أخرج الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قال: قال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن كانتِ الآخرةُ هَمَّه، جَمَع الله له شَمْله، وَجَعَلَ غناهُ في قَلْبه، وَأَتَتْه الدُّنيا وهي راغِمة، ومَن كانتِ الدُّنيا هَمَّه، فَرَّقَ الله عليه شَمْله، وجعل فقره بين عَيْنَيْه، ولم يأتِه منَ الدُّنيا إلاَّ ما قدر له." [رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد].
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي، أَمْلَأْ صَدْرَكَ غِنًى وَأَسُدَّ فَقْرَكَ، وَإِلَّا تَفْعَلْ مَلَأْتُ يَدَيْكَ شُغْلًا وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ." [رواه الترمذي].
أرشد النبي صلى الله عليه وسلم في الحديثين إلى تفريغ القلب عن هم الدنيا وجعله مركّزا ومتفرغا لطلب الآخرة. وهذا التوجيه النبوي منصبّ على عمل القلب وليس عمل الجوارح، فإن المؤمن مأمور بكسب الرزق، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ [الملك: 15].
وقال تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الجمعة: 10].
وسئل النبي صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الْكَسْبِ أَطْيَبُ؟ قَالَ: "عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ." [رواه أحمد والحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن الكبرى والطبراني في الكبير والأوسط].
وروى الطبراني في الكبير عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْتَرِفَ» أي صاحب حرفة.
فالإنسان مطلوب منه العمل في الدنيا وهو جزء من مهمته في عمارة الأرض، قال تعالى: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [هود: 61] أي: جعلكم فيها عُمّارا تعمرونها وتستغلونها. [تفسير ابن كثير: 4/331].
ومع ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم أرشدنا إلى مقام روحي رفيع وهو ارتقاء الهمة إلى المعالي السماوية وتعلق القلب بالهدف الأخروي الباقي. فليست الدنيا هي الهدف وليس كسب المال هو المقصود، بل الذي يهمه هو إرضاء الله وامتثال أوامره وتحقيق مقاصده.
وقلب المؤمن مطمئن في مسألة الرزق لأنه استند إلى ضمان رب العالمين القائل: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾ [هود: 6] والقائل: ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ [الذاريات: 58] والقائل: ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾ [الذاريات: 22].
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا رسولُ ربِّ العالمينَ؛ جبريلُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نفَثَ في رُوعي: أنَّه لا تموتُ نفسٌ حتَّى تَسْتَكْمِلَ رزْقها وإنْ أَبْطَأ عليها، فاتَّقوا الله؛ وأجْمِلوا في الطلب، ولا يَحْمِلنّكُمُ اسْتِبْطاءُ الرزْقِ أنْ تأخُذوه بِمْعصِيَةِ الله، فإنَّ الله لا يُنالُ ما عندَه إلا بِطاعَتِه." [رواه البزار ورواته ثقات].
ومن الأدعية المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "وَلاَ تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا، وَلاَ مَبْلَغَ عِلْمِنَا".
وقد لخص الحسن البصري موقف المؤمن بهذه الكلمات النيرات: "علمت بأن رزقي لن يأخذه غيرى فاطمأن قلبي له، وعلمت بأن عملي لا يقوم به غيرى فاشتغلت به، وعلمت أن الله مطلع على فاستحييت أن أقابله على معصية، وعلمت أن الموت ينتظرني فأعددت الزاد للقاء الله".
وبهذه العقيدة تحررت نفس المؤمن من العبودية والتذلل لمخلوق، فإنه لا يرى الرزق بيد أحد غير الله عز وجل. وقد عبر عن هذا الإمام الشافعي بقوله:
أَنا إِن عِشتُ لَستُ أَعدَمُ قوتاً ** وَإِذا مُتُّ لَستُ أَعدَمُ قَبرا
هِمَّتي هِمَّةُ المُلوكِ وَنَفسي ** نَفسُ حُرٍّ تَرى المَذَلَّةَ كُفرا
وَإِذا ما قَنِعتُ بِالقوتِ عُمري ** فَلِماذا أَزورُ زَيداً وَعَمرا
ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصيبات الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا.
*نقلاً غم موقع الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين