تأملت كم من الأسرار العظيمة في سورة الفاتحة ، وخاصة تحت قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة:6) ، دعوة جماعية للهداية تكرّس التفوق على الأنا التي تحاصر الآخرين بالخطأ ، وتختص نفسها بالصواب ، فهو هتاف جماعي، ينشد الهداية ، ويتضرع إلى الله بتحصيلها.
تأكيد أن الهداية ليست شأناً خاصاً فحسب ، يتعلق بسلوك الفرد الأخلاقي ؛ بل همّ قضية عامة للأفراد والأسر والمجتمعات ، هداية الفرد في عقيدته وعبادته وسلوكه ، وهداية المجتمعات بنشر العدالة ، وحفظ الحقوق الإنسانية ، وإقامة القسط بين الناس ، وتحصيل المعرفة ، وبناء الحضارة ..
استفراغ الجهد الذاتي في تحصيل الهداية؛ بالتفكّر والتأمل والبحث والتحري (فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً) (الجـن: من الآية14) ، (أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى) (الحجرات: من الآية3) ، يتبعه الدعاء الذي يتمم ما قصّر فيه المرء، أو عجز عنه بطلب المدد والعون من الله .
ترميز لطريق الحق بـ (الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) ، وهو طريق الجنة في الآخرة ، ولكنه في الدنيا يعني الوصول للمقاصد الصحيحة بأسهل وسيلة وأحسن سبيل ، وهذا شامل لآحاد المسائل التي تعرض للبشر .
فكلما تردد المرء في أمر بين طرق شتى، كان منها ما هو مستقيم ، ومنها ما هو دون ذلك ، ومنها ما هو معوج ..
أمير المؤمنين على صراطٍ *** إذا اعوج الموارد مستقيم
فإذا تردد في دراسة ، أو صفقة ، أو زواج ، أو سفر ، أو مشروع ، أو قرار؛ فثمت خيارات عدة بعضها أمثل من بعض ، فالدعاء يشملها جميعاً بأن يهتدي المرء إلى أفضل سبلها ، فضلاً عما هو أبعد من ذلك من خيارات الفكر والظن والفهم .
سماه صراطاً ، وهذا يعني الاعتدال ، ثم وصفه بالاستقامة لتأكيد المعنى ، ولذا جاء في الأثر أن الصراط أحَدُّ من السيف ، وأدقُّ من الشعر ، وهذا ليس تعجيزاً حتى يشعر المكلف أو السالك بأنه أمام تحدٍ لا يستطيعه ، كلا ؛ بل هو دعوة دائمة إلى الترقي الأمثل والأفضل ، وأنه كلما وصل إلى نقطة من التوازن والاعتدال؛ وجد فوقها نقطة أخرى تناديه إليها ، فلا يزال في صعدٍ وترق ، يدركه أولاً بفضل الله الذي تضرع إليه وسأله الهداية ، ثم يدركه بالقراءة (اقرأ وارق) ومنه قراءة هذه الآية ، وهذه السورة ، وهذا القرآن ، وكل قراءة نافعة، ثم يدركه بالسلوك ولزوم الطريق، ودوام التيقظ، والتطلع للأفضل، والتجرد من التزكية المطلقة للنفس، واعتقاد أنها وصلت إلى التمام والنهاية ، بينما الطريق أمامك يناديك (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر:99) .
إن بعض السائرين يصل إلى درجة ثم يتوقف عندها، ويعتقد أنها هي المقصود بالهداية ؛ فيحاكم الناس إليها؛ غافلاً عما فوقها وما وراءها مما لم يصل إليه بعد .
والمرء يدرك بالتجربة أن مقاربة الالتزام الشرعي الدقيق لا تحقق بآلية فورية ، ولا بدعوى عريضة، ولا حتى بحرص شديد حتى يتم للسالك تكرار المحاولة والإلحاح ، والتطلع نحو الأفضل .
وليس الأمر أن ينتقل من خطأ إلى صواب ، بل من نقطة توازن إلى أخرى هي أدق منها؛ يدركها بالفقه الخاص المتحصل بدوام المراقبة ، وكثرة الاستعانة ، وكم في آحاد سلوكنا من المعاني الفاضلة التي نستند فيها إلى حجة شرعية ، ولو زيد لنا في العلم والفضيلة؛ لوجدنا أمثل منها وأحسن وأقرب زلفى .
ومن هذا قوله سبحانه : (يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) (الزمر: من الآية18) ، (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) (الزمر: من الآية55) ، (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا ) (الأعراف: من الآية145) ، فحسن العمل بمطابقته للشرع إن كان ديناً ، وتحقيقه للمصلحة إن كان دنيا ، وهذا وذاك يزداد تأنقاً ، وانسجاماً مع المقصود ، وسلامة من المؤثرات السلبية والأغراض الشخصية وما يطرأ على الفعل ، أو على نيته وتقصده، كلما أمعن المرء في مقامات العبودية والإخلاص والإقبال على النفس والتطلع للكمال اللائق بمثله.. والله أعلم .
.الإسلام اليوم
تأكيد أن الهداية ليست شأناً خاصاً فحسب ، يتعلق بسلوك الفرد الأخلاقي ؛ بل همّ قضية عامة للأفراد والأسر والمجتمعات ، هداية الفرد في عقيدته وعبادته وسلوكه ، وهداية المجتمعات بنشر العدالة ، وحفظ الحقوق الإنسانية ، وإقامة القسط بين الناس ، وتحصيل المعرفة ، وبناء الحضارة ..
استفراغ الجهد الذاتي في تحصيل الهداية؛ بالتفكّر والتأمل والبحث والتحري (فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً) (الجـن: من الآية14) ، (أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى) (الحجرات: من الآية3) ، يتبعه الدعاء الذي يتمم ما قصّر فيه المرء، أو عجز عنه بطلب المدد والعون من الله .
ترميز لطريق الحق بـ (الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) ، وهو طريق الجنة في الآخرة ، ولكنه في الدنيا يعني الوصول للمقاصد الصحيحة بأسهل وسيلة وأحسن سبيل ، وهذا شامل لآحاد المسائل التي تعرض للبشر .
فكلما تردد المرء في أمر بين طرق شتى، كان منها ما هو مستقيم ، ومنها ما هو دون ذلك ، ومنها ما هو معوج ..
أمير المؤمنين على صراطٍ *** إذا اعوج الموارد مستقيم
فإذا تردد في دراسة ، أو صفقة ، أو زواج ، أو سفر ، أو مشروع ، أو قرار؛ فثمت خيارات عدة بعضها أمثل من بعض ، فالدعاء يشملها جميعاً بأن يهتدي المرء إلى أفضل سبلها ، فضلاً عما هو أبعد من ذلك من خيارات الفكر والظن والفهم .
سماه صراطاً ، وهذا يعني الاعتدال ، ثم وصفه بالاستقامة لتأكيد المعنى ، ولذا جاء في الأثر أن الصراط أحَدُّ من السيف ، وأدقُّ من الشعر ، وهذا ليس تعجيزاً حتى يشعر المكلف أو السالك بأنه أمام تحدٍ لا يستطيعه ، كلا ؛ بل هو دعوة دائمة إلى الترقي الأمثل والأفضل ، وأنه كلما وصل إلى نقطة من التوازن والاعتدال؛ وجد فوقها نقطة أخرى تناديه إليها ، فلا يزال في صعدٍ وترق ، يدركه أولاً بفضل الله الذي تضرع إليه وسأله الهداية ، ثم يدركه بالقراءة (اقرأ وارق) ومنه قراءة هذه الآية ، وهذه السورة ، وهذا القرآن ، وكل قراءة نافعة، ثم يدركه بالسلوك ولزوم الطريق، ودوام التيقظ، والتطلع للأفضل، والتجرد من التزكية المطلقة للنفس، واعتقاد أنها وصلت إلى التمام والنهاية ، بينما الطريق أمامك يناديك (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر:99) .
إن بعض السائرين يصل إلى درجة ثم يتوقف عندها، ويعتقد أنها هي المقصود بالهداية ؛ فيحاكم الناس إليها؛ غافلاً عما فوقها وما وراءها مما لم يصل إليه بعد .
والمرء يدرك بالتجربة أن مقاربة الالتزام الشرعي الدقيق لا تحقق بآلية فورية ، ولا بدعوى عريضة، ولا حتى بحرص شديد حتى يتم للسالك تكرار المحاولة والإلحاح ، والتطلع نحو الأفضل .
وليس الأمر أن ينتقل من خطأ إلى صواب ، بل من نقطة توازن إلى أخرى هي أدق منها؛ يدركها بالفقه الخاص المتحصل بدوام المراقبة ، وكثرة الاستعانة ، وكم في آحاد سلوكنا من المعاني الفاضلة التي نستند فيها إلى حجة شرعية ، ولو زيد لنا في العلم والفضيلة؛ لوجدنا أمثل منها وأحسن وأقرب زلفى .
ومن هذا قوله سبحانه : (يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) (الزمر: من الآية18) ، (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) (الزمر: من الآية55) ، (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا ) (الأعراف: من الآية145) ، فحسن العمل بمطابقته للشرع إن كان ديناً ، وتحقيقه للمصلحة إن كان دنيا ، وهذا وذاك يزداد تأنقاً ، وانسجاماً مع المقصود ، وسلامة من المؤثرات السلبية والأغراض الشخصية وما يطرأ على الفعل ، أو على نيته وتقصده، كلما أمعن المرء في مقامات العبودية والإخلاص والإقبال على النفس والتطلع للكمال اللائق بمثله.. والله أعلم .
.الإسلام اليوم