يمارس ساسة العراق منذ عقود خطابا شعبويا موغلا في الوهم، ومضلِّلا ومرهِقا للشعب، قاد البلاد إلى كوارث في السابق، وسيقودها إلى المزيد منها، وسواءٌ حصل ذلك بقصدٍ أو دونه، فإن النتيجة واحدة.
والهدف من هذا الخطاب غير العقلاني هو تهييج مشاعر البسطاء ورسم صورة لواقعٍ متخيل، من أجل استغلال عواطف الناس الوطنية والدينية والقومية، والتأثير في قراراتهم ومواقفهم، بهدف استغلالهم والسيطرة عليهم.
وقد تدنى هذا الخطاب بمرور الزمن إلى الحضيض، خصوصا في السنوات العشرين الماضية، فصار يخاطب المشاعر الطائفية والمناطقية والعنصرية، واعتمد على استفزاز العصبيات وتهييج الخلافات التاريخية، السياسية والدينية، التي دارت في غياهب التاريخ، المتخيل منه والحقيقي.
وقد اعترف أحد السياسيين، الذي تولى منصبا رفيعا خلال السنوات الأخيرة، وهذا الاعتراف يسجل له، بأنه لم يكن يتمتع بأي شعبية تمكِّنه من الوصول إلى السلطة، فلجأ إلى تأجيج الطائفية، موظِّفاً تشابها في الأسماء، بين شخصية تاريخية وشخصية معاصرة، ومجرياً مقارنة بينهما حول اضطهاد إحدى الطوائف!
والملاحَظ أن الخطاب الطوباوي غير العقلاني، لا يقتصر على العراق، بل مازال سائدا في دول، مثل إيران وفنزويلا وكوريا الشمالية، وربما في دول أخرى.
لكن الملاحَظ أيضا أن كل الدول التي تحاول أن تحتكر الحقيقة، وتروج لخطاب أحادي، وتقسر الناس على القبول به، هي دول متخلفة وتتراجع باستمرار، وشعوبها تعاني من شتى المشاكل والمصاعب الاقتصادية والحياتية.
هناك دول غنية مثل فنزويلا وإيران، تحولت إلى دول غير قادرة على تأمين المستلزمات الضرورية لشعوبها، بسبب عيشها في عالم متخيل، موجود فقط في مخيلة قادتها في أحسن الأحوال، أو مصطنع ويستخدم لخداع الناس وتضليلهم في أسوأ الأحوال.
الدول الطبيعية تدرس أوضاعها وتقيّمها بدقة، وفي ضوء ذلك، تسعى لتعزيز قدراتها والاستفادة من الموارد المتوفرة لديها، سواء كانت بشرية أم طبيعية أم صناعية أم مالية، وتضع خططا واقعية لتطوير بلدانها، وتقدم المعلومات الحقيقية لشعوبها، ليس فقط من أجل مصارحتها بالحقيقة، وهذا مطلوب بحد ذاته، وإنما من أجل تمكينها من التفكير بواقعية، كي لا تتوهم بوجود موارد وقدرات غير موجودة، ولا تحلم بتقدم خارق للعادة، أو رخاء وازدهار غير قابل للتحقيق. فالسياسة هي فن إدارة الدولة بالممكن والمتاح وليس بالمتخيل.
ومثل هذه الدول تتقدم وتتعزز قدراتها بمرور الزمن، والأجيال المتعاقبة فيها تسلم الأجيال اللاحقة دولا متماسكة وقوية وقادرة على تقديم الأفضل لشعوبها، والصمود بوجه الأزمات المحتملة، بل قادرة على تجنب الأزمات لأنها مستعدة لها.
ولهذا السبب تنفق الدول العصرية أموالا طائلة على إنشاء مراكز أبحاث رصينة، يديرها خبراء في المجالات كافة، تقوم باستشراف المستقبل ومعرفة احتمالاته، الجيد منها والسيء، كالاختلالات الاقتصادية والاجتماعية، والتغيرات البيئية والمناخية، ثم تقترح خططا تنموية للنهوض بالبلاد ومواكبة تطورات العصر.
لكن الدول التي تقودها جماعات سياسية جاهلة أو حالمة أو غير كفوءة، تعتمد تضليل الجماهير كأساس للحكم والبقاء، أو تتوهم بأن لديها القدرات الخارقة لتغيير العالم وإلحاق الهزيمة بالدول العظمى، فإن مصيرها التراجع والتخلف عن ركب العالم، والأسوأ من ذلك جلب المآسي المتكررة على شعوبها المبتلاة بطبقات سياسية فاشلة، وثقافة لا تصلح للعالم المعاصر.
وعودةً إلى العراق، وبعيداً عن التأريخ القديم، فإن ثقافة العراق السياسية، على الأقل منذ أواسط القرن الماضي، صارت تعتمد على الخيال، البعيد عن الواقع، والخطاب صار شعريا حالما، وليس غريبا أن نرى هيمنة الشعراء أو الخطاب الشعري على السياسة.
ومازال العراقيون يرددون شعر الرصافي والجواهري السياسي، ويعتبرونه أساسا للعمل السياسي ومقياسا لتمييز الصحيح من الخطأ.
كما صار لكل حاكم أو سياسي من يطبِّل له، ويسبغ عليه الصفات الإلهية، وهذا سائد حتى في هذا العصر، وليس غريبا أن ترى قضاة ومثقفين يتحولون إلى مطبِّلين لسياسيين محدودي القدرات.
ولم يعد مفاجئا أن يتحول القضاة إلى سياسيين، وبعضهم انخرط بقوة في الفساد المستشري في مؤسسات الدولة، فسرق ما يمكنه سرقته وهرب إلى الخارج!
والحقيقة أن هؤلاء لم يكونوا مؤهلين للقضاء ابتداءً، فالقضاء من أقدس وأرفع المهن، ويتطلب عقلا راجحا، وضميرا نابضا، وقدرا عاليا من الإنصاف والشعور بالمسؤولية واحترام حقوق الآخرين.
بعض القضاة المهنيين عرضَّوا أنفسهم للخطر في العهود المختلفة ودخلوا السجون، أو استقالوا من مناصبهم القضائية، عندما تعرضوا لضغوط من أجل تغيير أحكامهم.
الآن، يعود العراق القهقرى، ويتبنى خطابا أكثر طوباوية وسريالية من خطاب النظام السابق، الذي أدخل العراق في ثلاثة حروب مدمرة، إحداها مع إيران استمرت ثماني سنوات، وثانيها مع الكويت انتهت بهزيمة مروعة وحصار مدمر دام 13 عاما، وثالثة انتهت باحتلال العراق وإسقاط النظام.
وراح ضحايا هذه الحروب أكثر من مليون قتيل من خيرة أبناء العراق، بينما تشرد على الأقل خمسة ملايين حتى الآن، والعدد يتزايد بمرور الزمن.
لم يتعلم ساسة العراق من تجارب الماضي، على ما يبدو، بل صار الخطاب غير العقلاني ثقافة سائدة لا يحيد عنها أحد إلا نادرا، فانخرط السياسيون الجدد، المتشدقون بالدين، في الخطاب القديم، بل طوروه وجعلوه أكثر تشددا من ذي قبل، لكن الشعب العراقي يعرفهم جيدا، ويعلم بأنهم بعيدون عن التقوى والمبادئ ولا يسعون إلى خدمة الشعب، وهذا ما برهنت عليه تجربتهم في السلطة منذ عشرين عاما، فكل ما يبتغونه هو الاستفادة الشخصية والعائلية، والاستحواذ على المال العام، والتحكم بالناس وفق هواهم ومصالحهم.
يظهر بعض السياسيين، أو قادة الجماعات المسلحة، هذه الأيام وهم يتَحَدون الولايات المتحدة ويعِدون بإلحاق الهزيمة بها، وهؤلاءِ، الذين تنقصهم الثقافة السياسية والمعرفة بشؤون العالم المعاصر، ولا يعرفون غير الشتائم والخطاب المتشنج، يعتقدون بأن من حقهم أن يأخذوا العراق وشعبه معهم إلى حرب عبثية وغير متكافئة، ستقود حتما إلى المزيد من التفكك والضعف والدمار، وتعيده إلى أيام الهزائم والحصار الذي تعرض فيه العراقيون إلى الفقر والجوع، وعانوا كل صنوف الذل والتراجع المعرفي.
بعض الفصائل المنضوية تحت لواء (الحشد الشعبي)، الذي يفترض بأنه مؤسسة تابعة للدولة، تهاجم السفارات والمطارات والقواعد العسكرية العراقية، التي تستضيف قوات أجنبية، وتخطف الزائرين الأجانب، بحجة مناصرة الفلسطينيين في غزة، والحقيقة أنهم مارسوا هذه الأفعال منذ سنين ولم تبدأ مع حرب غزة، بينما لم تسعَ الحكومات إلى لجم هذه الجماعات المنفلتة وإيقافها عند حدها.
والطريف أن هذه الفصائل أجرت (مناورات) عسكرية مشتركة مع الحرس الثوري الإيراني في المياه العراقية، مستخدمةً قوارب هزيلة، تشبه قوارب صيادي الأسماك في الأهوار، بهدف استعراض قوتها لإخافة أعدائها! ومن الواضح أنه تحدٍ للجيش العراقي، الذي احتفل في اليوم نفسه بالذكرى 103 لتأسيسه. أما الحكومة فتتصرف وكأن الأمر لا يعنيها، وربما تأمل بأن الأوضاع سوف تصلح نفسها.
هدف هذه الجماعات واضح، وهو إبعاد العراق عن العالم العربي والمجتمع الدولي، وتخريب علاقاته الدولية، وإلحاقه بالدول المنبوذة والمحاصرة، التي تزداد فقراً وتراجعاً باستمرار، ولم تنجح في تحقيق أي من أهدافها، ثم تحويله إلى ألعوبة بأيدي دولة أخرى، لم تكن يوما صديقةً للعراق، بل سعت في كل العصور، وفي ظل كل الأنظمة التي حكمتها، إلى إضعافه والهيمنة عليه.
العراق دولة متعددة الأعراق والأديان والمذاهب، وقد احتضنت عبر التاريخ المدارس الدينية والفكرية والأدبية واللغوية والثقافية، وتوجد فيها توجهات سياسية وفكرية وثقافية متنوعة، بينما الجماعات المسلحة لا تمثل سوى أقلية، لكن ما يجعلها صاخبة أنها تمتلك السلاح وتتمتع بدعم دولة أخرى، علما أنها تستمد تمويلها من العراق الذي تعمل على إضعافه، وتسعى لإرغام الآخرين على السير وفق توجهاتها المبنية على العواطف والتبعية.
لكن السلاح الذي ترهب به الآخرين حاليا، سوف يستقطب سلاحا مضادا، ما يحوّل العراق إلى ساحة حرب، وهذا يحصل حاليا بدرجة ما، فهذه الجماعات تشتبك فيما بينها، كما حصل في البصرة قبل أيام، وتغتال قادة وناشطي بعضها بعضا، ولكن الحرب المحتملة ستكون أخطر وأكثر تدميرا، إن تمكنت هذه الجماعات من تنفيذ أجندتها.
حكومة السوداني (الوديعة)، مطالبة بمغادرة موقفها المتفرج الحالي، والتظاهر بأن كل شيء طبيعي، وأنها تركز على القضايا المهمة كالإعمار وتقديم الخدمات.
الأمور ليست طبيعية في العراق، وإن هي خرجت عن السيطرة، ويبدو أنها على وشك أن تفعل، فإن إعادتها إلى الوضع الطبيعي لن تكون سهلة، أو حتى ممكنة، خصوصا إذا ما اتخذت الدول الغربية مواقف معادية للعراق، أو قاطعته أو فرضت عليه عقوبات.
العراق ليس ملكا لجماعة معينة، وإنما ملك لأهله جميعا، وقد آن الأوان أن تتخذ الأحزاب والجماعات السياسية والمرجعيات الدينية والتجمعات الثقافية والأكاديمية، وقبلها الحكومة، مواقف جريئة لإنقاذ العراق من الدمار والانهيار والتبعية التي تقوده إليها هذه الجماعات غير المسؤولة.
*نقلاً عن سكاى نيوز عربية