يبدو أن الشعراء كانوا أدرى منذ زمن بعيد بطبيعة غزة ومعناها، التى تحيرنا بصمودها وصمود أطفالها وأهلها. فالعقل لا يستطيع أن يصفها أو يجليها وحده. لذلك استأثر بها الشعر.
اخترت شاعرين فقط كتبا عن غزة، وكتبونا من خلالها عندما كتب محمود درويش في 13 مارس 1994 - 9 أغسطس 2008، دماء الشهداء تسال فى كل مكان.
أطفال تيتم ونساء ترمل، وأسر تشرد، وبيوت تدمر، حاصرتها الألغام بالتفجير، فلا هو موت، ولا هو انتحار. إنه أسلوب غزة فى إعلان جدارتها بالحياة. حقيقى هذا الكلام، فهو وراء العقل، لكنه يعبر عن غزة منذ 7 أكتوبر 2023 حتى الآن. لا هو سحر ولا هو أعجوبة، إنه سلاح غزة في الدفاع عن بقائها وفي استنزاف العدو.
وقد دفعته بجدارة، وها هي الأيام تثبت، وها هي غزة تنزف كما لم تنزف من قبل، لكن إسرائيل هي الأخرى لا تنزف فقط، بل تموت، وليس أمامها إلا القتل والضرب والتشريد، وها هي إسرائيل مفضوحة أمام العالم، لا هي كبيرة، ولا هي جديرة بالحياة أصلا مثل الآدميين، إنها دولة من الوحوش الآدمية ارتكبت مجازر بشرية، سوف تكتب في ضمير الإنسانية، كان هنا وحوش لا آدميين يقتلون الأطفال، ويمثلون بجثثهم، ويتلذذون بدخول المستشفيات، ويقتلون الأمهات، ويسحلون الأجنة، لا يريدون لهم أن يخرجوا للحياة، هل رأيتم من قبل متوحشين يقتلون الأطفال، ويمنعون الولادة، كأنهم يرون فى الأطفال عدوًا مستقبليًا لوجودهم الأبدي، صورة ستعجز العقول والمصورون عن التقاطها، لكن الشعراء قالوها منذ زمن، بل حللوا لأصحاب العقول الإستراتيجية والسياسية معناها ووضعوها فى سياق العقل، حتى يستطيع المعاصرون أن يلتقطوا ما يحدث فى غزة، منذ أكثر من 3 أشهر مع نهاية عام 2023، واستقبال العام الجديد.
العدو هذه المرة ليس مبتهجًا بأحلامه مثلما كتب درويش، ولا مفتونًا بمغازلة الزمن، لأنه اكتشف فجأة، أن الزمن مختلف فى غزة؛ لأن غزة بعيدة عن أقاربها ولصيقة بالأعداء؛ لأن انفجار غزة خدش وجه العدو وكسر أحلامه وحديثه عن الرضا بالزمن.
غزة أدمنت معرفة القيمة النبيلة القاسية، لم تتعلمها من الكتب ولا مقاعد الدراسة، تعلمتها بالتجربة وحدها، حروب غزة علمتها.. غزة أسطورة فاقت الجمال، وفاقت المعنى، غزة حطمت الأساطير كلها، ودخلت دورة جديدة مع الزمن ما بين عام 2023 - 2024، وكتبت بدماء أطفالها صورة وأسطورة مختلفة.
ليست مذبحة أو مجزرة تكررها إسرائيل كل عام أو كل عامين على أهل غزة، لكن غزة في هذه الدورة تحررت من الخوف ومن الهزيمة، وأصبحت أكبر منهما، سرها لم يعد لغزًا، مقاومتها لم تعد ملحمة.
غزة أصبحت كنزًا معنويًا وأخلاقيا، لا يقدر بمال.
قد يقتلون كل أهلها، قد يشردون الباقى، قد يملأون البحر بالدماء، لا هو موت ولا هو دمار، لكنه أسلوب حياة.
لم يكن درويش وحده من أغنانا أن نقول، لكن نزار قباني هو الآخر فى 21 مارس 1923 - 1988، قال يا تلاميذ غزة علمونا، علمونا بعض ما عندكم، علمونا وعلمونا أن نكون كبارًا، أن نكون رجالًا وألا نخاف.
فعلًا لم يعد هناك مجال للخوف بعد الآن، بين أيدي الأطفال كأس ثمين، أصبحت مصاصة الطفل حليبًا، إذا ما اعتقلوها أو قتلوها، تحولت إلى سكين، والأهم أنها تحولت إلى ضمير، لن يجعل العالم ينام بعد اليوم.
القاتل أصبح مقتولًا، وهو حى لا ينام، لن يعرف،
كيف يربي أطفاله، فالقاتل لا يستطيع النوم، ولن تقبله الحياة، فما بالكم بالسفاح، لا تبالوا.
احزموا أمركم ولا تسألونا، فأنتم الكبار لا تسمعون لكل الأصوات، الكل خرس ولم تعد هناك أصوات إلا أصواتكم، لم تستولوا على أرض، لكنكم تمكنتم من احتلال المستقبل كله، المستقبل ما بعد الحياة، لقد أعطاكم الله مفاتيح الجنة، كيف فزتم بها، أيها الأبطال الصغار ونحن نعيش 70 أو 80 أو مائة عام، نبحث عنها.
نصلى ونجدد فى أعمالنا لنصل إليها.
وأنتم أطفالنا أطفال غزة، وجدتم المفاتيح، لأنكم رفضتم ذل الآباء والأجداد، وفتحتم الباب واسعًا للأجيال القادمة، لتعيش بحرية وتهزم البرابرة.
نعم غزة لا تموت
غزة لا يأكلها الطوفان
غزة لا يأكلها الحصار
غزة يحميها رب الدار.
*نقلاً عن بوابة الأهرام