قال له: ’’لم عزلتني يا أمير المؤمنين؟ ألِعَجْزٍ أم خيانة؟’’.
فقال عمر -رضي الله عنه-: ’’لم أعْزِلْك لواحدة منها، ولكن كرهت أن أَحْمِلَ فَضْلَ عَقْلِكَ على الناس’’.
فعمر -رضي الله عنه- أدرك بثاقب نظره -وهو المُحَدَّث الملهم- أن العراقَ بلد يميد بالفتن، ويعج بالاضطرابات، وأدرك أن زياداً مفرطٌ في الذكاء والدهاء؛ فَكَرِهَ ولايتَه؛ خشيةَ أن يحمل الناس على ما يدري في العواقب من الحقائق، فَيُعَنِّفَ عليهم، ويحملهم على ما لا تقتضيه الحكمة من مداراتهم.
على حين أن الحال توجب حَمْلَهم على ما يقتضيه عصرهم الحاضر، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعائشة -رضي الله عنها- : ’’لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم’’.
تذكَّرت قصةَ عَزْلِ زيادٍ وأنا في حوار مع صاحب لي؛ حيث كان ذلك الصاحب يتمتع بشهامة خاطر، وكرم نفس، وتَرَفُّعٍ عن الدنايا، وتَنَزُّهٍ عن المحقرات وما يخل بالمروءات، يصدق عليه قولُ إياسِ بنِ قتادة:
وإن من السادات من لو أطعته *** دعاك إلى نار يفوح سعيرها
وكانت تلك الصفات تَلَذُّ له، وتؤذيه -في الوقت نفسه- على حد قول أبي الطيب:
تلذ له المروءة وهي تؤذي *** ومن يعشق يلذَّ له الغرام
تلذ له من جهة أن في المروءة نفسِها لذةً تفوق كلَّ نعيمٍ في هذه الحياة، وأن فيها راحةً للضمير، وسلامةً من مواطن الذلة والهُون.
وتؤذيه من جهة ما يلاقيه من أجلها من المشاق والتكاليف الباهضة التي لا ينهض بإِصْرها إلا ذو صبر متين، وحظٍّ عظيم.
ولكن الأذى الذي يلحقه من هذه الناحية يَهُون عليه لما يناله من اللذات والآثار التي تنتج عن المروءة.
أما الأذى الذي ينال نيله منه فهو ما يلاقيه من أحوال كثير من الناس؛ حيث يرى دنوَّ النفس من بعضهم، ويرى قلة الوفاء من آخرين، ويرى تصرفاتٍ ينكرها بطبعه الكريم، وأعمالاً يأباها ذوقه السليم؛ فيتأذى من جراء ذلك أذىً كثيراً؛ لما يراه من تلك الأعمال التي لا تليق بنظره، ولا ترتقي إلى المقام الذي يؤمله.
فكنت أذكره بمقولة عمر -رضي الله عنه- لزياد، وأقول له: لا تَحمِلِ الناس على فضل مروءتك، ولا تُحمِّلْهم فوق طاقتهم، فهم:
أعمى وأعشى ثم ذو *** بصرٍ وزرقاءُ اليمامة
فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات -بإذن الله-.
فخير لك -إذ- أن تستمر على مروءاتك، وأن تتغاضى عن بعض تفريطهم وتقصيرهم في بعض حقوق المروءة؛ فالله -عز وجل- يقول: [خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ].
أي خذ ما صفا من أخلاق الناس، وما سمحت به نفوسهم، ولا تكلفهم فوق ما يطيقون على حد قول القائل:
اقْبَلْ مِن الناس ما تيسر *** وَدَع من الناس ما تَعَسَّرْ
فإنما الناسُ من زجاج *** إن لم تَرَفَّقْ به تَكَسَّرْ
فإذا لزمت هذه الطريقة أرحت نفسك، وأرحت غيرك ممن لا بد لك من معاملته.
وبعد مدة قابلت صاحبي، وتجاذبنا أطراف الحديث، فَعَرَّج على الحديث السابق، وقال: لقد أفدت كثيراً من ذلك الحديث، وصرت أحاول ألا أكلف نفسي أو غيرها فوق الطاقة؛ فأرحت، واسترحت.
.دعوة الإسلام
د. محمد بن إبراهيم الحمد
تذكر كتب السير أن زياد بن أبيه كان مفرطاً في الذكاء، وكان من دهاة العرب المعدودين.
وقد جاء في قصة زياد أنه لما عزله عمر بن الخطاب عن العراق، قال له: ’’لم عزلتني يا أمير المؤمنين؟ ألِعَجْزٍ أم خيانة؟’’.
فقال عمر -رضي الله عنه-: ’’لم أعْزِلْك لواحدة منها، ولكن كرهت أن أَحْمِلَ فَضْلَ عَقْلِكَ على الناس’’.
فعمر -رضي الله عنه- أدرك بثاقب نظره -وهو المُحَدَّث الملهم- أن العراقَ بلد يميد بالفتن، ويعج بالاضطرابات، وأدرك أن زياداً مفرطٌ في الذكاء والدهاء؛ فَكَرِهَ ولايتَه؛ خشيةَ أن يحمل الناس على ما يدري في العواقب من الحقائق، فَيُعَنِّفَ عليهم، ويحملهم على ما لا تقتضيه الحكمة من مداراتهم.
على حين أن الحال توجب حَمْلَهم على ما يقتضيه عصرهم الحاضر، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعائشة -رضي الله عنها- : ’’لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم’’.
تذكَّرت قصةَ عَزْلِ زيادٍ وأنا في حوار مع صاحب لي؛ حيث كان ذلك الصاحب يتمتع بشهامة خاطر، وكرم نفس، وتَرَفُّعٍ عن الدنايا، وتَنَزُّهٍ عن المحقرات وما يخل بالمروءات، يصدق عليه قولُ إياسِ بنِ قتادة:
وإن من السادات من لو أطعته *** دعاك إلى نار يفوح سعيرها
وكانت تلك الصفات تَلَذُّ له، وتؤذيه -في الوقت نفسه- على حد قول أبي الطيب:
تلذ له المروءة وهي تؤذي *** ومن يعشق يلذَّ له الغرام
تلذ له من جهة أن في المروءة نفسِها لذةً تفوق كلَّ نعيمٍ في هذه الحياة، وأن فيها راحةً للضمير، وسلامةً من مواطن الذلة والهُون.
وتؤذيه من جهة ما يلاقيه من أجلها من المشاق والتكاليف الباهضة التي لا ينهض بإِصْرها إلا ذو صبر متين، وحظٍّ عظيم.
ولكن الأذى الذي يلحقه من هذه الناحية يَهُون عليه لما يناله من اللذات والآثار التي تنتج عن المروءة.
أما الأذى الذي ينال نيله منه فهو ما يلاقيه من أحوال كثير من الناس؛ حيث يرى دنوَّ النفس من بعضهم، ويرى قلة الوفاء من آخرين، ويرى تصرفاتٍ ينكرها بطبعه الكريم، وأعمالاً يأباها ذوقه السليم؛ فيتأذى من جراء ذلك أذىً كثيراً؛ لما يراه من تلك الأعمال التي لا تليق بنظره، ولا ترتقي إلى المقام الذي يؤمله.
فكنت أذكره بمقولة عمر -رضي الله عنه- لزياد، وأقول له: لا تَحمِلِ الناس على فضل مروءتك، ولا تُحمِّلْهم فوق طاقتهم، فهم:
أعمى وأعشى ثم ذو *** بصرٍ وزرقاءُ اليمامة
فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات -بإذن الله-.
فخير لك -إذ- أن تستمر على مروءاتك، وأن تتغاضى عن بعض تفريطهم وتقصيرهم في بعض حقوق المروءة؛ فالله -عز وجل- يقول: [خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ].
أي خذ ما صفا من أخلاق الناس، وما سمحت به نفوسهم، ولا تكلفهم فوق ما يطيقون على حد قول القائل:
اقْبَلْ مِن الناس ما تيسر *** وَدَع من الناس ما تَعَسَّرْ
فإنما الناسُ من زجاج *** إن لم تَرَفَّقْ به تَكَسَّرْ
فإذا لزمت هذه الطريقة أرحت نفسك، وأرحت غيرك ممن لا بد لك من معاملته.
وبعد مدة قابلت صاحبي، وتجاذبنا أطراف الحديث، فَعَرَّج على الحديث السابق، وقال: لقد أفدت كثيراً من ذلك الحديث، وصرت أحاول ألا أكلف نفسي أو غيرها فوق الطاقة؛ فأرحت، واسترحت.
.دعوة الإسلام