مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
أعمال القلوب
أعمال القلوب

هي أعمال يحاسب عليها الإنسان، فمنها طاعات يثاب عليها وقد ترفعه للدرجات العالية، ومنها معاصٍ قد توقعه في الإثم العظيم، لكنها مستقلة بنفسها ومحلها القلب، وهذا هو اختلافها عن أعمال الجوارح التي تشترك الجوارح والأعضاء فيها مع البواطن والقلوب ليتحقق المفروض أو القدر الكامل منها.
وأعمال القلوب لها أبواب عديدة، منها ما يرتبط بأصول المعتقد والإيمان والتوحيد، كاليقين بالوحدانية أو النبوة، ومنها ما يرتبط بأحوال المسلم مع نفسه، أو مع غيره من الناس، كالعجب، والحسد، وسوء الظن... وهذه الأبواب الأخيرة هي موضع تركيزنا في هذا المقال.
إن لتنمية هذه الجوانب في باطن المؤمن مكانة عالية نص عليها الكثيرون من العلماء والأئمة، ولعل من أوضح الدلالات على ذلك اعتبارها من القسم المفروض فرض عين بين أقسام العلوم التي يجب على المسلم تعلمها. يقول في ذلك النووي رحمه الله في مقدمة ’’المجموع’’ : أما علم القلب وهو معرفة أمراض القلب كالحسد والعجب وشبههما فقال الغزالي: معرفة حدودها وأسبابها وطبها وعلاجها فرض عين. وقال غيره: إن رُزِقَ المكلَّف قلباً سليماً من هذه الأمراض كفاه ذلك، ولا يلزم تعلم دوائها. وإن لم يَسلَم نُظِرَ: إن تمكن من تطهير قلبه من ذلك بلا تعلم لَزِمَه التطهيرُ، كما يلزمه ترك الزنا ونحوه من غير تعلم أدلة الترك، وإن لم يتمكن من الترك إلا بتعلم العلم المذكور تعيَّنَ حينئذٍ.(1)
وأول ما يلفت في هذه المقولة رأي الغزالي رحمه الله في اعتبار هذه العلوم فرض عين، ويشمل ذلك تعلم تعريفات أمراض القلب وأسبابها وعلاجها، وهذا الرأي كان جزءاً من منهجه العام في التربية والمجتمع، وبنى عليه توجهه في إصلاح التعليم والمجتمع، وهو الذي تمثل في سفره العظيم ’’إحياء علوم الدين’’، فقد قصد فيه إحياءَ علومٍ كان يرى أنها لم تنل ما تستحق من الاهتمام والعناية، وأن ذلك كان أحد أسباب أمراض المجتمع وضعف التعليم في زمانه، فأراد إعادة ترتيب المنهج التربوي السائد في زمانه من خلال ’’الإحياء’’.
ولو نظرنا في رأي الآخرين غير الغزالي فإن علينا ملاحظة أمور، من أولها أن مقتضى هذا القول أن المعرفة التي يميز فيها الإنسان بين الخطأ والصواب، والصحة والمرض، ستبقى واجبة على المكلفين، وإلا كيف يستقيم للمرء أن يعرف نفسه إن كان في وضع مرضي أو صحيح؟ وكيف يعرف أن هذه الأمراض قد توقعه في الإثم أو المعصية؟
إن مثال ترك الزنا في هذه المقولة يظهر أن المعرفة المبدئية والتسليم بحرمة الوقوع في هذه الأمراض ووجوب تجنبها يؤيد ذلك، فتحريم الزنا أمر معلوم من الدين، وليس البحث في أدلة هذا التحريم ودلالاته واجباً على الأفراد. ويجب أن يكون تحريم معاصي القلوب أيضاً أمراً معلوماً للأفراد، وبذلك يكون متضمناً لقسم نعتبره فرض عين.
وعند ضعف الإنسان عن التخلص من هذه الأمراض بعد معرفته بكونها أمراضاً، فإنه يدخل في القسم الآخر المذكور في هذه المقولة: إن لم يتمكن من الترك إلا بتعلم العلم تعين حينئذٍ. أي يصبح بحثه واجتهاده في معرفة صفة المرض وأسبابه وعلاجه واجباً عليه، والعلم المقصود هنا هو ما يرفع إيمانه أو يرتقي بمعرفته ليقاوم شبهاته وشهواته.
إن القسم المتعين على كل إنسان هو ما يتعلق به كفرد مما يحتاجه لأداء واجباته أو تجنب الوقوع في المحرمات، ولذلك أورده النووي رحمه الله في باب تعلم المكلف ما لا يتأدى الواجب الذي تعين عليه فعله إلا به، ويتعلق بذلك أمور تجب على كل مسلم مثل أحكام الطهارة، والصلاة، وأمور تجب على أفراد مخصوصين مثل أحكام الحج لمن أراد الحج، والزكاة عند من ملك المال، وعشرة النساء للمتزوجين...
وإذا كان الأمر كذلك فإن تعلم الأحكام المرتبطة بأعمال القلوب أشد وجوباً، لأن الوقوع في الإثم من أبوابها أقرب، والحذر منها أوجب. فقد ذكر العلماء أن معاصي القلوب عندما تساكن النفس وتستقر في القلب يأثم بها صاحبها ويعاقب عليها، ولذلك فهي ليست من القسم المعفو عنه المذكور في حديث: ’’ إن هم العبد بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة’’(2) ذلك أن هذه المعاصي موضعها القلب، واستقرارها فيه معناه أن الإنسان قد تجاوز مرحلة الهم إلى ما بعدها حين لم يعمل على تطهير قلبه منها. (3)
بعد ذلك نقول: إذا أردنا الترجيح في القول بوجوب علوم القلب أو عدمها فإن علينا النظر في واقع جديد تعيشه الأمة، من ملامحه البارزة ضعف الثقافة الشرعية، وخلل في المفاهيم، وزغل في القلوب يجعلان الرؤى مشوشة، وأمراض النفوس ملتبسة بمظاهر الإخلاص وسلوك الخير. وهذا كله عند من يقر بأصل مرجعية الدين، ويدعي التزامه بطريق التدين، عدا الكثيرين الذين ينادون أصلاً بتجاوز الدين أو محاربته. في هذا الواقع تلزمنا معرفة أهمية هذا الباب من علوم القلب لقيامها بدور إصلاح اجتماعي عام وتغيرات تربوية شاملة، فهذه كانت رؤية الغزالي رحمه الله، إذ لم ينظر للأمر من زاوية متعلقاته بالفرد، بل من زاوية ارتباطه بالأنظمة التعليمية والاجتماعية في زمنه بشكل عام.
والله الهادي إلى سواء السبيل.

__________________________

(1) النووي، أبو زكريا محي الدين بن شرف (ت 676هـ) المجموع شرح المهذب، ج1 ، ص26 دار الفكر .د.ت. وانظر أيضاً: السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن (ت911هـ). الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية، دار إحياء الكتب العربية، ص445.

(2) أخرجه البخاري (6491) ومسلم (131) من حديث ابن عباس.

(3) انظر جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي (زين الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين ت 795) مؤسسة الرسالة، بيروت ، ط6، 1415-1995م .مج 2 ، ص324.
.موقع الرشد
أضافة تعليق