في الحروب إما الثبات والانحياز للحياة أو الاستسلام للعجز؛ لا طريق ثالثًا.. الثبات يعني البقاء والتماسك؛ وهو ما يتنفسه أهل غزة فيرفضون كل ما يضر بالثبات من "السماح" بالانهيار وتناقص الإيمان وتسرب الصبر وهو من أهم مفاتيح الثبات بعد الاستعانة بالرحمن بالطبع.
تلخص طفلة ناجية من مجزرة صهيونية بعد استشهاد 140 فردًا من عائلتها وجيرانها بعض معاناة غزة من المقتلة الصهيونية؛ قالت: "شفت كتير رؤوس مقطوعة".
يمنع الصبر النفوس عن السخط والهلع والجزع رغم شدة الابتلاء؛ وهو ما رأيناه في غزة وفي فلسطين؛ فكل من تهدمت بيوتهم فوق رؤوسهم وتم إنقاذهم "بمعجزة" بعد فقدانهم الأهل والأحبة والجيران وجدناهم يقولون "بصدق": الحمد لله..
الصبر هو التمسك بالصمود ومنع الانهيار أمام الشدائد بأنواعها وتحمل قسوتها النفسية والمادية والجسدية بلا تذمر رغم عظم الألم..
من أسلحة الثبات "التقليل" من المعاناة ولو بالسخرية منها؛ فشاهدنا فيديوهات رائعة منها فيديو لطفلين من غزة يقدمان يوميات ساخرة من الاحتلال؛ فيطلب الكبير من الصغير تقليد صوت صاروخ ضخم فيفعل، ثم يطلب منه إصدار صوت صاروخ متوسط فيقلده، وأخيرًا صوت صاروخ صغير فيضحك الصغير وهو يقلده..
من الثبات؛ الإقامة في المكان ورفض مغادرته، فرفض الكثيرون في غزة مغادرة بيوتهم، ومنهم من تهدمت بيوتهم فأقاموا خيامهم على أنقاضها، وآخرون سارعوا بإصلاح وبناء ما تهدم من بيوتهم وهم "يدركون" احتمالات كثيرة بإعادة قصفها، "وأجمع" الغزاويون على رفض التهجير مهما بلغ شدة ومرارات التهديد وحلاوة "الإغراءات"؛ ويكفي منها النجاة من العيش في جحيم القصف ليلًا وجحيم العيش نهارًا تحت مرارة البحث عن طعام وشراب للأسرة، والتعرض للقصف الصهيوني أثناء الانتظار في الطوابير الطويلة جدًا للحصول على مساعدات، أو الموت غرقًا أثناء محاولات الحصول عليها، وأخيرًا الموت من المباني العالية التي يتسلقها البعض للفوز بالمساعدات التي يتم إلقاؤها من الطائرات وأحيانا تأتي المساعدات بأغذية منتهية الصلاحية، كما حدث في مساعدات أمريكية أرسلوها لغزة.
من الثبات والانحياز للحياة ورفض البكاء على الواقع "وانتزاع" أي لحطة فرح وسط المعاناة الدامية؛ فرأينا طفلًا من غزة يتأرجح بين أنقاض منزله بعد استهداف القصف الصهيوني الغاشم له، واحترمنا الصمود رغم الجراح والإصرار على الحياة، وإقامة حفل زفاف جماعي لنازحين فلسطينيين في خان يونس..
الثبات والانحياز للحياة لا يتناقضان أبدًا مع التألم من شدة الأوجاع؛ فلا أحد لا يتعب كثيرًا من قسوة الألم فهذا ضد طبيعة البشر، ولكن الثبات والانحياز يرفضان "بقوة" وبشموخ وعزة وكرامة الاستسلام "لبشاعة" الواقع ويصنعان أفضل وأوسع وأجمل ما يمكن للتخفيف من مرارته ولتقليل قسوته؛ وكأنهم يتنفسون قول الشاعر:
ليس من مات فاستراح بميت
إنما الميت ميت الأحياء
إنما الميت من يعيش كئيبًا
كاسفًا باله قليل الرجاء
أقامت "كفيفة" خيمة لتعليم الطلاب وتعويضهم عن التوقف بسبب الحرب ولديهم قوائم انتظار طويلة، وشاهدنا خيمة توعية لذوي الاحتياجات الخاصة ومصابي الحرب، وأخرى لخدمة تأهيل طبي وعلاج طبيعي وعلاج نفسي لجميع الأعمار وخاصة الأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة الذين تعرضوا للكثير منذ الحرب..
ورأينا سيدة غزاوية تنظف بيتها رغم الدمار الذي حل به وصعوبة العيش به، وآخرون وضعوا ملاءات على أنقاض بيوتهم لعدم توافر خيام يضعونها فوقها..
من الثبات أيضًا "الفهم" الواعي للعدو ولمن يقف حوله وعدم السماح لهم بالخداع؛ ونتوقف عند قول ديفيد سانغر مراسل سابق للبيت الأبيض: "إدارة بايدن ترسل قنابل لإسرائيل وترسل مساعدات لغزة؛ وسبب ذلك معاناة شديدة ليس لأهل غزة وحدهم، بل لموظفي إدارة بايدن الذين يصعب عليهم التعايش مع هذا الأمر"؛ وكأن أهل غزة يجب أن يمنحوا بعضًا من صبرهم المتنامي لإدارة بايدن حتى يستطيعوا تحمل معاناتهم، وكأنهم لا يستطيعون الاستقالة والتنديد بما يرتكبه بايدن وأمثاله من الغرب والصهاينة.
الطفلة دانا بعد إخراجها بصعوبة من تحت الأنقاض بعد قصف صهيوني أرادت طمأنة الإسعاف وقالت: "مفيش شيء فيا، أنا مفيش شيء بيوجعني"؛ وكانت تنزف!!.
سيدة غزاوية بعد حصار الصهاينة لبيتها لمدة عشرة أيام "وحرقه" وهي بداخله قالت فور خروجها منه: "لآخر نفس ح نعمل اللي بدنا نعمله، هما ضعاف وبيخافوا وسلاحهم معهم؛ إحنا ما معنا حاجة، وبنظرة تحدٍ: أضافت معانا الله مش مهم الجوع اللي بيجوعونا إياه مش مهم مفيش طحين مفيش طبيخ مفيش شيء نحن بنزعل على الأطفال، نحن كنا في الحرب مثل غيرنا حاصرونا 10 أيام وحرقوا بيتنا واختفت معالمه كنا بنموت في اليوم 100 مرة، إحنا صامدين وعلى قلبهم دايمًا، شو ما بدهم يعملوا إحنا بنحب الحياة ومصرين على الحياة، وزرعنا خضراوات ليشوف العالم كله الفلسطينيين أقوياء رغمًا عن كل حاقد، ورغمًا عن بايدن وعن نتنياهو، وح نزرع ونحصد ونعيش ولو إحنا متنا أجيالنا ح يعيشوا وح يعملوا أكتر مما عملناه بأمر الله".
يقول فرانز كافكا: هناك رذيلتان أساسيتان للبشر تتبع منهما كل الرذائل الأخرى فقدان الصبر والإهمال؛ فقدان الصبر سبب البشرية الطرد من الفردوس، أما الإهمال فقد منعهم من شق طريقهم في العودة إلى الفردوس..
ويلخص الثبات وفهم دوافع الحرب قول مسن من غزة "برضا" وبثقة بالله بعد خروجه وعائلته من تحت دمار بيته: "الحمد لله طلعنا بخير، وياما تدمرت غزة ورجعت مرة ثانية والصراع مستمر".
*نقلاً عن بوابة الأهرام