من كان يبحث عن المعجزات والخوارق فهي تُرى رأي العين في غزة منذ 7 أكتوبر، لا تخطئها إلا العين التي ترفض إبصار الحقائق الماثلة، وتطلب الدليل على أن النهار نهار، معجزات في شكل بطولات يصنعها الإيمان حين يخالط شغاف قلوب المرابطين والمجاهدين ويقود مسيرتهم ويتجلى في تجاوز إكراهات الحصار والتمكن من الصمود والإنجاز العسكري والتصنيعي...أبواب الجنة ليست مشرعة لأهل غزة وحدهم بل يمكن أن يدخلها كل مسلم بالولاء لهم، بدينار يدفعه لهم، بكلمة داعمة، بكلمة فاضحة للمخذلين والمعوقين، بدعوة صادقة، بمجرد حزن القلب، فحسان بن ثابت رضي الله عنه لم يحمل يوما سيفا لكنه من أهل الجنة لاصطفافه مع أهلها بالسلاح الذي يملكi وهو الكلمة، والمحروم من حُرم الجنة هذه الأيام ، والشقي من ترك موكب المجاهدين وانخرط بغفلته في موكب الأنظمة العميلة وعلماء السلاطين.
لكن كيف صمدت غزة وسجلت الخوارق؟ إنها التربية الإيمانية التي نشأت عليها أجيال كاملة نجت من عادات المجتمع الإستهلاكي وحظيت بتربية روحية عقلية علمية ميدانية جسدت المقاييس السماوية، لذلك نكاد نبصر التأييد الإلهي لرجال في الأنفاق بلا معدات حديثة يُعجزون العدو لأنهم أعدوا ما استطاعوا كما أُمروا فتدخلت العناية الإلهية لجبر ما ينقصهم، أما نحن العرب والمسلمين فإن عجزنا وذلنا وهواننا سببُه عقود من "الفن" الرخيص و المسلسلات المنحطة وإدمان كرة القدم والبرامج التعليمية المنحرفة فضاعت القيم العالية وتوارى حب الجهاد – بل مجرد ذكره – وأذهب المد العلماني التغريبي الجارف معاني الرجولة والأنوثة والعزة، وتمثلت القاصمة في تقديس النخبة السياسية والثقافية لاتفاقيات سيكس – بيكو التي نقلتنا من الولاء للأمة إلى الانزواء في حدود اصطناعية غايتها إبقاؤنا ضعفاء متفرقين متنازعين، بالإضافة إلى التأقلم مع القيم الغربية والعادات الوافدة التي تناقض قيمنا وتقاليدنا إلى أبعد حد، ويتجلى ذلك – على سبيل المثال – في إقبال الحكومات والشعوب على المهرجانات "الثقافية" خاصة في فصل الصيف، مع العلم أن الثقافة محصورة في الغناء والرقص والاستعراضات التي تخالف الشريعة وتهدم الأخلاق وتذهب بمتانة الأسرة وتزيد من انحراف الشباب، لما يكتنها من فجور وخمور وعري وإيحاءات إباحية، كل هذا ودماء المسلمين تسيل أنهارا في غزة وعلى المباشر، ونحن نرفع شعار "مع فلسطين ظالمة أو مظلومة"، وكان ينبغي أن تعمّ مظاهر الحزن وأن تنفق أموال المهرجانات واللهو واللعب على أهل غزة، ويحق لنا أن نتساءل: أين الإيمان؟ أين الإسلام؟ أين المشاعر الإنسانية لدى النخبة ولدى الجماهير؟ إنها غلبة التدين الشكلي البارد وتركة العلمنة الحثيثة التي حشرت الدين في ركن العبادات الفردية والمظاهر الفلكلورية الموسمية بينما غاص أهل غزة في جوهر الدين ولبّه، وأحيوا معانيه التغييرية، واستمدوا منه قوتهم فأثبتوا أن الدين ليس أفيونا ولا مخدرا بل هو روح تدفع إلى الى أسباب القوة والحياة ومقارعة العدة مقارعة عنيدة مهما كان جبروته واصطفاف حكومات العالم معه، وأرى أن الواقع الذي أبرزه طوفان الأقصى يدلنا بوضوح على حاجتنا الماسة إلى قيادات جديدة في الساحة وعلى جميع المستويات، مع تركيز خاص على تنشئة لفيف من العارفين بالله أرباب القلوب وأطباء الأرواح ليحوا الأمة بأساليب عصرية فعالة بدل المواعظ الباردة التي تميت القلوب ولا تحييها، فهذا الصنف في نفس درجة صنف النخبة السياسية والعسكرية لأن المسلمين ليسوا سياسيين محترفين ولا عسكريين منقطعين عن الدين، كلهم – إلى جانب الجماهير – في حاجة إلى الزاد الإيماني وجرعات التذكير، وقد ذكر التاريخ أن المسلمين لما سمعوا بصلاح الدين الأيوبي واطمأنوا إلى صدقه وعزمه على تحرير القدس الشريف توافدوا عليه من كل الأقطار، وكان من بين من وفدوا عليه – بل في مقدمتهم – العلماء الربانيون أصحاب القلوب الرقيقة والعيون الدامعة والمواعظ الرفيعة، ليرفعوا المعنويات ويذكروا الجند بأيام الله ويحببوا للناس الجهاد والشهادة، وأعجبي ما ورد أن العارف بالله حاتم الأصم كان في غزو مع شيخه شقيق البلخي، وفي ساحة المعركة التقيا في جولة من الجولات فسأله شيخه "كيف تجد قلبك يا حاتم؟"، قال "كليلة زفافي"، قال الشيخ "أما أنا فهكذا"، فاتكأ على رمحه فنام، قال تلميذه "حتى كنت أسمع شخيره"...أليس هذا أفضل لأمتنا من أخبار اللاعبين والمطربين والممثلين و المؤثرين؟