غزة.. بين توازنات القوة والأبعاد الحضارية
د. نادية محمود مصطفى
نجحت إسرائيل عبر أكثر من نصف قرن أن ترد سلاحنا ضدها إلى صدورنا.. نجحت إسرائيل عبر أكثر من نصف قرن أن تعبئ تحالفات القوى الكبرى معها وضدنا نحن أصحاب الحق.
نجحت إسرائيل عبر أكثر من نصف قرن أن تفكك صفوفنا وتماسكنا في مواجهتها وتحوله إلى صراعات بينية عربية – عربية، ثم عربية إسلامية، ناهيك عن الفلسطينية - الفلسطينية، حول ما يسمى سبل المواجهة أو سبل التسوية.
ومع ذلك، فما زالت المقاومة مستمرة، وما مشهد الصمود في غزة إلا علامة مضيئة في الصراع العربي الإسرائيلي.
كيف نرى غزة الآن؟
إن استرجاع شريط ممتد من أحداث ووقائع إدارة الحرب وإدارة المفاوضات يبين لنا أنماطًا متكررة تاريخية -لها جذور ممتدة في النصف الأول من القرن العشرين أيضًا- وهي الأنماط التالية:
(1) نمط غلبة قوة المعتدي المادية.
(2) نمط تداعي أعداء الأمة الإسلامية وتحالف مشروعاتهم الصهيونية والإمبريالية على محاولات تجديد قوة الأمة العربية والإسلامية، سواء في روافدها العروبية أو الإسلامية؛ فإسرائيل وأمريكا التي ضربت المشروع الناصري القومي هي التي تتصدى أيضًا للمشروع الإسلامي الذي ما زال يقود الآن المقاومة المسلحة ضدهما.
(3) نمط تفاقم تأثير الصراعات العربية – العربية والعربية الإسلامية حول عواقب خيار المقاومة في مقابل مزايا فوائد التفاوض والتسوية السلمية.
كل ذلك في وقت تزايدت فيه الأدلة والدلائل على أن التفاوض الذي تقبله إسرائيل وأمريكا ليس وسيلة ولكنه غاية في حد ذاته؛ حيث يتحول إلى مظلة لكسب الوقت واستنزاف التنازلات المستمرة والمتراكمة، واستكمال توطيد المشروع الصهيوني على الأرض.
فبعد أن كانت أصوات المحذرين والمشككين في دخول التفاوض مع إسرائيل، بلا بصيرة وبلا رؤية إستراتيجية، تضع التفاوض في محله من خريطة أشمل للمقاومة، وبعد أن كانت هذه الأصوات لا تجد أدلة قوية في بداية التسعينيات على تحذيراتها وشكوكها ورفضها؛ حيث كان الجميع مندفعًا وراء أوهام ما يسمى بالنظام العالمي الجديد الذي اقترن الإعلان عنه بنهاية الحرب الباردة من ناحية، وبتدشين المفاوضات العربية الإسرائيلية المباشرة في مدريد 1991 من ناحية ثانية، فإذا بنا الآن، وبعد ما يقرب من عقدين قد توافرت الأدلة وتراكمت على مصداقية هذه التحذيرات وهذه الشكوك وهذا الرفض لمنهج تسوية سلمية لا يقوم على إستراتيجية المقاومة الحضارية التي تضع -في مواجهة مشروع استيطاني استعماري عنصري- كل أدوات القوة معًا، فلا تستبعد المقاومة لصالح ما يسمى: ’’السلام خيار إستراتيجي’’.
فلقد تراكمت الأدلة عبر مفاصل عديدة بيَّنت كيف نجحت سياسات المعتدي في أن تحول المقاومة إلى إرهاب، وكيف تحولت المفاوضات إلى فرض شروط الاستسلام، وكيف تتحول الآن قضية حق تقرير مصير شعب إلى مجرد مأساة إنسانية في ظل صمت العالم واستسلام العرب أمام ما يحدث في غزة.. ليس فقط ما يحدث في غزة منذ بداية العام الهجري الجديد مع انفجار الحرب الصهيونية عليها، ولكن ما يحدث منذ أن بدأت الوقيعة بين صفوف المقاومة الفلسطينية برافديها الوطني (فتح) والإسلامي (حماس).
وهى الوقيعة التي دشنت لها خطة الطريق، والتي وإن استهدفت حلولا دبلوماسية لأزمة التفاوض منذ اندلاع الانتفاضة الثانية في سنة 2000 في مواجهة استمرار العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، إلا أنها استحدثت سبيلا جديدًا يستكمل ما بدأته سبل سابقة؛ ألا وهو كيفية فصل عرى الارتباط بين الوطني والإسلامي في حركة المقاومة الفلسطينية؟
وهو ما استدعى على السطح وبقوة ما كان خافيًا أو غير معلن أو متراجعًا من بذور الشقاق بين هذين الرافدين للمقاومة، منذ أن تأسست حماس وقادت الانتفاضة الأولى وأخذ نجمها يسطع على الأرض المحتلة ذاتها في مواجهة نجم منظمة التحرير الفلسطينية وهي تخوض المعركة الدبلوماسية خارج الأرض المحتلة (بعد اجتياح بيروت وبعد أيلول الأسود) للدخول في المفاوضات غير المباشرة أولا، تحت رداء مؤتمر دولي للسلام (1983-1990)، أو في المفاوضات المباشرة التي دشنها بعد ذلك مؤتمر مدريد 1991؛ وذلك باعتبارها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني.
فبعد أن عادت المنظمة إلى الأرض المحتلة؛ تطبيقا لاتفاق أوسلو، وذلك تحت مسمى السلطة الفلسطينية، فهل كان لإسرائيل أن تترك فرص نمو العرى بين رافدي المقاومة، أم كان لها أن توظف ما ظل من بذور الشقاق وما رعاه الفلسطينيون أنفسهم بالنمو معطين بذلك فرصة ذهبية للعدو الصهيوني وحلفائه من القوى الكبرى للعب بهذه الوتيرة في الداخل الفلسطيني، بعد أن نجح في اللعب على وتيرة الانقسامات على الصعيد العربي الرسمي كله؛ بحيث أضحى الجميع، ما عدا سوريا (حتى الآن) وحزب الله وحماس والشعوب العربية، يتغنون بالسلام كخيار إستراتيجي، ويتمسكون لآخر رمق بالمبادرة العربية.
وهي المبادرة التي ما زالت تعرض السلام على إسرائيل في مقابل الأرض، في وقت حولت إسرائيل موازين القوى ’’الواقعية’’ على نحو يبدو لصالحها بدون منازع، وذلك على الأقل في أعين من لا يريدون أن يروا غير ذلك؛ أي في أعين من لا يريدون الاعتراف بفشلهم في تجديد القوى العربية أمام القوة الإسرائيلية في ظل استبدادهم بالشعوب وفسادهم عند التهام ثروات هذه الشعوب، ومن ثم لم يعد بمقدورهم ’’المقاومة ضد إسرائيل’’ حفاظًا على عروشهم أو على ما يدعونه ’’مكاسب شعوبهم’’ في ظل ’’السلام’’.
ولم يعد مفهوم السلام الذي يتشدقون به، وأرواح الأبرياء التي يتأسون عليها، إلا ذرائع للاستسلام والهوان، وذلك في وقت تبدو كل الأدلة جلية واضحة على أن إسرائيل لن تقدم سلامًا عادلا ودائمًا بل لن تقدم أي نوع من السلام حتى ولو السلام الإسرائيلي والأمريكي الذي تستدعي النظم العربية لقبوله، وهي تقف موقف المتفرج أمام تصفية ما تبقى من القضية الفلسطينية، تلك التصفية التي جرت عبر ما يقرب من عقدين في ظل أوهام إستراتيجية تسوية سلمية، لم يُعد لها العرب شروطها ومتطلباتها التي تجعل منها بالفعل إستراتيجية تسوية سلمية عادلة ومتكافئة لا يمكن أن يقدر على رفضها أي طرف، إلا أن ما حدث هو العكس.
ولذا لم يكن أمام أصحاب القضية المؤمنين بحقهم والمنطلقين من مرجعية وطنية إسلامية إلا الاستمرار في المقاومة والجهاد، ورفض كل تسوية من شأنها تصفية القضية، وتحقيق هدف إسرائيل من وراء التفاوض.
غزة.. بعيون واعية.. لا دامعة
هكذا يجب أن نقرأ مشهد غزة الآن بعد أسبوع من تعرضها للحرب المفتوحة، وهكذا يجب أن نستدعي الخطابات المتقابلة للأطراف المعنية الإسرائيلية والفلسطينية والعربية، الرسمية والشعبية، والعالمية أيضًا.
يجب أيضًا أن نقرأ هذا المشهد ليس بعيون دامعة على المأساة الإنسانية فقط ولكن أيضًا بعيون واعية لذاكرة وتطورات مأساة حق شعب في تقرير مصيره، وتحرير أرضه، والعودة إلى وطنه وتأسيس دولته.
فهل لقراءة الخطابات المتقابلة أن تشرح لنا الثنائيات الذائعة، التي تصيب أحيانًا ذاكرة المواطن العادي بالاضطراب، وعلى نحو لا يخدم إلا من بيده مصادر القوة العسكرية والإعلامية، فتتحول، تحت اختلال ميزان القوة المادي، المدركات والرؤى، وعلى نحو تصبح معه -في نظر المتخاذلين المتواطئين- أبعاد القوة المعنوية والقيمية التي يتمسك بها أصحاب الحقوق، إلى مجرد أوهام وغيبيات لا تستطيع أن تغير الحقوق الضائعة؟! كما يصبح خيار المقاومة والاستعداد لتحمل تكلفته، في نظر هؤلاء المتخاذلين، تضحية بالمصالح والاستقرار وأرواح الأبرياء.
ولهذا كله، فإن المراقب والمتابع بدقة للخطابات المتقابلة خلال الأسبوع المنصرم، ومنذ بداية العدوان المفتوح على غزة، يجد فجوة شاسعة واستقطابا حادا على صعيد تناول عدة أمور، وعلى نحو تقفز معه حقائق مزيفة ومشوهة، وعلى نحو تتناسى معه حقائق أخرى؛ مما يستلزم الوقوف عند مجمل خريطتها، ومناقشة مبرراتها وحججها.
خطابات العلماء
الأمر الأول: نجد خطابات علماء الأمة الإسلامية من الدعاة والشرعيين، وخطابات الهيئات والمؤسسات الإسلامية تتحدث عن واجب النصرة والإغاثة، وضرورة وقف العدوان على الشعب الفلسطيني وحمايته كواجب شرعي على الأمة جميعها، في مقابل خطابات الساسة والمحللين العسكريين الذين إما يتحدثون عن خيانة النظم العربية واستسلامها لإسرائيل على حساب القضية الفلسطينية، أو يتحدثون عن عدم رشادة أو عدم عقلانية اختيارات حماس، واتهامها بالمسئولية عما حدث ويحدث من حصار غزة، وما يحيق بأهلها من جراء الحرب الإسرائيلية الجارية الآن... إلخ.
فهل تحول الأمر إلى ثنائية بين ما هو شرعي وما هو سياسي.. بين ما هو قيمي وما هو مصلحي.. بين ما هو إنساني وما هو سياسي؟
أين البعد الشرعي في الجانب السياسي؟ هل يكفى لمن تخلوا عن لب القضية السياسي أن يتشحوا برداء مجرد النصرة الإنسانية ليتحقق التزامهم الشرعي؟ أم أن الإنساني والسياسي صنوان في الشرعي؛ ومن ثم يتبلور الجانب الحضاري برمته أي بكامل روافده المتحاضنة: الفقهية، والإنسانية، والسياسية، والرسمية، والشعبية... وغيرها.
دوافع المقاومة
الأمر الثاني: الذي تتبلور على صعيده الاستقطابات يتصل بدوافع المقاومة وغاياتها وسياقاتها؛ فنجد من يتحدث عن أن التمسك بخيار المقاومة سبيل للتهلكة في ظل موازين القوى التي تفرضها آلة الحرب الإسرائيلية متغافلين عن ثلاثة جوانب يتحدث بها آخرون:
- أنه لا تفاوض سياسي بدون خيار مقاومة عسكرية.
- أن ما جرى ويجري حتى الآن من تفاوض ليس تفاوضا لإيجاد حل سلمي عادل وشامل، ولكنه تفاوض في ظل حصار واغتيالات واعتقالات واحتلال وغارات، ومن ثم فهو ليس إلا تفاوضا من أجل الاستسلام أو من أجل التصفية.
- أنه لا مقاومة بدون خسائر، وأن المأساة الإنسانية الناجمة عن التمسك بخيار المقاومة ليست مفاجأة ولكنها متوقعة، وهي الثمن الذي يدفعه كل المقاومين المدافعين عن حقوقهم المغتصبة عبر التاريخ؛ وذلك حتى تظل القضية قائمة في الذاكرة وحتى لا تتعرض للتصفية.
بعبارة أخرى ، فإن موازين القوى المادية لا يجب أن تمسح أو تلغي التمسك بالحقوق، ولكن يظل التساؤل: كيف تظل الأبعاد القيمية مصدرًا للقوة والاستمرار في المقاومة.؟ وكيف يتحول الإيمان بالله وبنصره إلى طاقة عمل منظمة تقلب موازين القوى؟ ألا يلزم لهؤلاء المؤمنين بوطنهم سياق إقليمي وعالمي ملائم؟ أم يكفي عدم الاستسلام مجانًا؟
دوافع إسرائيل
الأمر الثالث: يتصل بدوافع إسرائيل ومبرراتها المعلنة؛ فإن من الخطأ تكرار وتعميم ما تريد إسرائيل ترسيخه في الأذهان؛ ألا وهو أن معركتها مع حماس، وما إن تنتهي حماس إلا وستعود فرص التفاوض والسلام، فإن إسرائيل ما زالت وستظل مغتصبًا لحق الشعب الفلسطيني برمته، ولم يتخل الشعب الفلسطيني عن حقه في المقاومة، وليست حماس إلا جناحا من أجنحة هذه المقاومة التي تتعدد أجنحتها الأخرى من مرجعيات متنوعة.
ولذا فإن مشهد ’’ليفني’’ وهي تتحدث عن أن المعابر الإسرائيلية مفتوحة أمام الإغاثة الإنسانية لا يجب أن تقرأه بعض العيون والعقول الضعيفة بأن المعركة بين إسرائيل وحماس التي تهدد مستوطناتها بالصواريخ؛ ذلك لأنها الحرب من أجل تصفية مقاومة الشعب الفلسطيني برمته في غزة والضفة وفلسطين 48.
فلا يجب الوقوع في فخ جديد من الفخاخ التي تنجح إسرائيل في زرعها خلال إدارتها للحرب أو المفاوضات، والتي يقع فيها العرب فخا تلو الآخر عبر أكثر من قرن، وليس فقط منذ إنشاء إسرائيل؛ فهي الفخاخ الصهيونية والإسرائيلية التي تُزيِّف الذاكرة، وتشتت الجهود، وتحيط بالقضايا الرئيسية والتي تستنزف الجهود في صراعات فرعية... وهكذا.
فهذا هو المشروع الصهيوني وتحركه الإستراتيجي في خطط نراها وندركها ونفهمها، ولكن لا أعرف لماذا لا نستطيع مواجهتها لإحباطها أو للهجوم المضاد من جديد عليها؟!
إن دروس التاريخ وأنماطه المتكررة تتبدى واضحة جلية أمام من يقرأ في صفحات الصراع الصهيوني-العربي الإسلامي عبر قرن، وهي تبين أن صراع الصهيونية وإسرائيل ليس مع الفلسطينيين فقط ولكنه يتجاوزهم إلى محيطهم الحضاري برمته خطوة خطوة وبانتظام وتؤدة وفق رؤية إستراتيجية طويلة المدى.
دور مصر
الأمر الرابع: يتصل بدور مصر وتداعياته ومبرراته، كيف كان تكييف الأطراف المختلفة لهذا الدور؟ فكلما ثارت أو تصاعدت أزمة دبلوماسية أو عسكرية يتم استدعاء هذا الأمر وتتعدد الخطابات؛ فمنذ حصار غزة ثم الحرب عليها، فإن دور مصر فيما سُمِّى مفاوضات التهدئة وفتح المعابر أو إغلاقها تراوحت الأطراف حوله بين متهم لها ومدافع عنها، وعلى نحو بدا وكأن المواجهة أضحت بين حماس ومصر وليس بين مصر وإسرائيل من أجل القضية الفلسطينية برمتها.
فلقد كانت الآفة الكبرى خلال الأسبوع المنصرم، منذ بداية الحرب على غزة، أن تنصرف جهود مصر الرسمية وجهود النخب الإعلامية والفكرية -المعبأة لخدمة النظام- إلى الدفاع عن مصر وصورتها وليس الدفاع عن قضية الشعب الفلسطيني.
ومن هنا، فإن تحليل خطابات وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط المتتالية تبين على سبيل المثال: لماذا اتُّهمت مصر بالتواطؤ؟ فالتواطؤ ليس الاتفاق الصريح مع إسرائيل على ضرب حماس، ولكن التواطؤ يظهر أيضًا في شكل عدم الإدانة الصريحة والواضحة، بل في عدم التحذير في حينه لأي عدوان تعتزم إسرائيل القيام به قبل وقوعه، بل إن التواطؤ يظهر قبل وبعد الحرب بإلقاء المسئولية أساسًا على حماس وليس إسرائيل، بالرغم من إدانة الأعمال العسكرية الإسرائيلية والتباكي على ما يحدث من مأساة إنسانية للفلسطينيين.
ومن ثم فإن الجدال الراهن حول دور مصر، وهو جدال تكرر من قبل، يتطلب استدعاء هذا النمط والبحث في أسبابه بدقة، فهو ذو جذور، كما أنه يعكس صور وأساليب النظام المصري في قلب وتزييف الحقائق تبريرًا ليس لاتهامات النظام المصري منها بريء ولكن تبريرًا لفشل النظام المصري في القيام بدوره الذي يليق بمقام مصر وقيادتها للعالم العربي بحكم الديموجرافيا والجغرافيا والتاريخ، والذي يتسق ومصالح مصر وأمنها، وأقول مصالح مصر وأمنها وليس مصالح نظام مصر وأمنه.
كذلك فإن التواطؤ يبدو أيضًا حين تصبح بصيرة الدبلوماسية المصرية العتيدة عاجزة أو غير راغبة في الاعتراف بأن ما يجري على الأرض، وترفع لواءه سلطة محمود عباس وتحتمي به، ليس تفاوضًا على الإطلاق سواء منذ خارطة الطريق أو أنابوليس أو غيرها.
تتصور الدبلوماسية المصرية أن إسرائيل كان يمكن أن توقف الحصار أو الاغتيالات أو الاعتقالات إذا ما قبلت حماس تجديد التهدئة؟ أليس عارًا على رئيس الدبلوماسية المصرية أحمد أبو الغيط أن يقول إن ما قتلته إسرائيل في عدة أيام لا يقارن بما تقتله كل يوم -قبل بداية الحرب منذ أسبوع- هل تقاس مصائر الشعوب هكذا؟! هل يليق بمقام مصر أن تتبارى صحفها القومية لنشر صور الإغاثة الإنسانية، ويتبارى رؤساء تحريرها في تحسين صورة مصر متضامنين في ذلك مع وقفات أو تصريحات احتجاجية لرؤساء الجامعات، أو حملات هجومية مضادة على إيران وحزب الله وسوريا يقوم بها عسكريون وساسة وخبراء سلطة أصبحوا يرون إيران -وليس إسرائيل- هي العدو ومصدر التهديد؟!
ومن ناحية أخرى ، فإن من زايدوا على مصر في مسألة المعابر والإغاثة الإنسانية، قد زايدوا على ما يتصل بالجانب الإنساني وليس جوهر القضية السياسية؛ لأنهم سبقوا مصر في التخلي عن هذا الجانب السياسي، فإذا كانت مصر قد ظلت وفق رؤية نظامها ونخبها الحاكمة تقوم بدور في الجانب السياسي، فمما لاشك فيه أن من تحتل أراضيهم القواعد الأمريكية (قطر والسعودية والكويت)، أو انبطحوا أمام الضغوط الأمريكية لإنقاذ رءوسهم (ليبيا) قد ضحوا منذ زمن بالقضية الفلسطينية سياسيًّا أكثر بكثير مما تُتهم به مصر من جانبهم.
العالم الصامت
الأمر الخامس: يتصل بالدائرة العالمية: الأمم المتحدة والقوى الكبرى، عما تفصح مواقفهم من امتدادات لمواقف سابقة؟ وعن محدودية مساندة القضية الفلسطينية في أبعادها السياسية، إلا وفق الشروط التي تضعها إسرائيل وإدارة بوش؛ ألا وهو تصفية المقاومة تمامًا استكمالا للمسلسل الذي بدأ مع منظمة التحرير الفلسطينية منذ أكثر من عقدين حين أعلنت التخلي عن خيار المقاومة العسكرية، واستكمالا أيضًا لمسلسل تطويع ما تبقى لدى النظم العربية من مساندة لقضية الشعب الفلسطيني في حق تقرير مصيره وتحرير أرضه وإنشاء دولته.
فأين روسيا والصين؟ وماذا قدم الاتحاد الأوروبي راعي ما يسمى بالاعتدال العربي والفلسطيني؟ وإلى أين ستذهب الولايات المتحدة في دعمها لإسرائيل؟ وأين الأمم المتحدة وقد عجز مجلس الأمن، منذ الانعقاد الأول، عن الإعلان عن موقف؟ وهل هذا المجلس هو البديل الأمثل الذي تهرع إليه الجامعة العربية بعد الاجتماع الطارئ لوزراء الخارجية العرب، الذي اجتمع بعد اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي لنفس القضية؟
ماذا تقدم لنا هذه الصورة المركبة عما تبقى ليس لحركة حماس فقط من مساندة، ولكن ما تبقى للقضية الفلسطينية -وفق رؤية أصحابها- من مساندة دولية ورسمية؟ وهل تقدر صور المساندة المدنية والشعبية المتلاحقة أن تحافظ على زخمها وتحدث تأثيرها؟
الخلاصة
لقد بدأتُ بدائرة كلية وهي الأمة العربية والإسلامية بعلماء وهيئات الإسلام فيها وبنظمها وحكوماتها، وبشعوبها متسائلةً عن للعلاقة بين الشرعي والسياسي من علامة؟ وانتقلت إلى الدائرة المحك والأصل وهي فلسطين والفلسطينيون واختياراتهم الحضارية بين المقاومة والاستسلام وتصفية القضية وليس مجرد الاختيار بين التفاوض السلمي أو المقاومة العسكرية.
ثم وصلت إلى الوجه الآخر لعملة المحك والأصل ألا وهو المشروع الصهيوني والإسرائيلي متسائلين تساؤل التأكيد وليس الاستفهام: ألم تتضح بعد أمام الأنظار حقيقة ما يمثله من تهديد حضاري، وليس سياسيا فقط، لأمة بأكملها وهو الذي يحمل معه كل هذه الكراهية الدينية والعنصرية والقومية للعرب والمسلمين؟ ألا يعني اهتمام تركيا -حزب العدالة والتنمية- واهتمام إيران، على ما بين النموذجين من تفاوت، أن القضية الفلسطينية ليست قضية العرب وحدهم؟
ومن ثم أصل إلى محك ومفتاح الدور العربي تجاه القضية، ألا وهو دور مصر، ومنه إلى أدوار القوى الأخرى في الدائرة الحضارية الإسلامية والتي تواجه على أرض فلسطين مشروعًا يتهددها برمتها وإن انطلق من القدس وفلسطين وعاؤها، وفق مقوله المستشار طارق البشري.
إن ترتيب هذه الدوائر يقصد استدعاء الاهتمام بالأبعاد الحضارية الكبرى في المواجهة العربية - الإسلامية مع الصهيونية ومع الإمبريالية؛ فهي ليست مواجهة سياسية عسكرية فقط بالمعنى التقليدي للكلمة (والذي يستدعي مجرد الحدود والأرض...) ولكنها أشمل من ذلك، فهل آن الأوان لنفهم ونتدبر هذا الأمر ودلالته بالنسبة لسبل المواجهة؟ حيث إن موازين القوى المادية بمفردها لا تكفي مفسرًا أو مبررًا للعدوان أو مقاومة العدوان أو النكوص عن تلك المقاومة؛ بمعنى أن وفرة القوة المادية لدى إسرائيل ليست المبرر الوحيد لعدوانها ولكن لأنها تخدم مخططها، وكذلك نقصان هذه القوة المادية لدى المقاومة، مقارنةً بإسرائيل، ليست مبررًا لنكوصها عن المقاومة من أجل حق حضاري وتاريخي.
وفضلا عن تلك الأبعاد المتعلقة بموازين القوى المادية، هناك ذاكرة تاريخية وموازين أخرى إيمانية ومعنوية وحضارية بالمعنى الشامل لابد من استدعائها وتمحيصها حتى نستطيع تجديد عافية مشروعات المقاومة في المنطقة، وتنظيفها مما لحق بها من اتهامات باللاعقلانية وعدم الرشادة أو العمالة للخارج، وهي الاتهامات التي يوجهها من لا يخشون إلا على نظمهم المتهاوية غير القادرة على مجابهة قوة إسرائيل العسكرية أو ضغوط أمريكا السياسية؛ فهي إما نظم تسعى للاستمرار أو التوريث.. إما نظم مصطنعة منذ البداية لم تخلقها إلا فوائض ثرواتها البترولية، وإما نظم أصبحت تعتبر نفسها من خارج دول المواجهة أو الطوق بالنظر إلى بعدها الجغرافي وانجذابها نحو مراكز قوة أخرى خارج المنطقة.. أوروبية أو أمريكية.
فإن اختيارات صمود المقاومة في غزة حتى الآن، وخروج الشعوب العربية والإسلامية، بل ومن كافة أرجاء العالم لمساندتها أو رفضها للانتهاكات الإنسانية، إن هذا الصمود وهذه المساندة الشعبية، في ظل كل اختلالات موازين القوى المادية، لتؤكد أن للعملة وجها آخر يجدر أخذه في الحسابات، ويجدر استدعاؤه من الذاكرة التاريخية ومن الأبعاد القيمية الحضارية، فهنا يكمن تجديد وإحياء الأمة والمنطلق لاستعادة أبعاد القوة المادية.. فهل مشهد غزة الدامي سيلعب هذا الدور؟ أم سيتوارى بعد -بسكوت النيران- كما توارت من قبله مشاهد كنا نحسبها في حينها مفصلية في تاريخ هذا الصراع الممتد، حضاريًّا وقوميًّا وأمنيًّا؟.
.إسلام أون لاين
د. نادية محمود مصطفى
نجحت إسرائيل عبر أكثر من نصف قرن أن ترد سلاحنا ضدها إلى صدورنا.. نجحت إسرائيل عبر أكثر من نصف قرن أن تعبئ تحالفات القوى الكبرى معها وضدنا نحن أصحاب الحق.
نجحت إسرائيل عبر أكثر من نصف قرن أن تفكك صفوفنا وتماسكنا في مواجهتها وتحوله إلى صراعات بينية عربية – عربية، ثم عربية إسلامية، ناهيك عن الفلسطينية - الفلسطينية، حول ما يسمى سبل المواجهة أو سبل التسوية.
ومع ذلك، فما زالت المقاومة مستمرة، وما مشهد الصمود في غزة إلا علامة مضيئة في الصراع العربي الإسرائيلي.
كيف نرى غزة الآن؟
إن استرجاع شريط ممتد من أحداث ووقائع إدارة الحرب وإدارة المفاوضات يبين لنا أنماطًا متكررة تاريخية -لها جذور ممتدة في النصف الأول من القرن العشرين أيضًا- وهي الأنماط التالية:
(1) نمط غلبة قوة المعتدي المادية.
(2) نمط تداعي أعداء الأمة الإسلامية وتحالف مشروعاتهم الصهيونية والإمبريالية على محاولات تجديد قوة الأمة العربية والإسلامية، سواء في روافدها العروبية أو الإسلامية؛ فإسرائيل وأمريكا التي ضربت المشروع الناصري القومي هي التي تتصدى أيضًا للمشروع الإسلامي الذي ما زال يقود الآن المقاومة المسلحة ضدهما.
(3) نمط تفاقم تأثير الصراعات العربية – العربية والعربية الإسلامية حول عواقب خيار المقاومة في مقابل مزايا فوائد التفاوض والتسوية السلمية.
كل ذلك في وقت تزايدت فيه الأدلة والدلائل على أن التفاوض الذي تقبله إسرائيل وأمريكا ليس وسيلة ولكنه غاية في حد ذاته؛ حيث يتحول إلى مظلة لكسب الوقت واستنزاف التنازلات المستمرة والمتراكمة، واستكمال توطيد المشروع الصهيوني على الأرض.
فبعد أن كانت أصوات المحذرين والمشككين في دخول التفاوض مع إسرائيل، بلا بصيرة وبلا رؤية إستراتيجية، تضع التفاوض في محله من خريطة أشمل للمقاومة، وبعد أن كانت هذه الأصوات لا تجد أدلة قوية في بداية التسعينيات على تحذيراتها وشكوكها ورفضها؛ حيث كان الجميع مندفعًا وراء أوهام ما يسمى بالنظام العالمي الجديد الذي اقترن الإعلان عنه بنهاية الحرب الباردة من ناحية، وبتدشين المفاوضات العربية الإسرائيلية المباشرة في مدريد 1991 من ناحية ثانية، فإذا بنا الآن، وبعد ما يقرب من عقدين قد توافرت الأدلة وتراكمت على مصداقية هذه التحذيرات وهذه الشكوك وهذا الرفض لمنهج تسوية سلمية لا يقوم على إستراتيجية المقاومة الحضارية التي تضع -في مواجهة مشروع استيطاني استعماري عنصري- كل أدوات القوة معًا، فلا تستبعد المقاومة لصالح ما يسمى: ’’السلام خيار إستراتيجي’’.
فلقد تراكمت الأدلة عبر مفاصل عديدة بيَّنت كيف نجحت سياسات المعتدي في أن تحول المقاومة إلى إرهاب، وكيف تحولت المفاوضات إلى فرض شروط الاستسلام، وكيف تتحول الآن قضية حق تقرير مصير شعب إلى مجرد مأساة إنسانية في ظل صمت العالم واستسلام العرب أمام ما يحدث في غزة.. ليس فقط ما يحدث في غزة منذ بداية العام الهجري الجديد مع انفجار الحرب الصهيونية عليها، ولكن ما يحدث منذ أن بدأت الوقيعة بين صفوف المقاومة الفلسطينية برافديها الوطني (فتح) والإسلامي (حماس).
وهى الوقيعة التي دشنت لها خطة الطريق، والتي وإن استهدفت حلولا دبلوماسية لأزمة التفاوض منذ اندلاع الانتفاضة الثانية في سنة 2000 في مواجهة استمرار العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، إلا أنها استحدثت سبيلا جديدًا يستكمل ما بدأته سبل سابقة؛ ألا وهو كيفية فصل عرى الارتباط بين الوطني والإسلامي في حركة المقاومة الفلسطينية؟
وهو ما استدعى على السطح وبقوة ما كان خافيًا أو غير معلن أو متراجعًا من بذور الشقاق بين هذين الرافدين للمقاومة، منذ أن تأسست حماس وقادت الانتفاضة الأولى وأخذ نجمها يسطع على الأرض المحتلة ذاتها في مواجهة نجم منظمة التحرير الفلسطينية وهي تخوض المعركة الدبلوماسية خارج الأرض المحتلة (بعد اجتياح بيروت وبعد أيلول الأسود) للدخول في المفاوضات غير المباشرة أولا، تحت رداء مؤتمر دولي للسلام (1983-1990)، أو في المفاوضات المباشرة التي دشنها بعد ذلك مؤتمر مدريد 1991؛ وذلك باعتبارها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني.
فبعد أن عادت المنظمة إلى الأرض المحتلة؛ تطبيقا لاتفاق أوسلو، وذلك تحت مسمى السلطة الفلسطينية، فهل كان لإسرائيل أن تترك فرص نمو العرى بين رافدي المقاومة، أم كان لها أن توظف ما ظل من بذور الشقاق وما رعاه الفلسطينيون أنفسهم بالنمو معطين بذلك فرصة ذهبية للعدو الصهيوني وحلفائه من القوى الكبرى للعب بهذه الوتيرة في الداخل الفلسطيني، بعد أن نجح في اللعب على وتيرة الانقسامات على الصعيد العربي الرسمي كله؛ بحيث أضحى الجميع، ما عدا سوريا (حتى الآن) وحزب الله وحماس والشعوب العربية، يتغنون بالسلام كخيار إستراتيجي، ويتمسكون لآخر رمق بالمبادرة العربية.
وهي المبادرة التي ما زالت تعرض السلام على إسرائيل في مقابل الأرض، في وقت حولت إسرائيل موازين القوى ’’الواقعية’’ على نحو يبدو لصالحها بدون منازع، وذلك على الأقل في أعين من لا يريدون أن يروا غير ذلك؛ أي في أعين من لا يريدون الاعتراف بفشلهم في تجديد القوى العربية أمام القوة الإسرائيلية في ظل استبدادهم بالشعوب وفسادهم عند التهام ثروات هذه الشعوب، ومن ثم لم يعد بمقدورهم ’’المقاومة ضد إسرائيل’’ حفاظًا على عروشهم أو على ما يدعونه ’’مكاسب شعوبهم’’ في ظل ’’السلام’’.
ولم يعد مفهوم السلام الذي يتشدقون به، وأرواح الأبرياء التي يتأسون عليها، إلا ذرائع للاستسلام والهوان، وذلك في وقت تبدو كل الأدلة جلية واضحة على أن إسرائيل لن تقدم سلامًا عادلا ودائمًا بل لن تقدم أي نوع من السلام حتى ولو السلام الإسرائيلي والأمريكي الذي تستدعي النظم العربية لقبوله، وهي تقف موقف المتفرج أمام تصفية ما تبقى من القضية الفلسطينية، تلك التصفية التي جرت عبر ما يقرب من عقدين في ظل أوهام إستراتيجية تسوية سلمية، لم يُعد لها العرب شروطها ومتطلباتها التي تجعل منها بالفعل إستراتيجية تسوية سلمية عادلة ومتكافئة لا يمكن أن يقدر على رفضها أي طرف، إلا أن ما حدث هو العكس.
ولذا لم يكن أمام أصحاب القضية المؤمنين بحقهم والمنطلقين من مرجعية وطنية إسلامية إلا الاستمرار في المقاومة والجهاد، ورفض كل تسوية من شأنها تصفية القضية، وتحقيق هدف إسرائيل من وراء التفاوض.
غزة.. بعيون واعية.. لا دامعة
هكذا يجب أن نقرأ مشهد غزة الآن بعد أسبوع من تعرضها للحرب المفتوحة، وهكذا يجب أن نستدعي الخطابات المتقابلة للأطراف المعنية الإسرائيلية والفلسطينية والعربية، الرسمية والشعبية، والعالمية أيضًا.
يجب أيضًا أن نقرأ هذا المشهد ليس بعيون دامعة على المأساة الإنسانية فقط ولكن أيضًا بعيون واعية لذاكرة وتطورات مأساة حق شعب في تقرير مصيره، وتحرير أرضه، والعودة إلى وطنه وتأسيس دولته.
فهل لقراءة الخطابات المتقابلة أن تشرح لنا الثنائيات الذائعة، التي تصيب أحيانًا ذاكرة المواطن العادي بالاضطراب، وعلى نحو لا يخدم إلا من بيده مصادر القوة العسكرية والإعلامية، فتتحول، تحت اختلال ميزان القوة المادي، المدركات والرؤى، وعلى نحو تصبح معه -في نظر المتخاذلين المتواطئين- أبعاد القوة المعنوية والقيمية التي يتمسك بها أصحاب الحقوق، إلى مجرد أوهام وغيبيات لا تستطيع أن تغير الحقوق الضائعة؟! كما يصبح خيار المقاومة والاستعداد لتحمل تكلفته، في نظر هؤلاء المتخاذلين، تضحية بالمصالح والاستقرار وأرواح الأبرياء.
ولهذا كله، فإن المراقب والمتابع بدقة للخطابات المتقابلة خلال الأسبوع المنصرم، ومنذ بداية العدوان المفتوح على غزة، يجد فجوة شاسعة واستقطابا حادا على صعيد تناول عدة أمور، وعلى نحو تقفز معه حقائق مزيفة ومشوهة، وعلى نحو تتناسى معه حقائق أخرى؛ مما يستلزم الوقوف عند مجمل خريطتها، ومناقشة مبرراتها وحججها.
خطابات العلماء
الأمر الأول: نجد خطابات علماء الأمة الإسلامية من الدعاة والشرعيين، وخطابات الهيئات والمؤسسات الإسلامية تتحدث عن واجب النصرة والإغاثة، وضرورة وقف العدوان على الشعب الفلسطيني وحمايته كواجب شرعي على الأمة جميعها، في مقابل خطابات الساسة والمحللين العسكريين الذين إما يتحدثون عن خيانة النظم العربية واستسلامها لإسرائيل على حساب القضية الفلسطينية، أو يتحدثون عن عدم رشادة أو عدم عقلانية اختيارات حماس، واتهامها بالمسئولية عما حدث ويحدث من حصار غزة، وما يحيق بأهلها من جراء الحرب الإسرائيلية الجارية الآن... إلخ.
فهل تحول الأمر إلى ثنائية بين ما هو شرعي وما هو سياسي.. بين ما هو قيمي وما هو مصلحي.. بين ما هو إنساني وما هو سياسي؟
أين البعد الشرعي في الجانب السياسي؟ هل يكفى لمن تخلوا عن لب القضية السياسي أن يتشحوا برداء مجرد النصرة الإنسانية ليتحقق التزامهم الشرعي؟ أم أن الإنساني والسياسي صنوان في الشرعي؛ ومن ثم يتبلور الجانب الحضاري برمته أي بكامل روافده المتحاضنة: الفقهية، والإنسانية، والسياسية، والرسمية، والشعبية... وغيرها.
دوافع المقاومة
الأمر الثاني: الذي تتبلور على صعيده الاستقطابات يتصل بدوافع المقاومة وغاياتها وسياقاتها؛ فنجد من يتحدث عن أن التمسك بخيار المقاومة سبيل للتهلكة في ظل موازين القوى التي تفرضها آلة الحرب الإسرائيلية متغافلين عن ثلاثة جوانب يتحدث بها آخرون:
- أنه لا تفاوض سياسي بدون خيار مقاومة عسكرية.
- أن ما جرى ويجري حتى الآن من تفاوض ليس تفاوضا لإيجاد حل سلمي عادل وشامل، ولكنه تفاوض في ظل حصار واغتيالات واعتقالات واحتلال وغارات، ومن ثم فهو ليس إلا تفاوضا من أجل الاستسلام أو من أجل التصفية.
- أنه لا مقاومة بدون خسائر، وأن المأساة الإنسانية الناجمة عن التمسك بخيار المقاومة ليست مفاجأة ولكنها متوقعة، وهي الثمن الذي يدفعه كل المقاومين المدافعين عن حقوقهم المغتصبة عبر التاريخ؛ وذلك حتى تظل القضية قائمة في الذاكرة وحتى لا تتعرض للتصفية.
بعبارة أخرى ، فإن موازين القوى المادية لا يجب أن تمسح أو تلغي التمسك بالحقوق، ولكن يظل التساؤل: كيف تظل الأبعاد القيمية مصدرًا للقوة والاستمرار في المقاومة.؟ وكيف يتحول الإيمان بالله وبنصره إلى طاقة عمل منظمة تقلب موازين القوى؟ ألا يلزم لهؤلاء المؤمنين بوطنهم سياق إقليمي وعالمي ملائم؟ أم يكفي عدم الاستسلام مجانًا؟
دوافع إسرائيل
الأمر الثالث: يتصل بدوافع إسرائيل ومبرراتها المعلنة؛ فإن من الخطأ تكرار وتعميم ما تريد إسرائيل ترسيخه في الأذهان؛ ألا وهو أن معركتها مع حماس، وما إن تنتهي حماس إلا وستعود فرص التفاوض والسلام، فإن إسرائيل ما زالت وستظل مغتصبًا لحق الشعب الفلسطيني برمته، ولم يتخل الشعب الفلسطيني عن حقه في المقاومة، وليست حماس إلا جناحا من أجنحة هذه المقاومة التي تتعدد أجنحتها الأخرى من مرجعيات متنوعة.
ولذا فإن مشهد ’’ليفني’’ وهي تتحدث عن أن المعابر الإسرائيلية مفتوحة أمام الإغاثة الإنسانية لا يجب أن تقرأه بعض العيون والعقول الضعيفة بأن المعركة بين إسرائيل وحماس التي تهدد مستوطناتها بالصواريخ؛ ذلك لأنها الحرب من أجل تصفية مقاومة الشعب الفلسطيني برمته في غزة والضفة وفلسطين 48.
فلا يجب الوقوع في فخ جديد من الفخاخ التي تنجح إسرائيل في زرعها خلال إدارتها للحرب أو المفاوضات، والتي يقع فيها العرب فخا تلو الآخر عبر أكثر من قرن، وليس فقط منذ إنشاء إسرائيل؛ فهي الفخاخ الصهيونية والإسرائيلية التي تُزيِّف الذاكرة، وتشتت الجهود، وتحيط بالقضايا الرئيسية والتي تستنزف الجهود في صراعات فرعية... وهكذا.
فهذا هو المشروع الصهيوني وتحركه الإستراتيجي في خطط نراها وندركها ونفهمها، ولكن لا أعرف لماذا لا نستطيع مواجهتها لإحباطها أو للهجوم المضاد من جديد عليها؟!
إن دروس التاريخ وأنماطه المتكررة تتبدى واضحة جلية أمام من يقرأ في صفحات الصراع الصهيوني-العربي الإسلامي عبر قرن، وهي تبين أن صراع الصهيونية وإسرائيل ليس مع الفلسطينيين فقط ولكنه يتجاوزهم إلى محيطهم الحضاري برمته خطوة خطوة وبانتظام وتؤدة وفق رؤية إستراتيجية طويلة المدى.
دور مصر
الأمر الرابع: يتصل بدور مصر وتداعياته ومبرراته، كيف كان تكييف الأطراف المختلفة لهذا الدور؟ فكلما ثارت أو تصاعدت أزمة دبلوماسية أو عسكرية يتم استدعاء هذا الأمر وتتعدد الخطابات؛ فمنذ حصار غزة ثم الحرب عليها، فإن دور مصر فيما سُمِّى مفاوضات التهدئة وفتح المعابر أو إغلاقها تراوحت الأطراف حوله بين متهم لها ومدافع عنها، وعلى نحو بدا وكأن المواجهة أضحت بين حماس ومصر وليس بين مصر وإسرائيل من أجل القضية الفلسطينية برمتها.
فلقد كانت الآفة الكبرى خلال الأسبوع المنصرم، منذ بداية الحرب على غزة، أن تنصرف جهود مصر الرسمية وجهود النخب الإعلامية والفكرية -المعبأة لخدمة النظام- إلى الدفاع عن مصر وصورتها وليس الدفاع عن قضية الشعب الفلسطيني.
ومن هنا، فإن تحليل خطابات وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط المتتالية تبين على سبيل المثال: لماذا اتُّهمت مصر بالتواطؤ؟ فالتواطؤ ليس الاتفاق الصريح مع إسرائيل على ضرب حماس، ولكن التواطؤ يظهر أيضًا في شكل عدم الإدانة الصريحة والواضحة، بل في عدم التحذير في حينه لأي عدوان تعتزم إسرائيل القيام به قبل وقوعه، بل إن التواطؤ يظهر قبل وبعد الحرب بإلقاء المسئولية أساسًا على حماس وليس إسرائيل، بالرغم من إدانة الأعمال العسكرية الإسرائيلية والتباكي على ما يحدث من مأساة إنسانية للفلسطينيين.
ومن ثم فإن الجدال الراهن حول دور مصر، وهو جدال تكرر من قبل، يتطلب استدعاء هذا النمط والبحث في أسبابه بدقة، فهو ذو جذور، كما أنه يعكس صور وأساليب النظام المصري في قلب وتزييف الحقائق تبريرًا ليس لاتهامات النظام المصري منها بريء ولكن تبريرًا لفشل النظام المصري في القيام بدوره الذي يليق بمقام مصر وقيادتها للعالم العربي بحكم الديموجرافيا والجغرافيا والتاريخ، والذي يتسق ومصالح مصر وأمنها، وأقول مصالح مصر وأمنها وليس مصالح نظام مصر وأمنه.
كذلك فإن التواطؤ يبدو أيضًا حين تصبح بصيرة الدبلوماسية المصرية العتيدة عاجزة أو غير راغبة في الاعتراف بأن ما يجري على الأرض، وترفع لواءه سلطة محمود عباس وتحتمي به، ليس تفاوضًا على الإطلاق سواء منذ خارطة الطريق أو أنابوليس أو غيرها.
تتصور الدبلوماسية المصرية أن إسرائيل كان يمكن أن توقف الحصار أو الاغتيالات أو الاعتقالات إذا ما قبلت حماس تجديد التهدئة؟ أليس عارًا على رئيس الدبلوماسية المصرية أحمد أبو الغيط أن يقول إن ما قتلته إسرائيل في عدة أيام لا يقارن بما تقتله كل يوم -قبل بداية الحرب منذ أسبوع- هل تقاس مصائر الشعوب هكذا؟! هل يليق بمقام مصر أن تتبارى صحفها القومية لنشر صور الإغاثة الإنسانية، ويتبارى رؤساء تحريرها في تحسين صورة مصر متضامنين في ذلك مع وقفات أو تصريحات احتجاجية لرؤساء الجامعات، أو حملات هجومية مضادة على إيران وحزب الله وسوريا يقوم بها عسكريون وساسة وخبراء سلطة أصبحوا يرون إيران -وليس إسرائيل- هي العدو ومصدر التهديد؟!
ومن ناحية أخرى ، فإن من زايدوا على مصر في مسألة المعابر والإغاثة الإنسانية، قد زايدوا على ما يتصل بالجانب الإنساني وليس جوهر القضية السياسية؛ لأنهم سبقوا مصر في التخلي عن هذا الجانب السياسي، فإذا كانت مصر قد ظلت وفق رؤية نظامها ونخبها الحاكمة تقوم بدور في الجانب السياسي، فمما لاشك فيه أن من تحتل أراضيهم القواعد الأمريكية (قطر والسعودية والكويت)، أو انبطحوا أمام الضغوط الأمريكية لإنقاذ رءوسهم (ليبيا) قد ضحوا منذ زمن بالقضية الفلسطينية سياسيًّا أكثر بكثير مما تُتهم به مصر من جانبهم.
العالم الصامت
الأمر الخامس: يتصل بالدائرة العالمية: الأمم المتحدة والقوى الكبرى، عما تفصح مواقفهم من امتدادات لمواقف سابقة؟ وعن محدودية مساندة القضية الفلسطينية في أبعادها السياسية، إلا وفق الشروط التي تضعها إسرائيل وإدارة بوش؛ ألا وهو تصفية المقاومة تمامًا استكمالا للمسلسل الذي بدأ مع منظمة التحرير الفلسطينية منذ أكثر من عقدين حين أعلنت التخلي عن خيار المقاومة العسكرية، واستكمالا أيضًا لمسلسل تطويع ما تبقى لدى النظم العربية من مساندة لقضية الشعب الفلسطيني في حق تقرير مصيره وتحرير أرضه وإنشاء دولته.
فأين روسيا والصين؟ وماذا قدم الاتحاد الأوروبي راعي ما يسمى بالاعتدال العربي والفلسطيني؟ وإلى أين ستذهب الولايات المتحدة في دعمها لإسرائيل؟ وأين الأمم المتحدة وقد عجز مجلس الأمن، منذ الانعقاد الأول، عن الإعلان عن موقف؟ وهل هذا المجلس هو البديل الأمثل الذي تهرع إليه الجامعة العربية بعد الاجتماع الطارئ لوزراء الخارجية العرب، الذي اجتمع بعد اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي لنفس القضية؟
ماذا تقدم لنا هذه الصورة المركبة عما تبقى ليس لحركة حماس فقط من مساندة، ولكن ما تبقى للقضية الفلسطينية -وفق رؤية أصحابها- من مساندة دولية ورسمية؟ وهل تقدر صور المساندة المدنية والشعبية المتلاحقة أن تحافظ على زخمها وتحدث تأثيرها؟
الخلاصة
لقد بدأتُ بدائرة كلية وهي الأمة العربية والإسلامية بعلماء وهيئات الإسلام فيها وبنظمها وحكوماتها، وبشعوبها متسائلةً عن للعلاقة بين الشرعي والسياسي من علامة؟ وانتقلت إلى الدائرة المحك والأصل وهي فلسطين والفلسطينيون واختياراتهم الحضارية بين المقاومة والاستسلام وتصفية القضية وليس مجرد الاختيار بين التفاوض السلمي أو المقاومة العسكرية.
ثم وصلت إلى الوجه الآخر لعملة المحك والأصل ألا وهو المشروع الصهيوني والإسرائيلي متسائلين تساؤل التأكيد وليس الاستفهام: ألم تتضح بعد أمام الأنظار حقيقة ما يمثله من تهديد حضاري، وليس سياسيا فقط، لأمة بأكملها وهو الذي يحمل معه كل هذه الكراهية الدينية والعنصرية والقومية للعرب والمسلمين؟ ألا يعني اهتمام تركيا -حزب العدالة والتنمية- واهتمام إيران، على ما بين النموذجين من تفاوت، أن القضية الفلسطينية ليست قضية العرب وحدهم؟
ومن ثم أصل إلى محك ومفتاح الدور العربي تجاه القضية، ألا وهو دور مصر، ومنه إلى أدوار القوى الأخرى في الدائرة الحضارية الإسلامية والتي تواجه على أرض فلسطين مشروعًا يتهددها برمتها وإن انطلق من القدس وفلسطين وعاؤها، وفق مقوله المستشار طارق البشري.
إن ترتيب هذه الدوائر يقصد استدعاء الاهتمام بالأبعاد الحضارية الكبرى في المواجهة العربية - الإسلامية مع الصهيونية ومع الإمبريالية؛ فهي ليست مواجهة سياسية عسكرية فقط بالمعنى التقليدي للكلمة (والذي يستدعي مجرد الحدود والأرض...) ولكنها أشمل من ذلك، فهل آن الأوان لنفهم ونتدبر هذا الأمر ودلالته بالنسبة لسبل المواجهة؟ حيث إن موازين القوى المادية بمفردها لا تكفي مفسرًا أو مبررًا للعدوان أو مقاومة العدوان أو النكوص عن تلك المقاومة؛ بمعنى أن وفرة القوة المادية لدى إسرائيل ليست المبرر الوحيد لعدوانها ولكن لأنها تخدم مخططها، وكذلك نقصان هذه القوة المادية لدى المقاومة، مقارنةً بإسرائيل، ليست مبررًا لنكوصها عن المقاومة من أجل حق حضاري وتاريخي.
وفضلا عن تلك الأبعاد المتعلقة بموازين القوى المادية، هناك ذاكرة تاريخية وموازين أخرى إيمانية ومعنوية وحضارية بالمعنى الشامل لابد من استدعائها وتمحيصها حتى نستطيع تجديد عافية مشروعات المقاومة في المنطقة، وتنظيفها مما لحق بها من اتهامات باللاعقلانية وعدم الرشادة أو العمالة للخارج، وهي الاتهامات التي يوجهها من لا يخشون إلا على نظمهم المتهاوية غير القادرة على مجابهة قوة إسرائيل العسكرية أو ضغوط أمريكا السياسية؛ فهي إما نظم تسعى للاستمرار أو التوريث.. إما نظم مصطنعة منذ البداية لم تخلقها إلا فوائض ثرواتها البترولية، وإما نظم أصبحت تعتبر نفسها من خارج دول المواجهة أو الطوق بالنظر إلى بعدها الجغرافي وانجذابها نحو مراكز قوة أخرى خارج المنطقة.. أوروبية أو أمريكية.
فإن اختيارات صمود المقاومة في غزة حتى الآن، وخروج الشعوب العربية والإسلامية، بل ومن كافة أرجاء العالم لمساندتها أو رفضها للانتهاكات الإنسانية، إن هذا الصمود وهذه المساندة الشعبية، في ظل كل اختلالات موازين القوى المادية، لتؤكد أن للعملة وجها آخر يجدر أخذه في الحسابات، ويجدر استدعاؤه من الذاكرة التاريخية ومن الأبعاد القيمية الحضارية، فهنا يكمن تجديد وإحياء الأمة والمنطلق لاستعادة أبعاد القوة المادية.. فهل مشهد غزة الدامي سيلعب هذا الدور؟ أم سيتوارى بعد -بسكوت النيران- كما توارت من قبله مشاهد كنا نحسبها في حينها مفصلية في تاريخ هذا الصراع الممتد، حضاريًّا وقوميًّا وأمنيًّا؟.
.إسلام أون لاين