لقد باتت شعوب العالم والحكومات في أدنى الأرض وأقصاها، على يقين وإدراك تام بالحقيقة العارية المفجعة، في استمرار الحرب القذرة وإجرام الكيان الصهيوني المحتل في حق أبناء غزة، تلك الحرب التي بلغت يومها الـ115 وارتكب خلالها الاحتلال مئات المجازر، وارتفع عدد الشهداء فيها إلى نحو 27 ألف شهيد وأكثر من 65 ألف مصاب منذ السابع من أكتوبر الماضي، ولا تزال المجازر واستهداف المدنيين ومواصلة الطائرات الإسرائيلية قصفها لمختلف مناطق القطاع مستمرة، كما أن مليونا و800 ألف مواطن صاروا بلا مأوى، ونحو 40% من المناطق الحضارية تم مسحها من على الخريطة تماما، و50% من البنية التحتية في القطاع تم تدميرها، إضافة لاستهداف دور العبادة الإسلامية والمسيحية وهدم معالم أثرية يقدر عمرها بأكثر من 1000 سنة.
وبالتوازي مع ذلك، لا تزال المقاومة تُكبد الاحتلال خسائر بشرية وفي الآلات والمعدات والأسلحة الثقيلة التي لم تزل تتدفق من الحليف الأمريكي الأزلي والداعم للكيان، وكانت هيئة البث الإسرائيلية، قد اعترفت بمقتل 24 ضابطا وجنديا إسرائيليا جنوبي قطاع غزة، في عملية واحدة، ليتجاوز عدد قتلاهم بحسب بياناتهم أكثر من 500 جندي وإصابة نحو 3000 آخرين، وأغلبها إصابات خطيرة.
ويبدو أن الاحتلال وتابعه الشيطان الأعظم في واشنطن لم يصدقا، ولا يريدان تصديق هذه الفكرة وغيرها من ردود الأفعال الواسعة هنا وهناك، والتي أدت إلى اهتزاز الموقف الأمريكي في الداخل والخارج وأصبحت بحاجة إلى عشرات الرقاب التي تتلفت بها إلى الأذرع التي تزايدت لتهدد مصالحها ومركزها العالمي، فباتت متضاربة الهوى بين دفع الضغوط والرضوخ لجنون النتن ياهو الذي بات منفردًا يبحث عن جحر آمن يقيه مستقبلًا غامضًا، فاستمرت في الدفع بالأسلحة والدفاع عن ذراعها الألعن والأرعن في الشرق، بل إن الجنون وعدم التصديق بلغ مداه بعد إقدام محكمة العدل الدولية على تلك الخطوة المهمة، بتوجيه ضربة قوية للاحتلال في حكم على الدعوى التي تقدمت بها جنوب إفريقيا لإثبات جريمة الإبادة الجماعية، وقد طالبت المحكمة الكيان المحتل ـ فى قرار تاريخى ـ باتخاذ كافة التدابير لمنع الإبادة الجماعية، وإقرارها بحق الفلسطينيين فى غزة فى الحماية من أعمال الإبادة الجماعية، وأمرت تل أبيب باتخاذ إجراءات فورية وفعالة للسماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع، ليعقب هذه الخطوة رد فعل ربما متوقع من الجانب الأمريكي في انحيازه وعجرفته، حيث قال متحدث باسم الخارجية الأمريكية بعد صدور القرار التاريخي ما نصه "ما زلنا نعتقد أن مزاعم الإبادة الجماعية لا أساس لها من الصحة"، متجاهلًا خضوع الرئيس الأمريكى ووزير خارجيته بلينكن ووزير الدفاع لمحكمة فيدرالية أمريكية بكاليفورنيا بتهمة التواطؤ مع الكيان المحتل فى ارتكاب الإبادة الجماعية فى غزة عبر تزويد الجيش الإسرائيلى بأسلحة القتل والتدمير.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل اتخذت الإدارة الأمريكية و10 دول أوروبية قرارها بتعليق مساعداتها لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا"، على أساس شبهات غير مؤكدة قدمتها سلطات الاحتلال، بانخراط بعض موظفي وكالة الأونروا في هجمات حركة حماس في 7 أكتوبر الماضي. إذ تنفذ سلطات الاحتلال الإسرائيلي حملة منسقة منذ 1998 لإضعاف وتقويض قدرة الأونروا تمهيداً لحلها نهائياً للتخلص من "حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة لمنازلهم والتعويض" بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 لسنة 1948، والأونروا هي الجهة الأممية التي تقدم العمل الإنساني في القطاع المحتل، وتوفر المساعدات لأكثر من 2 مليون منكوب، بينهم 1.9 مليون نازح بلا مأوى، في ظل العدوان والحصار والقيود التي يفرضها الاحتلال على تدفق المساعدات، على نحو أدى إلى العشرات من الوفيات جوعًا في غياب المأوى، كما أن الوكالة ثاني أهم مصادر الدخل للأسر الفلسطينية وتشمل الأطباء والمعلمين والإداريين والتقنيين، بل قد بلغ عدد من قتلتهم قوات الاحتلال من وكالة الأونروا 152 موظفاً، بالإضافة إلى أكثر من 350 من الطواقم الطبية، وبهذا القرار غير المسئول الذي يفضح مزيدًا من الوجه الأمريكي والأوربي المكشوف يتبادر السؤال: هل تذكروا الآن ضلوع الأونروا في أحداث السابع من أكتوبر؟ أم أنه الحنق على جرأة العالم من حولهم على إدانتهم ومواجهتهم بشرور أعمالهم، واستمرار المقاومة رغم فروق التوقيت في الإمكانات، ورشق تل أبيب بالصواريخ، وصمود أطفال غزة، والحنق على الأونروا ذاتها، بعد أن كشفت تقاريرها حجم المجازر الوحشية التي ارتكبها جيش الكيان المحتل، بل ومواطنوه بحق المدنيين، وخصوصًا النازحين في مراكز الإيواء التابعة للوكالة، وأن غالبية ضحايا المجازر من النساء والأطفال، فضلًا عن حملات الاعتقال الممنهجة حيال المدنيين الذين لجأوا إلى هذه المراكز.
*نقلاً عن بوابة الأهرام