الاغتراب السياسي وما جناه علينا
د. أحمد الحسيني
1 - 4 - 2009
التغول الأمني للأنظمة السياسية العربية في مواجهة مجتمعاتها، مرجعه فشل هذه الأنظمة في تحقيق ما وعدت به شعوبها من تقدم ونهضة ونمو وفرص عمل وتطور اقتصادي، وواكب ذلك فشل سياسي في إقامة حياة سياسية حرة تتيح لتكوينات المجتمعات العربية الاشتراك في الحكم وتداول السلطة، وواكب ذلك إصرار الأنظمة الحاكمة على البقاء في السلطة بأي شكل وبكل طريقة دون النظر إلى الرضاء الشعبي واكتساب رضاء الناس.
هذه الحالة العجيبة من الفشل متعدد المستويات الذي أنتج حالة تغول أمني وعصا غليظة تقمع الناس وتخيفهم لتمنعهم من الاحتجاج، كان لها أثر شديد السلبية على نفسية المواطن العربي الذي عزف عن مسرحية المشاركة الشكلية وتمثيلية الشرعية المزيفة عبر صناديق الانتخابات المزورة، وآثر أن ينزوي بعيدًا يهتم بنفسه وبشأنه الخاص فقط.
وهكذا نشأت حالة الاغتراب وعدم الثقة بين الجماهير العربية وخاصة الشباب منهم المفعم بالطاقة والحيوية والرغبة في البذل والعمل والعطاء، فقد وجد هؤلاء الشباب أنفسهم في مواجهة الأنظمة البيروقراطية وأنماط السلطة غير الديمقراطية التي لا تبقيهم خارجها فقط، ولكنها تجعل دورهم ينحصر في الخضوع لها والالتزام بقوانينها مما يشعرهم بالعجز وعدم القدرة على تحقيق ذواتهم.
ولا يجهل أحد ما في هذا الاغتراب من إهدار لطاقات تحتاجها مجتمعاتنا، لكن الأمور لا تتوقف عند هذا الحد فقط، فهؤلاء الشباب المغتربون في أوطانهم، المتذمرون من الأوضاع السيئة التي تهمشهم وتعزلهم، إما ينسحبون كليًا من هذا الواقع ويرفضونه، وإما يخضعون له في الوقت الذي يعانون فيه النفور، وإما يتمردون على هذا المجتمع ويحاولون تغييره ولو بقوة السلاح كما رأينا في الجماعات الإسلامية التي مارست العنف والتي كلفت المواجهة معها مجتمعاتنا الفقيرة الكثير والكثير.
وإذا كانت الأنظمة السياسية العربية تعمل جاهدة على تخويف الشباب من السياسة وإلهائهم عنها وصرفهم عن المشاركة الفاعلة في شئون مجتمعاتهم، من خلال مخطط خبيث جعل مراحل الدراسة لا تتيح للشباب أي وقت للاهتمام بأي شيء آخر غير الدراسة، كما جعل الهم الأكبر للشباب بعد إنهاء مراحل التعليم تكوين مستقبله وأسرته، فإن الشباب مطالب بألا يساير الأنظمة في الاستسلام لهذه المخططات ويترك نفسه للإحباطات النفسية نتيجة الإحساس بالفشل وانعدام القيمة، وإنما على الشباب العمل المستمر والتفاعل الإيجابي وعدم الاستسلام، من خلال مؤسسات العمل الأهلي والاجتماعي والثقافي ومن خلال كل منافذ العمل السياسي السلمي المطروحة، بل إن عليه الضغط لفتح نوافذ جديدة تستوعب طاقاته وإمكاناته.
وإذا كان الاغتراب بمعنى اغتراب الصالحين والفلاسفة والعلماء، وبمعنى الاغتراب الوارد في الحديث الشريف: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) فإن هذا اغتراب مقبول وسليم وإيجابي، أما الاغتراب السلبي المرذول فهو ذلك الاغتراب الكامل والمطلق بفقدان النفس تماما بوصفها مركزا لتجربة الإنسان وشعوره.
وإذا كان بعض الباحثين والخبراء يعتبرون السلبية والعزوف والانعزال وعدم المشاركة نوعًا من المعارضة السلبية الفاعلة، وأن الأغلبية الصامتة هي في الواقع تعبير عن حالة عدم مشاركة، وهي نتاج أسباب تجعل من هذه المشاركة بدون فائدة، فالأمر ليس مسألة مشاركة، بقدر ما يتعلق بدور المشاركة وتأثيرها على مجريات الأمور، فإننا نعتقد أننا مطالبون بإثبات إيجابيتنا في مواجهة الحصار والتهميش والاغتراب، وعلى علمائنا في كل مجالات التخصص والمعرفة بذل الجهد للتأسيس لثقافة سياسية تهتم بأمور الناس وقضاياهم المصيرية، وبالذات فيما يرتبط بالحريات، كحرية الرأي والتصويت والتعبير والتظاهر والاجتماعات، من خلال نمط ثقافي يدفع الناس نحو التحرك والانطلاق والسعي الجاد للتغيير والإصلاح، على علمائنا الثقات مواجهة الثقافة الفاسدة المنتشرة حاليًا بين الناس على نطاق واسع والتي تشد الناس نحو الأرض وتكرس فيهم روح التبعية والخوف والتراجع والخلود إلى الدعة والراحة.
وليكن رائدنا جميعًا: كفانا سلبية، فالسلبية واقع نحياه ونعيشه في مجتمعاتنا، نحياها في كل مكان حولنا، فنرى الخطأ ونسكت عنه ولا نقاومه، ولا نأمره بالمعروف وننهاه عن المنكر، لما فيه صلاحنا جميعاً، فكل منا يسكت ويحتج قائلاً: وهل كلمتي هي التي ستغير الأمر؟، فحتى لو لم يحدث شيء يجب أن يكون الإنسان إيجابيًّا؛ لأن هذا أمر إلهي بغض النظر عن أي شيء آخر.
فأول طريق الإيجابية هو مقاومة روح اليأس والانهزامية المنتشرة في مجتمعاتنا بفعل سياسات التضييق والاعتقال والتعذيب، حتى أصبح معظم الناس يحتجون على من يطالبهم بالإيجابية قائلين: لا فائدة، ولا أمل في تغيير أو إصلاح، والذي يأتي أسوأ من الذي يذهب، وهذا يأس يجب مقاومته بنص القرآن: [فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون] يوسف: 87.
وينبغي أن تتأسس الإيجابية التي ننشدها انطلاقًا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أمرنا به الإسلام؛ لأن في تحقيقه مصلحة الأمة ونجاتها، وفي إهماله الخطر العظيم والفساد الكبير، واختفاء الفضائل، وظهور الرذائل، ومن أجل ذلك
قدمه سبحانه في بعض الآيات على الإيمان، الذي هو أصل الدين وأساس الإسلام، كما في قوله تعالى: [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ] آل عمران:110، ولأن المسلمين كانوا في الصدر الأول يعظمون هذا الواجب، ويقومون به خير قيام، كان حالهم على ما نعلم من صلاح الحال وانضباط المجتمع وقوته.
.لواء الشريعة
د. أحمد الحسيني
1 - 4 - 2009
التغول الأمني للأنظمة السياسية العربية في مواجهة مجتمعاتها، مرجعه فشل هذه الأنظمة في تحقيق ما وعدت به شعوبها من تقدم ونهضة ونمو وفرص عمل وتطور اقتصادي، وواكب ذلك فشل سياسي في إقامة حياة سياسية حرة تتيح لتكوينات المجتمعات العربية الاشتراك في الحكم وتداول السلطة، وواكب ذلك إصرار الأنظمة الحاكمة على البقاء في السلطة بأي شكل وبكل طريقة دون النظر إلى الرضاء الشعبي واكتساب رضاء الناس.
هذه الحالة العجيبة من الفشل متعدد المستويات الذي أنتج حالة تغول أمني وعصا غليظة تقمع الناس وتخيفهم لتمنعهم من الاحتجاج، كان لها أثر شديد السلبية على نفسية المواطن العربي الذي عزف عن مسرحية المشاركة الشكلية وتمثيلية الشرعية المزيفة عبر صناديق الانتخابات المزورة، وآثر أن ينزوي بعيدًا يهتم بنفسه وبشأنه الخاص فقط.
وهكذا نشأت حالة الاغتراب وعدم الثقة بين الجماهير العربية وخاصة الشباب منهم المفعم بالطاقة والحيوية والرغبة في البذل والعمل والعطاء، فقد وجد هؤلاء الشباب أنفسهم في مواجهة الأنظمة البيروقراطية وأنماط السلطة غير الديمقراطية التي لا تبقيهم خارجها فقط، ولكنها تجعل دورهم ينحصر في الخضوع لها والالتزام بقوانينها مما يشعرهم بالعجز وعدم القدرة على تحقيق ذواتهم.
ولا يجهل أحد ما في هذا الاغتراب من إهدار لطاقات تحتاجها مجتمعاتنا، لكن الأمور لا تتوقف عند هذا الحد فقط، فهؤلاء الشباب المغتربون في أوطانهم، المتذمرون من الأوضاع السيئة التي تهمشهم وتعزلهم، إما ينسحبون كليًا من هذا الواقع ويرفضونه، وإما يخضعون له في الوقت الذي يعانون فيه النفور، وإما يتمردون على هذا المجتمع ويحاولون تغييره ولو بقوة السلاح كما رأينا في الجماعات الإسلامية التي مارست العنف والتي كلفت المواجهة معها مجتمعاتنا الفقيرة الكثير والكثير.
وإذا كانت الأنظمة السياسية العربية تعمل جاهدة على تخويف الشباب من السياسة وإلهائهم عنها وصرفهم عن المشاركة الفاعلة في شئون مجتمعاتهم، من خلال مخطط خبيث جعل مراحل الدراسة لا تتيح للشباب أي وقت للاهتمام بأي شيء آخر غير الدراسة، كما جعل الهم الأكبر للشباب بعد إنهاء مراحل التعليم تكوين مستقبله وأسرته، فإن الشباب مطالب بألا يساير الأنظمة في الاستسلام لهذه المخططات ويترك نفسه للإحباطات النفسية نتيجة الإحساس بالفشل وانعدام القيمة، وإنما على الشباب العمل المستمر والتفاعل الإيجابي وعدم الاستسلام، من خلال مؤسسات العمل الأهلي والاجتماعي والثقافي ومن خلال كل منافذ العمل السياسي السلمي المطروحة، بل إن عليه الضغط لفتح نوافذ جديدة تستوعب طاقاته وإمكاناته.
وإذا كان الاغتراب بمعنى اغتراب الصالحين والفلاسفة والعلماء، وبمعنى الاغتراب الوارد في الحديث الشريف: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) فإن هذا اغتراب مقبول وسليم وإيجابي، أما الاغتراب السلبي المرذول فهو ذلك الاغتراب الكامل والمطلق بفقدان النفس تماما بوصفها مركزا لتجربة الإنسان وشعوره.
وإذا كان بعض الباحثين والخبراء يعتبرون السلبية والعزوف والانعزال وعدم المشاركة نوعًا من المعارضة السلبية الفاعلة، وأن الأغلبية الصامتة هي في الواقع تعبير عن حالة عدم مشاركة، وهي نتاج أسباب تجعل من هذه المشاركة بدون فائدة، فالأمر ليس مسألة مشاركة، بقدر ما يتعلق بدور المشاركة وتأثيرها على مجريات الأمور، فإننا نعتقد أننا مطالبون بإثبات إيجابيتنا في مواجهة الحصار والتهميش والاغتراب، وعلى علمائنا في كل مجالات التخصص والمعرفة بذل الجهد للتأسيس لثقافة سياسية تهتم بأمور الناس وقضاياهم المصيرية، وبالذات فيما يرتبط بالحريات، كحرية الرأي والتصويت والتعبير والتظاهر والاجتماعات، من خلال نمط ثقافي يدفع الناس نحو التحرك والانطلاق والسعي الجاد للتغيير والإصلاح، على علمائنا الثقات مواجهة الثقافة الفاسدة المنتشرة حاليًا بين الناس على نطاق واسع والتي تشد الناس نحو الأرض وتكرس فيهم روح التبعية والخوف والتراجع والخلود إلى الدعة والراحة.
وليكن رائدنا جميعًا: كفانا سلبية، فالسلبية واقع نحياه ونعيشه في مجتمعاتنا، نحياها في كل مكان حولنا، فنرى الخطأ ونسكت عنه ولا نقاومه، ولا نأمره بالمعروف وننهاه عن المنكر، لما فيه صلاحنا جميعاً، فكل منا يسكت ويحتج قائلاً: وهل كلمتي هي التي ستغير الأمر؟، فحتى لو لم يحدث شيء يجب أن يكون الإنسان إيجابيًّا؛ لأن هذا أمر إلهي بغض النظر عن أي شيء آخر.
فأول طريق الإيجابية هو مقاومة روح اليأس والانهزامية المنتشرة في مجتمعاتنا بفعل سياسات التضييق والاعتقال والتعذيب، حتى أصبح معظم الناس يحتجون على من يطالبهم بالإيجابية قائلين: لا فائدة، ولا أمل في تغيير أو إصلاح، والذي يأتي أسوأ من الذي يذهب، وهذا يأس يجب مقاومته بنص القرآن: [فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون] يوسف: 87.
وينبغي أن تتأسس الإيجابية التي ننشدها انطلاقًا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أمرنا به الإسلام؛ لأن في تحقيقه مصلحة الأمة ونجاتها، وفي إهماله الخطر العظيم والفساد الكبير، واختفاء الفضائل، وظهور الرذائل، ومن أجل ذلك
قدمه سبحانه في بعض الآيات على الإيمان، الذي هو أصل الدين وأساس الإسلام، كما في قوله تعالى: [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ] آل عمران:110، ولأن المسلمين كانوا في الصدر الأول يعظمون هذا الواجب، ويقومون به خير قيام، كان حالهم على ما نعلم من صلاح الحال وانضباط المجتمع وقوته.
.لواء الشريعة