مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
الخوف من عذاب الله تعالى
الخوف من عذاب الله تعالى

النماذج في قصتي نوح ولوط عليهما السلام
عامر غضبان
من الأساليب المؤثرة في القرآن الكريم أسلوب المقابلة بين المؤمنين والكافرين، ومن التطبيقات الظاهرة لهذا الأسلوب عرض نماذج كلا الفريقين في قصص السابقين، أو في مشاهد القيامة، أو في الوصف والتحليل العام لحال وشخصية كل من المؤمن والكافر.

ومن أبرز آثار الإيمان بالله تعالى استشعار عظم قدرته، والخوف من بطشه وعذابه، ودوام هذا الشعور حتى لا يقع المؤمن في فتنة الأمن من مكرا لله تعالى، فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.

ونرى هذا الأثر للإيمان بالله تعالى في الفرق بين المؤمنين وسواهم واضحاً في قصتين من قصص أهل القرى السابقين، هما قصتا نوح ولوط عليهما السلام.

ففي قصة نوح نرى مشهده عليه السلام وهو يصنع الفلك التي أمره الله تعالى بصناعتها، ليكون وسيلته التي سخرها الله لنجاته مع من آمن معه، وما آمن معه إلا قليل، ويراه قومه يفعل ذلك، فيسخرون منه، فيقول لهم: (إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون، فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم) [هود: 38-39].

لقد امتثل نوح لأمر الله تعالى وهو مؤمن بما أخبره الله به من أن العذاب قادم على الكافرين، قال الله مخبراً عن نفسه سبحانه وتعالى أنه أوحى إلى نوح فيما أوحى إليه: (ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون) [المؤمنون: 27]. فكان هذا العذاب بالنسبة إلى نوح عليه السلام يقيناً متحققاً ووعداً أكيداً، بنى عليه أفعاله وسلوكه، وإن كان يبدو بعيداً وغير منطقي لغير المؤمنين.

وفي مقابل نموذج نوح عليه السلام، نرى نموذج ابنه الذي لم يوقن أن الطوفان عذاب من الله تعالى، حتى عندما بدأ الماء يرتفع وتظهر دلائل صدق أبيه نوح عليه السلام، وعندما طلب إليه نوح عليه السلام أن يركـب السفينـة، قـال:)سآوي إلى جبل يعصمني من الماء( ، فأجابه نوح عليه السلام وذكَّره: )لا عاصمَ اليومَ من أمر الله إلا مَن رَحِمَ( [هود: 43]. وكانت عاقبة الابن أن كان من المغرقين.يقول الشيخ الطاهر ابن عاشور رحمه الله عند تفسير هذه الآيات من سورة هود: ’’جملة )ولا تكن مع الكافرين( معطوفة على جملة )اركب معنا) لإعلامه بأن إعراضه عن الركوب يجعله في صف الكفار، إذ لا يكون إعراضه عن الركوب إلا أثراً لتكذيبه بوقوع الطوفان، فقول نوح عليه السلام له: (اركب معنا) كناية عن دعوته إلى الإيمان بطريقة العرض والتحذير. وقد زاد ابنه دلالة على عدم تصديقه بالطوفان قوله متهكماً: (سآوي إلى جبل يعصمني من الماء) ’’.(1)

ومن دلالات رفض ابن نوح للتصديق بالعذاب أن الطلب إليه بركوب السفينة كان من والده، وكان من دواعيه الشفقة من الوالد على ولده، فإن وجد الاعتقاد بكذب نوح عليه السلام على الناس عند الكافرين، فإن كذبه على ولده مستبعد، وصدقه في طلب نجاته هو الأقرب وروداً. والحق إن موقف ابن نوح يعبر عن إنكارشديد وعناد كبير حين يرى الموج كالجبال، ويخبره والده – وهو النبي الصادق – أن لا عاصم اليوم من أمر الله، ثم يتردد بعد ذلك في ركوب السفينة أو يرفض.

ومثل نوح عليه السلام مع ابنه مثل لوط عليه السلام مع امرأته، فيوم أن جاءت الملائكة لوطاً أبلغوه بأنهم رسل الله وقالوا له: (يا لوطُ إنا رُسُل ربِّك لن يصلوا إليك فأَسْرِ بأهلك بقطْع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتَك إنه مُصيبُها ما أصابهم إن موعدَهم الصبحُ أليس الصبح بقريب) [هود: 81]. وأعلموه بأن العذاب الذي سينال القرية عذاب شديد يقطع دابر الكافرين: (وقضينا إليه ذلك الأمرَ أنَّ دابِرَ هؤلاء مقطوعٌ مُصبِحين) [الحجر: 66]، (إنا مُنزِلون على أهل هذه القريةِ رِجزاً من السماء بما كانوا يَفسقون) [العنكبوت: 34].وكان قوم لوط يستبعدون وقوع العذاب الذي يتهددهم به لوط عليه السلام.

وقد وصف الله غفلتهم وشدة ضلالهم بقوله: (لعَمْرُكَ إنهم لفي سكرتهم يعمَهون) [الحجر: 72]. وقد كانوا يعبرون عن كفرهم بتحدي لوط أن يأتيهم بعذاب الله حين ينهاهم عن إتيان فواحشهم ومنكراتهم: (فما كان جوابَ قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إنْ كنتَ من الصادقين) [العنكبوت: 29].وقد فعل لوط عليه السلام ما أمره الله به، وخرج بأهله ليلاً، ولم يلتفت، ووقع العذاب بقومه، وأصاب العذاب كذلك امرأته الكافرة، وقد اختلف المفسرون في وقت إصابتها بالعذاب، فقيل: إنها خرجت معه، لكنها لم تمتثل الأمر بعدم الالتفات، فأصابها ما أصابهم. وقيل: إنها لم تخرج أصلاً، ولم يخبرها لوط بخروجه أصلاً.

وعلى كلا القولين فإنها كانت كافرة، لم تصدق بالعذاب. يقول ابن عاشور رحمه الله: ’’ذكر في سورة التحريم أن امرأة لوط كانت كافرة، وقال المفسرون: كانت تُسرُّ الكفر وتظهر الإيمان، ولعل سبب التفاتها لأنها كانت غير موقنة بنزول العذاب على قوم لوط. ويحتمل أنها لم تخرج مع لوط عليه السلام، وأن قوله )إلا امرأتك) في سورة هود استثناء من (أهلك) لا من (أحد)’’.(2)
وهكذا نرى في قصتي النبيين الكريمين نوح ولوط عليهما السلام نموذج المؤمن الموقن بقدرة الله تعالى، المصدق بما ينزله الله تعالى، الذي ينطلق في كل تصرفاته وكل مراحل سيره من أمر الله تعالى واستشعار قربه ورؤية آثار رحمته وعذابه. وكذلك نرى نموذج المعرض عن آيات الله تعالى، الذي لا يريد قبول فكرة أن عذاب الله قريب، أو لا يرى أنه ممن يستحق هذا العذاب، حتى عندما تأتيه الأخبار والآيات بقرب وقوعه وبداية آثاره، وبين هذين النموذجين نماذج مختلفة، ممن ينجيه إيمانه، ومن لا ينجيه إيمانه، لأنه لم يؤمن إلا بعد أن حقت عليه كلمة العذاب.إن أثر الإيمان بقدرة الله تعالى تراه في نفس المؤمن الذي يذكر الله تعالى في كل موقف، وينبعث ذكره لله تعالى من قلبه ونفسه المتيقظة دائماً، المعلقة بين خوف الله تعالى ورجائه، فهو في تغيرات الكون والمجتمعات، وفي آيات الآفاق والأنفس، وفي السنن السائرة والمعجزات الخارقة، مؤمن بالله تعالى، متقرب إليه. وربما لا يكون المؤمن ممن بلغ هذه المنزلة من حياة القلب الدائمة، لكنه يتذكر حين تأتيه الذكرى، إن الذكرى تنفع المؤمنين.

وفي دعوة المؤمن لغيره، عليه أن يعمل لنقل هذا الأثر إلى من سواه، بالقول والعمل، فينبه إلى آثار رحمة الله تعالى، ويحذر من سرعة مكر الله تعالى وشدة عذابه، ويحاول أن ييسر الهداية للمهتدين، ويزيل موانع القبول عند المعرضين، وذلك على سنة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. ) وما منَعَ الناسَ أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربَّهم إلا أن تأتيَهم سُنةُ الأوَّلين أو يأتيَهم العذابُ قُبُلاً، وما نُرسلُ المرسلين إلا مبشرين ومنذِرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليُدْحِضوا به الحقَّ واتخذوا آياتي وما أُنذِروا هُزُواً)[الكهف: 55-56].
.الرشد
أضافة تعليق