نحو رؤية إسلامية في القانون الدولي الإنساني
محمد سيد بركة
يعاني العالم المعاصر من حروب باردة وأخرى ساخنة، وتكاد الحروب الساخنة لا تقع إلا من دول العالم الإسلامي، وذلك على الرغم من الاتفاقيات الدولية وتوصيات وقرارات المنظمات العالمية والدراسات القانونية الكثيرة التي تدعو إلى السلام وإنهاء النزاعات المسلحة بالطرق السلمية ومرد هذا إلى أن كل ما صدر من دراسات وتوصيات وقرارات ليس ملزمًا من جهة وليست هناك سلطة يعهد إليها بالتنفيذ من جهة أخرى.
ومن ثم تأتي دراسة الدكتور محمد الدسوقي نحو رؤية إسلامية في القانون الدولي الإنساني، والتي صدرت في القاهرة حديثًا لتقدم نظرة إسلامية في القانون الدولي الإنساني، وهي نظرة تعبر عن القيم الأخلاقية التي شرعها اللَّـه في الحروب، وهي وحدها التي تحفظ على البشرية في الصراعات المسلحة الكرامة الإنسانية وعدم الخروج بهذه الصراعات عن رسالتها في دعم السلام ومقاومة البغي والعدوان وكفالة الحرية الدينية للناس قاطبة والقضاء على الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
وقد جاءت الدراسة في تمهيد ومباحث أربعة وخاتمة. تناول الباحث في التمهيد المدخل التاريخي للقانون الدولي الإنساني، وبيَّن أن الإنسان منذ خلقه اللَّـه وهو يسعى بما أودعه اللَّـه فيه من دوافع حب الحياة إلى حفظ ذاته ونوعه واتخاذ ما اهتدى إليه من الوسائل لحماية نفسه من كل ما يتهددها أو يعرضها للهلاك حتى ينعم بحياة آمنة مطمئنة لا يعكر صفوها اعتداء عليه أو امتهان لكرامته أو هضم لحق من حقوقه، ولكن تصادم الإرادات والحريات الإنسانية، وبخاصة فيما يتعلق باكتساب ما يقوم بوفاء الحاجات التي تكفل لكل إنسان حياة طيبة، حال دون ما كان يسعى إليه بصورة كاملة، ومن ثم تعرض من كل زمان ومكان لضروب شتى من الإساءة إليه، ومثّلت الحروب عبر عصور التاريخ أخطر ألوان المعاناة التي سلبت من الإنسان حريته وإرادته وقضت عليه بالعبودية لغيره، لأنها لم تكن تعرف قيمًا إنسانية، فقد كانت تسير على شريعة الغاب، فالقوي يقتل الضعيف والمسلح يستَرِقّ الأعزل، فكل من استطاع أن يغلب أمة على أرضها ويكرهها على ترك عقيدتها ويسترقّ رجالها ونساءها فعل من غير تحرج ولا تأثم، وهو من أجل هذا يسرف في سفك الدماء في وحشية وهمجية دون تفرقة بين المقاتلين وغير المقاتلين، كما أنه لم يفرق بين ميادين القتال والمنشآت المدنية ودور العبادة ومصادر الحياة؛ لأن الحرب لم تكن تخضع إلا لإرادة الطرف المنتصر الذي يستبيح لنفسه كل ما يخطر له من أعمال منافية للإنسانية ولا تقتضيها ضرورات الحرب، كما وضّح أن الحروب التي عرفها الجنس البشري منذ أقدم العصور كانت تمثل ضراوة المعاناة لهذا الجنس، ولكن من خصائص الفطرة الإنسانية التغلب على شدة الغرائز الحيوانية، وبيَّن بعض المحاولات الإنسانية التي كانت تحاول وضع حد لويلات الحروب وجرائمها المروعة، فقد جاء في قانون مانو الهندي الذي يرجع إلى قرن كامل قبل الميلاد أنه ينهى عن استخدام السهام المسمومة والنبال المميتة، كما ينهى عن قتل الجرحى المصابين أو اغتيال الناس وهم نيام، وكذلك في عام 538 قبل الميلاد أمر ملك الفرس جنوده في فتح بابليون باحترام أماكن العبادة ومعاملة الشعوب المقهورة معاملة إنسانية، وبيَّن أن الديانة المسيحية كان لها أثر واضح في تقرير بعض القواعد الأخلاقية في العلاقات الدولية في السلم والحرب وإن كان أتباع المسيحية لا يطبقون تلك القواعد إلا على الدول المسيحية.. وبمجيء الإسلام تم وضع تفاصيل شاملة لأصول القواعد الإنسانية للعلاقات الدولية في السلم والحرب.
وتناول الباحث في المبحث الأول: القانون الدولي الإنساني. وبيّن فيه أن دراسة حقوق الإنسان أثناء النزاع المسلح على المستوى الدولي أو الإقليمي لها جذور تاريخية قديمة، وأن الاهتمام بهذه الحقوق جاء ضمن ما اصطلح عليه بالقانون الدولي، وبيّن أن هناك تعريفات عديدة للقانون الدولي الإنساني، منها أن هذا القانون هو مجموعة الأعراف التي توفر الحماية لفئات معينة من الأفراد أو الممتلكات، وهذه الأعراف مستمدة من المعاهدات أو القانون التعاهدي للصراعات المسلحة، وأيضًا يمكن القول بأن القانون الدولي الإنساني هو مجموعة القواعد والمبادئ التي أقرتها الدول لتنظيم حقوق الإنسان إلى حماية حقوق الإنسان وتنظيمها سواء في مواجهة دولته أو مواجهة دولة أجنبية، ومن أهم تطبيقات هذه الحقوق التي يوردها الباحث الحد من الآثار التي يحدثها العنف على المحاربين بما يتجاوز القدر اللازم الذي تقتضيه الضرورات الحربية، وكذلك تجنيب الأشخاص الذين لا يشتركون بشكل مباشر في الأعمال الحربية، وحماية الأقليات الدينية في الدول التي تعيش فيها وبين تعدد مصادر القانون الدولي الإنساني من اتفاق لاهاي لعامي 1899، 1907م، واتفاقيات جنيف لعامي 1949م و1977م، والأعراف الدولية، وكذلك ميثاق هيئة الأمم المتحدة 1946م، ومن قبله ميثاق عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى في القرن الميلادي الماضي.
كما تحدث عن خصائص القانون الدولي الإنساني ووسائل تنفيذه وبين أن هذا القانون نشأ رد فعل لما شهدته المعارك الحربية في الدول الغربية من جرائم وحشية مروعة ضد القيم الإنسانية، وأن مصادر القانون الدولي الإنساني ترجع إلى العرف والمعاهدات وما يمليه الضمير العام ومبادئ الإنسانية، والذي لا مراء فيه أن الفكر القانوني الوضعي في مجال حماية الإنسان واحترام آدميته ف يوقت الحرب والسلم فكر جديد على المجتمعات الغربية، ولكن مضمونه نشأ في الفكر الإسلامي منذ صَدْر الإسلام، ويشهد لذلك ما ورد في كتاب اللَّـه العزيز وسنة نبيه الكريم من نصوص تأمر بعدم العدوان وتجعل للحرب عند الضرورة غاية مقدسة، وهي أن تكون كلمة اللَّـه هي العليا، وأن الأصل في العلاقة بين الناس السلام والتعارف ومن ثم تصبح الحرب وسيلة للسلام وتكون نظيفة شريفة لا تعرف استعلاءً ولا نهبًا للثروات.
ومن هنا كان موضوع المبحث الثاني: الإسلام والإنسان، الذي بيَّن فيه أن تشريعات الإسلام وآدابه لا تعرف الانغلاق ولا تهاب ما لدى الآخرين من فكر وعلم أو تنظر إليه نظرة عداء وازدراء، فالحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها أخذها، وعند من رآها طلبها، ولكي تتضح الرؤية الإسلامية للقانون الدولي الإنساني تحدث الباحث عن منزلة الإنسان في الإسلام، وأن الإنسان هو مركز بناء الأمة، وقد حرره الإسلام بالتوحيد من كل ألوان الفردية والسلبية والطغيان ومن ثم كان بهذه العقيدة نموذجًا متميزًا بقيم العزة والفضيلة وإعمار الأرض بالخير والبر والإحسان، كما قرر الوحدة الإنسانية وأن الناس جميعًا أمة واحدة، فأصلهم واحدة ومصيرهم واحد، وأن مبدأ الأخوة والمساواة والوحدة الإنسانية يقتضي بالضرورة أن يكون أصل العلاقة بين الناس السلام والوئام والتعاون وتبادل المنافع، ومن ثم فالحرب في الإسلام ليست أصلاً من أصوله، وليست غاية في ذاتها، ولكنها تباح عند الضرورة لعلاج مرض لم تُجْدِ الوسائل السلمية في علاجه.
ويؤكد الباحث على أن مبدأ التعايش السلمي، الذي تتطلع إليه الشعوب في حاضرها، أصوله إسلامية، ثم تحدث عن صحيفة المدينة التي اشتملت على سبع وأربعين فقرة أو بند، منها ثلاثة وعشرون بندًا خاصة بوثيقة الحلف بين الأنصار والمهاجرين، وباقي بنود هذه الوثيقة خاص بموادعة اليهود، وقد قررت الوثيقة جملة من المبادئ والقواعد التي تعد آية من آيات عبقرية الرسول صلى الله عليه وسلم السياسية، كما تُعَدُّ فتحًا جديدًا في حياة المسلمين بعد الهجرة، ومن أهم تلك المبادئ: وحدة المسلمين، والحرية الدينية، ووحدة أهل المدينة وتنظيم الحياة الاجتماعية، وبذلك يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد أعلن أول دستور ينظم العلاقة بين سكان الدولة الجديدة.
لقد أوضح هذا الدستور التزامات جميع الأطراف وتحديد الحقوق والواجبات، ولم تعرف البشرية قبل هذا الدستور قانونًا ينظم العلاقات بين الناس على النحو الذي جاء في دستور المدينة.. كما تحدث عن الحرب المشروعة في الإسلام، وكذلك الحروب التي يرفضها الإسلام، كما تناول أسلحة الدمار الشامل وموقف الإسلام منها، وبيَّن أن الإسلام يفرض على المسلمين أن يكُفُّوا ابتداءً عما لا تجيزه أصول الحرب، فإذا لم يكف أعداؤهم عنها كان لهم أن يقاتلوهم بمثلها، وبيّن أن الإسلام يرفض الحروب التي تثيرها الأطماع العدوانية وحب الأمجاد الزائفة للملوك والأبطال، أو حب المغانم الشخصية والأسلاب.
بينما تناول المبحث الثالث: القيم الإنسانية في الحروب الإسلامية. وأجملها في عدم الاعتداء، ووجوب الإعلان والتخيير بين ثلاث خصال: الإسلام أو الجزية أو الحرب.
ويرى الإمام السرخسي أن القتال في الإسلام ليس للإكراه في الدين، ولكن لتحقيق مصالح العباد بإنقاذهم من الطغاة والذين يفرضون على الشعوب العقائد والمبادئ، حتى يكون الطريق أمام دعوة اللَّـه خاليًا من الأشواك والعقبات يسلكه من يشاء ويعرض عنه من أبى، وكذلك بيّن أن مقاتلة المقاتلين دون غيرهم من القيم الإسلامية في الحرب، وأكد على عصمة دماء غير المقاتلين من العباد والضعفاء والأُجراء والعمال والرسل ورعايا الأعداء، كما وضّح أن سيادة الفضيلة واحترام الكرامة الإنسانية من أهم القيم الإنسانية في الحروب الإسلامية، ورعاية الجرحى وحسن معاملة الأسرى وعدم التخريب وحماية المنشآت المدنية.
وبذلك يصل الباحث إلى المبحث الرابع الذي يبيّن أن هناك توافقًا بين القوانين المعاصرة والتشريعات الإسلامية، وأكد أن الإنسان في تفكيره ما لم يكن محكومًا بتشريع إلهي يسدد خطاه، فإنه يزل وضل، وكذلك ينفرد الإسلام في تشريعاته بمرجعية دينية تجعل لها على النفوس هيبة وسلطانًا والتزامًا صادقًا بها، وأن النزعة الإنسانية في التشريعات الإسلامية هي وحدها السبيل لحياة عزيزة للناس كافة وأوصى الباحث أن كل فكر مهما يكن صالحًا للحياة وأولى من سواه بالتطبيق إذا لم يكن له حُماة يؤمنون به ويذودون عنه، فإنه يظل كصرخة في وادٍ، ولهذا كانت دعوة الإسلام إلى إعداد القوة بمفهومها الشامل، فقوة المسلمين عقيدة وإعدادًا هي مناط إرهاب أعداء اللَّـه وتطبيق شرعه وإعلاء كلمته.
.لواء الشريعة
محمد سيد بركة
يعاني العالم المعاصر من حروب باردة وأخرى ساخنة، وتكاد الحروب الساخنة لا تقع إلا من دول العالم الإسلامي، وذلك على الرغم من الاتفاقيات الدولية وتوصيات وقرارات المنظمات العالمية والدراسات القانونية الكثيرة التي تدعو إلى السلام وإنهاء النزاعات المسلحة بالطرق السلمية ومرد هذا إلى أن كل ما صدر من دراسات وتوصيات وقرارات ليس ملزمًا من جهة وليست هناك سلطة يعهد إليها بالتنفيذ من جهة أخرى.
ومن ثم تأتي دراسة الدكتور محمد الدسوقي نحو رؤية إسلامية في القانون الدولي الإنساني، والتي صدرت في القاهرة حديثًا لتقدم نظرة إسلامية في القانون الدولي الإنساني، وهي نظرة تعبر عن القيم الأخلاقية التي شرعها اللَّـه في الحروب، وهي وحدها التي تحفظ على البشرية في الصراعات المسلحة الكرامة الإنسانية وعدم الخروج بهذه الصراعات عن رسالتها في دعم السلام ومقاومة البغي والعدوان وكفالة الحرية الدينية للناس قاطبة والقضاء على الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
وقد جاءت الدراسة في تمهيد ومباحث أربعة وخاتمة. تناول الباحث في التمهيد المدخل التاريخي للقانون الدولي الإنساني، وبيَّن أن الإنسان منذ خلقه اللَّـه وهو يسعى بما أودعه اللَّـه فيه من دوافع حب الحياة إلى حفظ ذاته ونوعه واتخاذ ما اهتدى إليه من الوسائل لحماية نفسه من كل ما يتهددها أو يعرضها للهلاك حتى ينعم بحياة آمنة مطمئنة لا يعكر صفوها اعتداء عليه أو امتهان لكرامته أو هضم لحق من حقوقه، ولكن تصادم الإرادات والحريات الإنسانية، وبخاصة فيما يتعلق باكتساب ما يقوم بوفاء الحاجات التي تكفل لكل إنسان حياة طيبة، حال دون ما كان يسعى إليه بصورة كاملة، ومن ثم تعرض من كل زمان ومكان لضروب شتى من الإساءة إليه، ومثّلت الحروب عبر عصور التاريخ أخطر ألوان المعاناة التي سلبت من الإنسان حريته وإرادته وقضت عليه بالعبودية لغيره، لأنها لم تكن تعرف قيمًا إنسانية، فقد كانت تسير على شريعة الغاب، فالقوي يقتل الضعيف والمسلح يستَرِقّ الأعزل، فكل من استطاع أن يغلب أمة على أرضها ويكرهها على ترك عقيدتها ويسترقّ رجالها ونساءها فعل من غير تحرج ولا تأثم، وهو من أجل هذا يسرف في سفك الدماء في وحشية وهمجية دون تفرقة بين المقاتلين وغير المقاتلين، كما أنه لم يفرق بين ميادين القتال والمنشآت المدنية ودور العبادة ومصادر الحياة؛ لأن الحرب لم تكن تخضع إلا لإرادة الطرف المنتصر الذي يستبيح لنفسه كل ما يخطر له من أعمال منافية للإنسانية ولا تقتضيها ضرورات الحرب، كما وضّح أن الحروب التي عرفها الجنس البشري منذ أقدم العصور كانت تمثل ضراوة المعاناة لهذا الجنس، ولكن من خصائص الفطرة الإنسانية التغلب على شدة الغرائز الحيوانية، وبيَّن بعض المحاولات الإنسانية التي كانت تحاول وضع حد لويلات الحروب وجرائمها المروعة، فقد جاء في قانون مانو الهندي الذي يرجع إلى قرن كامل قبل الميلاد أنه ينهى عن استخدام السهام المسمومة والنبال المميتة، كما ينهى عن قتل الجرحى المصابين أو اغتيال الناس وهم نيام، وكذلك في عام 538 قبل الميلاد أمر ملك الفرس جنوده في فتح بابليون باحترام أماكن العبادة ومعاملة الشعوب المقهورة معاملة إنسانية، وبيَّن أن الديانة المسيحية كان لها أثر واضح في تقرير بعض القواعد الأخلاقية في العلاقات الدولية في السلم والحرب وإن كان أتباع المسيحية لا يطبقون تلك القواعد إلا على الدول المسيحية.. وبمجيء الإسلام تم وضع تفاصيل شاملة لأصول القواعد الإنسانية للعلاقات الدولية في السلم والحرب.
وتناول الباحث في المبحث الأول: القانون الدولي الإنساني. وبيّن فيه أن دراسة حقوق الإنسان أثناء النزاع المسلح على المستوى الدولي أو الإقليمي لها جذور تاريخية قديمة، وأن الاهتمام بهذه الحقوق جاء ضمن ما اصطلح عليه بالقانون الدولي، وبيّن أن هناك تعريفات عديدة للقانون الدولي الإنساني، منها أن هذا القانون هو مجموعة الأعراف التي توفر الحماية لفئات معينة من الأفراد أو الممتلكات، وهذه الأعراف مستمدة من المعاهدات أو القانون التعاهدي للصراعات المسلحة، وأيضًا يمكن القول بأن القانون الدولي الإنساني هو مجموعة القواعد والمبادئ التي أقرتها الدول لتنظيم حقوق الإنسان إلى حماية حقوق الإنسان وتنظيمها سواء في مواجهة دولته أو مواجهة دولة أجنبية، ومن أهم تطبيقات هذه الحقوق التي يوردها الباحث الحد من الآثار التي يحدثها العنف على المحاربين بما يتجاوز القدر اللازم الذي تقتضيه الضرورات الحربية، وكذلك تجنيب الأشخاص الذين لا يشتركون بشكل مباشر في الأعمال الحربية، وحماية الأقليات الدينية في الدول التي تعيش فيها وبين تعدد مصادر القانون الدولي الإنساني من اتفاق لاهاي لعامي 1899، 1907م، واتفاقيات جنيف لعامي 1949م و1977م، والأعراف الدولية، وكذلك ميثاق هيئة الأمم المتحدة 1946م، ومن قبله ميثاق عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى في القرن الميلادي الماضي.
كما تحدث عن خصائص القانون الدولي الإنساني ووسائل تنفيذه وبين أن هذا القانون نشأ رد فعل لما شهدته المعارك الحربية في الدول الغربية من جرائم وحشية مروعة ضد القيم الإنسانية، وأن مصادر القانون الدولي الإنساني ترجع إلى العرف والمعاهدات وما يمليه الضمير العام ومبادئ الإنسانية، والذي لا مراء فيه أن الفكر القانوني الوضعي في مجال حماية الإنسان واحترام آدميته ف يوقت الحرب والسلم فكر جديد على المجتمعات الغربية، ولكن مضمونه نشأ في الفكر الإسلامي منذ صَدْر الإسلام، ويشهد لذلك ما ورد في كتاب اللَّـه العزيز وسنة نبيه الكريم من نصوص تأمر بعدم العدوان وتجعل للحرب عند الضرورة غاية مقدسة، وهي أن تكون كلمة اللَّـه هي العليا، وأن الأصل في العلاقة بين الناس السلام والتعارف ومن ثم تصبح الحرب وسيلة للسلام وتكون نظيفة شريفة لا تعرف استعلاءً ولا نهبًا للثروات.
ومن هنا كان موضوع المبحث الثاني: الإسلام والإنسان، الذي بيَّن فيه أن تشريعات الإسلام وآدابه لا تعرف الانغلاق ولا تهاب ما لدى الآخرين من فكر وعلم أو تنظر إليه نظرة عداء وازدراء، فالحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها أخذها، وعند من رآها طلبها، ولكي تتضح الرؤية الإسلامية للقانون الدولي الإنساني تحدث الباحث عن منزلة الإنسان في الإسلام، وأن الإنسان هو مركز بناء الأمة، وقد حرره الإسلام بالتوحيد من كل ألوان الفردية والسلبية والطغيان ومن ثم كان بهذه العقيدة نموذجًا متميزًا بقيم العزة والفضيلة وإعمار الأرض بالخير والبر والإحسان، كما قرر الوحدة الإنسانية وأن الناس جميعًا أمة واحدة، فأصلهم واحدة ومصيرهم واحد، وأن مبدأ الأخوة والمساواة والوحدة الإنسانية يقتضي بالضرورة أن يكون أصل العلاقة بين الناس السلام والوئام والتعاون وتبادل المنافع، ومن ثم فالحرب في الإسلام ليست أصلاً من أصوله، وليست غاية في ذاتها، ولكنها تباح عند الضرورة لعلاج مرض لم تُجْدِ الوسائل السلمية في علاجه.
ويؤكد الباحث على أن مبدأ التعايش السلمي، الذي تتطلع إليه الشعوب في حاضرها، أصوله إسلامية، ثم تحدث عن صحيفة المدينة التي اشتملت على سبع وأربعين فقرة أو بند، منها ثلاثة وعشرون بندًا خاصة بوثيقة الحلف بين الأنصار والمهاجرين، وباقي بنود هذه الوثيقة خاص بموادعة اليهود، وقد قررت الوثيقة جملة من المبادئ والقواعد التي تعد آية من آيات عبقرية الرسول صلى الله عليه وسلم السياسية، كما تُعَدُّ فتحًا جديدًا في حياة المسلمين بعد الهجرة، ومن أهم تلك المبادئ: وحدة المسلمين، والحرية الدينية، ووحدة أهل المدينة وتنظيم الحياة الاجتماعية، وبذلك يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد أعلن أول دستور ينظم العلاقة بين سكان الدولة الجديدة.
لقد أوضح هذا الدستور التزامات جميع الأطراف وتحديد الحقوق والواجبات، ولم تعرف البشرية قبل هذا الدستور قانونًا ينظم العلاقات بين الناس على النحو الذي جاء في دستور المدينة.. كما تحدث عن الحرب المشروعة في الإسلام، وكذلك الحروب التي يرفضها الإسلام، كما تناول أسلحة الدمار الشامل وموقف الإسلام منها، وبيَّن أن الإسلام يفرض على المسلمين أن يكُفُّوا ابتداءً عما لا تجيزه أصول الحرب، فإذا لم يكف أعداؤهم عنها كان لهم أن يقاتلوهم بمثلها، وبيّن أن الإسلام يرفض الحروب التي تثيرها الأطماع العدوانية وحب الأمجاد الزائفة للملوك والأبطال، أو حب المغانم الشخصية والأسلاب.
بينما تناول المبحث الثالث: القيم الإنسانية في الحروب الإسلامية. وأجملها في عدم الاعتداء، ووجوب الإعلان والتخيير بين ثلاث خصال: الإسلام أو الجزية أو الحرب.
ويرى الإمام السرخسي أن القتال في الإسلام ليس للإكراه في الدين، ولكن لتحقيق مصالح العباد بإنقاذهم من الطغاة والذين يفرضون على الشعوب العقائد والمبادئ، حتى يكون الطريق أمام دعوة اللَّـه خاليًا من الأشواك والعقبات يسلكه من يشاء ويعرض عنه من أبى، وكذلك بيّن أن مقاتلة المقاتلين دون غيرهم من القيم الإسلامية في الحرب، وأكد على عصمة دماء غير المقاتلين من العباد والضعفاء والأُجراء والعمال والرسل ورعايا الأعداء، كما وضّح أن سيادة الفضيلة واحترام الكرامة الإنسانية من أهم القيم الإنسانية في الحروب الإسلامية، ورعاية الجرحى وحسن معاملة الأسرى وعدم التخريب وحماية المنشآت المدنية.
وبذلك يصل الباحث إلى المبحث الرابع الذي يبيّن أن هناك توافقًا بين القوانين المعاصرة والتشريعات الإسلامية، وأكد أن الإنسان في تفكيره ما لم يكن محكومًا بتشريع إلهي يسدد خطاه، فإنه يزل وضل، وكذلك ينفرد الإسلام في تشريعاته بمرجعية دينية تجعل لها على النفوس هيبة وسلطانًا والتزامًا صادقًا بها، وأن النزعة الإنسانية في التشريعات الإسلامية هي وحدها السبيل لحياة عزيزة للناس كافة وأوصى الباحث أن كل فكر مهما يكن صالحًا للحياة وأولى من سواه بالتطبيق إذا لم يكن له حُماة يؤمنون به ويذودون عنه، فإنه يظل كصرخة في وادٍ، ولهذا كانت دعوة الإسلام إلى إعداد القوة بمفهومها الشامل، فقوة المسلمين عقيدة وإعدادًا هي مناط إرهاب أعداء اللَّـه وتطبيق شرعه وإعلاء كلمته.
.لواء الشريعة