صفقة واحدة ومشهدان مختلفان، ربما هذا هو العنوان اللائق بلحظة تسليم الأسرى والمحتجزين والرهائن للصليب الأحمر، في الصفقة التي عُقدت بين المقاومة الفلسطينية متمثلة في حماس، والجانب الإسرائيلي، بعد الهدنة المتفق عليها بجهود مصرية وتنسيق مصري قطري وأمريكي، وربما لاحظ المتابعون هذه المفارقة أثناء تسليم الأسرى، والتي تحمل في طياتها الكثير من القراءات التي تبدت منها ملامح كثيرة خلال فترة الهدنة، حين نشرت حماس صورا من تسليم الدفعة الأولى من المحتجزين للصليب الأحمر، واتضح تمامًا كيف كانت معاملة الأسرى حتى لحظات تسليمهم وحرص عناصر حماس على طمأنتهم وهو ما أكدوه من حسن المعاملة خلال فترة الأسر وحصولهم على جميع احتياجاتهم.
بينما على الجانب الآخر، أطلقت قوات الاحتلال قنابل الغاز لتفريق أهالى المفرج عنهم الذين كانوا ينتظرونهم، مع التأكيد على عدم مغادرتهم للمنازل، كما تم منع النازحين للجنوب أو أهل الجنوب من التحرك إلى شمال القطاع، كما تم استهداف بالقتل والإصابة لفلسطينيين في جنين، وأماكن أخرى، وخلال أيام الهدنة، لن يتمكن أكثر من مليون ونصف المليون نازح إلى جنوب قطاع غزة، من العودة لتفقد منازلهم وممتلكاتهم التي طال غالبيتها القصف ولحق بها الدمار في وسط وشمال القطاع، أو حتى البحث عن أفراد عائلاتهم المفقودين، بعد أن هددت قوات الاحتلال التي اجتاحت بدباباتها وآلياتها العسكرية تلك المناطق، باستهدافهم.
واليوم هو آخر أيام الهدنة الإنسانية التي تم الاتفاق عليها، بعد تسعةٍ وأربعين يومًا من حرب دامية، جاءت على الأخضر واليابس والبشر والحجر، واستشهاد أكثر من 12 ألف فلسطيني نصفهم من الأطفال، وقد نجحت صفقة تسليم الرهائن التي كان فيها للجانب المصري دور كبير جدًا، سواء على مستوى إتمام الصفقة، أو على مستوى تدفق المساعدات، حيث الاتفاق على دخول 130 ألف لتر سولار وأربع شاحنات من الغاز يوميًا إلى قطاع غزة، وقد بلغ حجم المساعدات من المواد الغذائية والأدوية والمستلزمات الطبية والمياه والخيام وغيرها من المساعدات والاحتياجات، لتخفيف حدة المعاناة الإنسانية عن الشعب الفلسطيني الشقيق، نحو 12 ألف طن مساعدات، أي أربعة أضعاف حجم المساعدات المقدمة من 30 دولة، بلغت مساعداتها مجتمعة نحو 3 آلاف طن.
وهنا تجدر الإشارة إلى عدم منطقية فكرة المزايدات على الدور المصري في هذه الأزمة، حيث أدى الجانب المصري دورًا احترافيًا كبيرًا منذ بدء الحرب الشعواء على القطاع، مع التحركات على المستوى الإقليمي والدولي للضغط على الجانب الإسرائيلي الذي يهدف إلى التهجير القسري للفلسطيينيين بحجة القضاء على حماس، ولتجد حكومة نتنياهو المتطرفة نتيجة تبيض بها ماء وجهها الذي جف أمام ضغوط الداخل المتوتر، وافتقاده للكثير من فرص الدعم والمساندة الدولية التي كانت معه في السابع من أكتوبر الماضي، وهنا لعلنا نستدعي تلك العبارة الشهيرة، "كل حلفائك خانوك يا ريتشارد"، التي وردت في فيلم "الناصر صلاح الدين"، على لسان الفنان الراحل "حمدي غيث"، وقد قالها ريتشارد بعد أن تكبد خسائر فادحة على أبواب القدس، وفشل في دخولها، وتخلى عنه حلفاؤه، وهو الأمر الذي يتكرر بصورة فيها استحقاق لهذا التخلي، بعد الفشل الذريع أمام العالم كله وكذب الادعاءات التي دفع بها نتنياهو وحكومته، فتم الانسحاب من مستشفى الشفاء، إذ لم تجد ما روجت له من أنفاق وغرف عمليات وهو الزيف الذي كشفه العالم، كما كشف وحشية المجازر التي مورست على أبناء الشعب الفلسطيني، بل واستخدامها لأسلحة فتاكة وبعضها مجرم دوليًا، وقد بدا ذلك بوضوح من طبيعة إصابات الذين جاءوا لتلقي العلاج في المستشفيات المصرية، حيث أكد الأطباء أن تسعين بالمئة من الإصابات شملت حالات بتر للأطراف ومنها حالات خسرت أطرافها الأربعة، وكشف أحد الأطباء بأن طبيعة الإصابات أوضحت أن الأسلحة بدت كأنها مصممة لاستهداف الأطفال بقياسات محددة، وكذلك استخدام أسلحة في الأساس تكون ضد الآليات وليس البشر.
وبعد لقاء الرئيس السيسي بكل من رئيسي وزراء إسبانيا وبلجيكا، أعلنت إسرائيل، استدعاء سفيري البلدين، "لتوبيخهما"، احتجاجًا على تصريحات رؤساء وزراء بلجيكا وإسبانيا، خلال مؤتمر صحفي من معبر رفح، وهي التصريحات التي أدانها نتنياهو وكان رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز قد أشار إلى ضرورة العمل على حل الدولتين، وأن القتل العشوائي في قطاع غزة غير مقبول، وأن ما يحدث كارثة إنسانية، كما قال رئيس وزراء بلجيكا ألكسندر دي كرو، أن سكان غزة يحتاجون إلى المزيد من المساعدات الإنسانية بشكل عاجل، موضحا: بضرورة أن يصبح وقف إطلاق النار المؤقت وقفًا دائمًا.
وقال مكتب نتنياهو إن مسئولي البلدين "لم يحملا حماس كامل المسئولية عن ارتكاب جرائم بحق الإنسانية، يأتي ذلك مع تراجع التأييد والدعم الأمريكي، خصوصًا أن بايدن أيضًا يواجه انتقادات شديدة تهدد مستقبله الانتخابي للرئاسة، وقد هتف متظاهرون في وجهه بعد مؤتمر صحفي له "تحيا فلسطين"، ومؤخرًا أوضح المستشار السابق لرئيس البنتاجون، دوجلاس ماكجريجور، "أن النزاع الأوكراني استنزف جميع الاحتياطيات العسكرية الأمريكية، مؤكدًا أنه تم إرسال جميع الإمدادات العسكرية وأنظمة الأسلحة والذخيرة المتوافرة لدينا تقريبًا إلى أوكرانيا. لم يبق لدينا الكثير. لقد خسرنا الحرب في أوكرانيا".
وغير أمريكا يواجه الكيان هجومًا متفرقًا من الجنوب اللبناني من قبل قوات حزب الله، كما هدد الحوثيون بقض مضاجع إسرائيل وقد تعرضت سفينة حاويات إسرائيلية لهجوم باستخدام طائرة دون طيار، في المحيط الهندي، وذلك عقب أيام من اختطاف جماعة الحوثي سفينة إسرائيلية أخرى أثناء مرورها بالبحر الأحمر، وداخليًا أوضح استطلاع رأي أن بيني جانتس أكثر ملاءمة لمنصب رئيس الوزراء من نتنياهو، الذي فشل في جميع الملفات مع حكومته، كما صعّدت بعض الدول انتقاداتها لإسرائيل، واستدعت دول أخرى سفراءها أو قطعت علاقاتها الدبلوماسية معها، ما يشير إلى اتجاه جديد في بوصلة القضية الفلسطينية التي أسهمت تلك الحرب في إعادتها إلى السطح بصورة جلية أسهم فيها غباء ووحشة الكيان المحتل، لتبدو في الأفق انفراجة نحو مساعٍ قوية باتجاه دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية.
*نقلاً عن بوابة الأهرام*