مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
خصائص الميزان الإلهي
خصائص الميزان الإلهي

عبد العزيز بن ناصر الجُلَيِّل

يحسن قبل ذكر هذه الخصائص أن نلمَّ إلمامة سريعة ببعض أقوال المفسرين عند قوله - تعالى -: {وَوَضَعَ الْـمِيزَانَ} [الرحمن: ٧]، والتي سيتبين لنا فيها أن {الْـمِيزَانَ} يراد به العدل في كل شيء، وليس محصوراً في وزن الأشياء المحسوسة في كفتَي الميزان؛ خاصة إذا تدبَّرنا هذه الآية في سياقها، ووصلناها بما قبلها وما بعدها من الآيات.
يقول الله - تعالى -: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْـمِيزَانَ * أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْـمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْـمِيزَانَ} [الرحمن: ٧ - ٩].
يقول الإمام ابن كثير - رحمه الله تعالى -: «{وَوَضَعَ الْـمِيزَانَ} أي: العدل؛ كما قال - سبحانه -: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْـمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: ٥٢]، وهكذا قال ها هنا: {أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْـمِيزَانِ} [الرحمن: 8] أي: خلق السماوات والأرض بالحق والعدل لتكون الأشياء كلها بالعدل، ولهذا قال - سبحانه -: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْـمِيزَانَ} [الرحمن: ٩]، أي: لا تبخسوا الوزن، بل زنوا بالحق والقسط؛ كما قال - سبحانه -: {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْـمُسْتَقِيمِ} [الإسراء: ٥٣][1].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «وكذلك أنزل الله - سبحانه - الميزان في القلوب؛ لمَّا بينت الرسل العدل وما يوزن به عرفت القلوب ذلك؛ فأنزل الله على القلوب من العلم ما تزن به الأمور حتى تعرف التماثل والاختلاف، وتضع من الآلات الحسية ما تحتاج إليه في ذلك، كما وضعت موازين النقدين وغير ذلك. وهذا من وضعه - تعالى - الميزان؛ قال - تعالى -: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْـمِيزَانَ * أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْـمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْـمِيزَانَ} [الرحمن: ٧ - ٩]، وقال أكثر المفسرين: هو العدل، وقال بعضهم: هو ما يوزن به ويعرف العدل، وهما متلازمان»[2].
ويقول سيد قطب - رحمه الله تعالى - عند هذه الآيات: «وإلى جوار هذه العظمة في رفع هذه السماء الهائلة الوسيعة {وَضَعَ الْـمِيزَانَ}: ميزان الحق؛ وضعه ثابتاً راسخاً مستقراً، وضعه لتقدير القيم: قيم الأشخاص والأحداث والأشياء؛ كي لا يختل تقويمها، ولا يضطرب وزنها، ولا تتبع الجهل والغرض والهوى. وضعه في الفطرة، ووضعه في المنهج الإلهي الذي جاءت به الرسالات وتضمنه القرآن؛ {وَوَضَعَ الْـمِيزَانَ * أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْـمِيزَانِ} [الرحمن: ٧ - 8] فتُغالُوا وتُفرِطوا، {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْـمِيزَانَ} [الرحمن: ٩]، ومن ثم يستقر الوزن بالقسط بلا طغيان ولا خسران»[3].
ويقول القاسمي - رحمه الله تعالى - عند هذه الآية: «{وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} أي: الاستقامة في الطريقة، وملازمة حد الفضيلة ونقطة الاعتدال في جميع الأمور وكل القوى»[4].
ويقول الشيخ السعدي - رحمه الله تعالى -: «{وَوَضَعَ الْـمِيزَانَ} أي: العدل بين العباد في الأقوال والأفعال، وليس المراد به الميزان المعروف وحده، بل هو كما ذكرنا يدخل فيه الميزان المعروف، والمكيال الذي تكال به الأشياء، والمقادير والمساحات التي يضبط بها المجهولات، والحقائق التي يفصل فيها بين المخلوقات، ويقام بها العدل بينهم»[5].
ويقول البقاعي – رحمه الله تعالى - في تفسيره لهذه الآية: «{وَوَضَعَ الْـمِيزَانَ} أي: العدل الذي دبَّر به الخافقين؛ من الموازنة وهي: المعادلة لتنظيم أمورنا»[6].
ويقول ابن عاشور – رحمه الله تعالى - في التحرير والتنوير: «والميزان هنا مراد به العدل؛ مثل الذي في قوله - تعالى -: {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْـمِيزَانَ} [الحديد: ٥٢]؛ لأنه الذي وضعه الله - أي: عيَّنه - لإقامة نظام الخلق، فالوضع هنا مستعار للجعل، فهو كالإنزال في قوله: {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْـمِيزَانَ}. ومن ذلك: قول أبي طلحة الأنصاري - رضي الله عنه -: (وإن أحبَّ أموالي إليَّ بيرحاء، وإنها صدقة لله، فضعها يا رسول الله! حيث أراك الله) أي: اجعلها وعيِّنها لما يدُلُّك الله عليه؛ فإطلاق الوضع في الآية بعد ذكر رفع السماء مشاكلة ضدية، وإيهامُ طباق مع قوله: {رَفَعَهَا} ففيه محسِّنان بديعيان.
وقرن ذلك مع رفع السماء تنويهاً بشأن العدل بأن نُسِبَ إلى العالم العلوي، وهو عالم الحق والفضائل، وأنه نزل إلى الأرض من السماء؛ أي: هو مما أمر الله به، ولذلك تكرر ذكر العدل مع ذكر خلق السماء؛ كما في قوله - تعالى -: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْـحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إلاَّ بِالْـحَقِّ} [يونس: ٥]، وقوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إلاَّ بِالْـحَقِّ} [الحجر: ٥٨]، وقوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إلاَّ بِالْـحَقِّ} [الدخان: ٨٣ - ٩٣]. وهذا يصدِّق القول المأثور: (بالعدل قامت السماوات والأرض). وإذ قد كان الأمر بإقامة العدل من أهمِّ ما أوصى الله به إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - قُرن ذكر جعله بذكر خلق السماء، فكأنه قيل: ووضع فيها الميزان... وقوله - تعالى -: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} عطف على جملة {أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْـمِيزَانِ} على احتمال كون المعطوف عليها تفسيرية... والمعنى: اجعلوا العدل ملازماً لما تقوِّمونه من أموركم؛ كما قال - تعالى -: {وَإذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: ٢٥١]، وكما قال: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا} [المائدة: ٨]، فيكون قوله: {بِالْقِسْطِ} ظرفاً مستقراً في موضع الحال، أو الباء للسببية، أي: راعوا في إقامة التمحيص ما يقتضيه العدل»[7].
والآيات التي فيها ذكر الأمر بالقيام بالعدل ووزن الأمور والأشياء به كثيرة؛ من ذلك: قوله - تعالى -: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْـمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: ٥٢]، وقولـه - سبحانه -: {اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْـحَقِّ وَالْـمِيزَانَ} [الشورى: ٧١]، وقوله - عز وجل -: {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْـمُسْتَقِيمِ} [الإسراء: ٥٣].
هذا هو ميزان الله - عز وجل - الذي يجب أن توزن به الأمور والأشياء، وأن يكون هو الحاكم، والمصدر الذي ينطلق منه المسلم في وزنه وتقويمه ومواقفه كلها؛ لأنه الميزان العادل الشامل، المبرأ من الجهل والهــوى والنقــص والظلــم. وأما ما يقوله الناس ويفعلونه ويصطلحون عليه مما يخالف ميزان الله - عز وجل - فلا يجوز بحال أن يُلتفت إليه أو يحسب له حسابٌ؛ لأنه يأتي منصبغاً بصبغة البشر المتمثلة في النقص والجهل والظلم والهوى، ومحدودية الزمان والمكان، والنظرات الجزئية، وفي ذلك يقــول سـيد قطب - رحمه الله -: «فالإنسان لأنه أولاً محدود الكينونة من ناحية الزمان والمكان؛ إذ هو حادث في زمن؛ يبدأ بعد عدم، وينتهي بعد حدوث، ومتحيز في مكان – سواء كان فرداً أو كــان جيلاً أو كان جنساً - لا يوجد إلا في مكان، ولا ينطلق وراء المكان - كما أنه لا يوجد إلا في زمان ولا ينطلق وراء الزمان - ولأنه محدود الكينونة من ناحية العلم والتجربة والإدراك؛ يبدأ علمه بعد حدوثه، ويصل من العلم إلى ما يتناسب مع حدوث كينونته في الزمان والمكان، وحدود وظيفته كذلك.
ولأنه فوق أنه محـدود الكينونة - بهــذه الاعتــبارات كلها - محكوم بضعفه وميله وشهوته ورغبته، فوق ما هو محكوم بقصوره وجهله.
الإنسان وهذه ظروفه حينما يفكر في إنشاء تصور اعتقادي من ذات نفسه، أو في إنشاء منهج للحياة الواقعية من ذات نفسه كذلك؛ يجيء تفكيره محكوماً بهذه السمة التي تحكم كينونته كلها، يجيء تفكيره جزئياً، يصلح لزمان ولا يصلح لآخر، ويصلح لمكان ولا يصلح لآخر، ويصلح لحال ولا يصلح لآخر، ويصلح لمستوى ولا يصلح لآخر.. فوق أنه لا يتناول الأمر الواحد من جميع زواياه وأطرافه، وجميع ملابساته وأطواره، وجميع مقوماته وأسبابه؛ لأن هذه كلها ممتــدة في الــزمان والمكان، وممتدة في الأسباب والعلل، وراء كينــونة الإنسان ذاته، ومجــال إدراكه، وذلك كلــه فــوق ما يعتور هذا التفكير من عوامل الضعف والهوى، وهما سمتان إنسانيتان أصيلتان!»[8].
ويقول أيضاً: «إننا نحسب حساباً لما يقول الناس، ولما يفعل الناس، ولما يملك الناس، ولما يصطلح عليه الناس، ولما يتخذه الناس في واقع حياتهم من قيم واعتبارات وموازين؛ لأننا نغفل أو نسهو عن الأصل الذي يجب أن نرجع إليه في الوزن والقياس والتقويم: إنه منهج الله وشريعته وحكمه؛ فهو وحده الحق، وكل ما يخالفه فهو باطل؛ ولو كان عُرْفَ ملايين الملايين، ولو أقرَّته الأجيال في عشرات القرون!
إنه ليست قيمة أي وضــع، أو أي عـُـرْف، أو أي تقليــد، أو أي قيمة؛ أنه موجود، وأنه واقع، وأن ملايين البشر يعتنقونه، ويعيشون به، ويتخذونه قاعدة حياتهم.. فهذا ميزان لا يعترف به التصور الإسلامي. إنما قيمة أي وضع، وأي عرف، وأي تقليــد، وأية قيمـة؛ أن يكـون لها أصـل في منهـج الله، الذي منه – وحده - تُستمد القيم والموازين»[9].
وبعد هذه المقدمة الإجمالية لخصائص الميزان الإلهي نأتي بذكر بعض مفردات هذه الخصائص التي تُبيِّن عظمة هذه الخصائص وكمالها وعدلها وشمولها. وفي ذكرها بيان لما يضادُّها من الموازين البشرية القاصرة الجاهلة الظالمة المعوجَّة.

فمن خصائص الميزان الإلهي ما يلي:
الخاصية الأولى:
الربانية:
هذه هي الخاصية الكبرى التي تستلزم جميع الخصائص الأخرى التي تنبثق منها؛ لأن خاصية الربانية تتضمن صفات الكمال والجمال والجلال والعدل والحكمة والرحمة واللطف، والتي هي صفات للرب العظيم، الإله الحق، الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى، والذي كل ما في هذا الكون من خلق وتكوين، ومن أمر وشرع؛ فإنما هو مقتضى أسمائه - سبحانه - الحسنى وصفاته العلى.
ووصفنا للميزان الحق بأنه رباني يعني أنه يتَّسم بصفات واضعه - سبحانه - من الكمال، والعدل، والشمول، والتوازن، والثبات، والبراءة من صفات النقص والعيوب؛ قال - سبحانه -: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْـمِيزَانَ}، وقال - سبحانه -: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة: ٨٣١].
الخاصية الثانية:
التوحيد:
وهذه الخاصية هي صلب الميزان الإلهي، وهي من لوازم ربوبية الله - عز وجل -؛ حيث إنه الملــك الحق، الخالق الــرازق، العليــم الحكيم، له الأسماء الحسنى والصفات العلـى، ويلــزم مـن هــذا أن لا تُصْــرف العبادة إلا لــه - سبحــانــه - لا شريك له.
وإذا صح توحيد العبد لربه - سبحانه - وانقاد لأمره، وتبرَّأ من الشرك وأهله، ووالى حزب الله وأولياءه، وتعبَّد لله وحده بأسمائه وصفاته؛ صحَّت حينئذٍ موازينه، وصحَّت معاييره التي يزن بها الناس والأشياء والقيم؛ لأنه ينطلق من توحيده - سبحانه - ويزن كل شيء حسب قُرْبه وبُعْده من التوحيد، وحسب تقواه لله عز وجل.
أمَّا إذا ضعف التوحيد، وقلَّ وازع الدين؛ فإن الموازين المادية تغلب ويكون لها الاعتبار في وزن الأمور، ولا تسأل عندئذ عن اضطراب الموازين، وتناقضها، وظلمها، وقصورها، وانحرافها.
يقول سيد قطب – رحمه الله تعالى - عن خاصية التوحيد وأثرها في الانضباط والاستقامة والعدل في الموازين: «إن التوحيد يُنشئ في العقل والقلب آثاراً منفردة، لا ينشئها تصور آخر؛ كما أنه ينشئ في الحياة الإنسانية مثل هذه الآثار كذلك.
إنه ينشئ في القلب والعــقل حــالة من «الانضــباط» لا تتأرجح معها الصور، ولا تهتز معها القيم، ولا يتميَّع فيها التصور ولا السلوك.
فالذي يتصور الألوهية على هذا النحو، ويدرك حدود العبودية كذلك؛ يتحدَّد اتجاهه، كما يتحدَّد سلوكه، ويعرف على وجه الضبــط والدقــة مــن هــو؟ وما غاية وجــوده؟ وما حدود سلطاته؟ كما يدرك حقيقة كل شيء في هذا الكون، وحقيقة القوة الفاعلة فيه. ومن ثَمَّ يتصور الأشياء ويتعامل معها في حدود مضبوطة، لا تميُّع فيها ولا تأرجح. وانضباط التصور يُنشئ انضباطاً في طبيعة العقل وموازينه، وانضباطاً في طبيعة القلب وقيمه. والتعامل مع سنن الله بعد ذلك والتلقي عنها يزيد هذا الانضباط ويُحْكِمه ويقوِّيه.
ندرك هذا حين نوازن بين المسلم الذي يتعامل مع ربه الواحد الخالق الرازق القادر القاهر المدبر المتصرف، وبين غيره من أصحاب التصورات التي أشرنا إليها؛ سواء من يتعامل مع إلهين متضادين: إله للخير وإله للشر! ومن يتعامل مع إله موجود ولكنه حالٌّ في العدم! ومن يتعامل مع إله (المادة) الذي لا يسمع ولا يبصر ولا يثبت على حال! إلى آخر الركام الذي لا يستقر العقل أو القلب منه على قرار.
وإن هذا التصور لينشئ في القلب والعقل (الاستقامة)؛ فالإنسان الذي يدرك من حقيقة ربه، ومن صفاته، ومن علاقته به ذلك القدر «المضبوط» لا شك يستقيم في التعامل معه بقلبه وعقله، ولا يضطرب ولا يطيش!
والمسلم يعرف من تصوره لربه وعلاقته به ما يحب ربه وما يكره منه، ويستيقن أن لا سبيل له إلى رضاه إلا الإيمان به، ومعرفته بصفاته، والاستقامة على منهجه وطريقته»[10].
الخاصية الثالثة:
الثبات:
وهذه الخاصية منبثقة من الخاصية الكبرى (الربانية)؛ فبما أنه ميــزان ربـانــي، صــادر عن الله عــز وجل، العالِم بما كان وبما يكون، ويستوي عنده الماضي والحاضر والمستقبل؛ فإنه ميزان ثابت لا يتغير بتغير الزمان والمكان، ولا يضطرب ولا يتناقض. ودور العقل البشري إزاء هذا الميزان هو التلقِّي والاستجابة والتطبيق في واقع الحياة. وتظل التغيرات في الحياة وأشكال الأوضاع في ظواهر الحياة محكومة بالمقومات والقيم الثابتة لهذا الميزان الثابت، وتكون الحركة داخل إطار ثابت حول محور ثابت.
وهذه الخاصية في هذا الميزان هي التي تضمن ثبات المبادئ والقيم والأخلاق مهما تغيَّر الزمان والمكان، وهي التي تبث الطمأنينة في الضمير السليم في المجتمع السليم؛ لأن الطمأنينة إلى ثبات هذا الميزان هي التي تضمن الراحة النفسية للفرد، وتضمن للمجتمع الإسلامي مبادئ وموازين ثابتة يتحاكم إليها هو وحكامه على السواء؛ فلا تناقض في الميزان، ولا معايير مختلفة تحكمها الأهواء.
وثبات هذا الميزان ينشأ من أن هناك حالتين اثنتين للحياة البشرية، ولا علاقة بالزمان أو المكان في تقدير هاتين الحالتين، بل هما ثابتتان في كل زمان ومكان؛ لأنهما في ميزان الله ثابتتان لا تتغيران. وهاتان الحالتان تتعاوران في الحياة البشرية على مدى الزمان واختلاف المكان: حالة الهدى وحالة الضلال مهما تنوَّعت ألوان الضلال؛ حالة الحق وحالة الباطل مهما تنوَّعت ألوان الباطل؛ حالة النور وحالة الظلام مهما تنوَّعت ألوان الظلام؛ حالة الكفر وحالة الإيمان مهما تنوَّعت ألوان الكفر. والانطلاق من هاتين الحالتين الثابتتين وما يتولد عنهما من الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة هو الميزان الثابت الذي تُحاكم إليه أحوالُ البشر ومواقفهم وقيمهم وتقديراتهم[11].
والحمد لله الذي هدانا لهذا الميزان الثابت الحق العدل، الذي أنزله الله - عز وجل - على عباده: {اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْـحَقِّ وَالْـمِيزَانَ} [الشورى: ٧١]، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: ٢٨].
يقول سيد قطب - رحمه الله تعالى -: «وإذا كانت التصورات والمذاهب والأنظمة التي يضعها البشر لأنفسهم - في معزل عن هدى الله - تحتاج دائماً إلى التطور في أصولها، والتحور في قواعدها، والانقلاب أحياناً عليها كلها حين تضيق عن البشرية في حجمها المتطور! وفي حاجاتها المتطورة... إذا كانت تلك التصورات والمذاهب والأنظمة التي هي من صنع البشر تتعرَّض لهذا وتحتاج إليه فذلك لأنها من صنع البشــر! البشــر القِصَــار النظر! الــذين لا يــرون إلا ما هو مكشوف لهم من الأحوال والأوضاع والحاجات في فترة محدودة من الزمان، وفي قطاع خاص من الأرض... رؤية فيها – مع هذا - قصور الإنسان، وجهل الإنسان، وشهوات الإنسان، وتأثرات الإنسان.
أما التصور الإسلامي - بربانيته - فهو يخالف في أصل تكوينه، وفي خصائصه تلك التصورات البشرية، ومــن ثَــمَّ لا يحتاج - في ذاته - إلى التطور والتغير، فالذي وضعه يرى بلا حدود من الزمان والمكان، ويعلم بلا عوائق من الجهل والقصور، ويختار بلا تأثير من الشهوات والانفعالات. ومن ثم يضع للكينونة البشرية كلها، في جميع أزمانها وأطوارها أصلاً ثابتاً تتطور هي في حدوده وترتقي، وتنمو وتتقدم دون أن تحتك بجدران هذا الإطار!... وهو – من ثم - كامل متكامل، لا يقبل تنمية ولا تكميلاً، كما لا يقبل «قطع غيار» من خارجه؛ فهو من صنعة الله، فلا يتناسق معه ما هو من صنعة غيــره. والإنسـان لا يملــك أن يضيــف إليــه شيئاً، ولا يملك أن يُعدِّل فيه شيئاً؛ إنما هو جاء ليضيف إلى الإنسان، لينمِّيه ويعدِّله ويطوِّره ويدفع به دائماً إلى الأمام؛ جاء ليضيف إلى قلبه وعقله، وإلى حياته وواقعه، جاء ليوقظ كل طاقات الإنسان واستعداداته، ويطلقها تعمل في إيجابية كاملة، وفي ضبط كذلك وهداية، وتؤتي أقصى ثمراتها الطيبة، مصونة من التبدد في غير ميدانها، ومن التعطل عن إبراز مكنونها، ومن الانحراف عن طبيعتها ووجهتها، ومن الفساد بأيٍّ من عوامل الفساد»[12].
الخاصية الرابعة:
خاصية الشمول والتوازن:
ويقال هنا أيضاً ما قيل في الخصائص السابقة؛ فما دام أنه ميزان رباني المصدر فلا جرم يقال هنا أيضاً: إنه ميزان شامل لكل نواحي الكينونة البشرية، ولكل نواحي الحياة، وهو شمول متوازن، عدل لا يطغى فيه جانب على جانب، وسط بين الإفراط والتفريط؛ ذلك لأنه من الله العليم الرحيم الخبير اللطيف الحكيم القوي العزيز، الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى.
يقول سيد قطب – رحمه الله تعالى -: «وهو - من ثَمَّ - شامل، متوازن، منظور فيه إلى كل جوانب الكينونة البشرية أولاً، ومنظور فيه إلى توازن هذه الجوانب وتناسقها أخيراً، ومنظور فيه كذلك إلى جميع أطوار الجنس البشري، وإلى توازن هذه الأطوار جميعاً؛ بما أن منزله هو صانع هذا الإنسان: الذي خلق، والذي يعلم من خلق، وهو اللطيف الخبير. فليس أمامه - سبحانه - مجهول بعيد عن آفاق النظر من حياة هذا الجنس، ومن كل الملابسات التي تحيط بهذه الحياة.. ومن ثم فقد وضع له التصور الصحيح الشامل لكل جوانب كينونته، ولكل أطوار حياته.. المتوازن مع كل جوانب كينونته، ومع كل أطوار حياته.. الواقعي المتناسق مع كينونته ومع كل ظروف حياته.
وهو - من ثَمَّ - الميزان الوحيد الذي يرجع إليه الإنسان في كل مكان، وفي كل زمان، بتصوراته وقيمه، ومناهجه ونظمه، وأوضاعه وأحواله، وأخلاقه وأعماله.. ليعلم أين هو من الحق، وأين هو من الله. وليس هناك ميزان آخر يرجع إليه، وليس هناك مقررات سابقة ولا مقررات لاحقة يرجع إليها في هذا الشأن .. إنما هو يتلقى قيمه وموازينه من هذا التصور، ويكيِّف بها عقله وقلبه، ويطبــع بها شعـوره وسلوكه، ويرجع في كل أمر يعرض له إلى ذلك الميزان: {فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: ٩٥]»[13].
ويقول في موطن آخر: «لا يمكن أن تجيء فكرة بشرية، ولا أن يجيء منهج من صنع البشرية يتمثل فيه (الشمول) أبداً... إنما هو تفكير جزئي، وتفكير وقتي، ومن جزئيته يقع النقص، ومن وقتيته يقع الاضطراب الذي يُحتِّم التغيير. ويتمثل في الأفكار التي استقل البشر بصنعها، وفي المناهج التي استقل البشر بوضعها دوام (التناقض) أو دوام (الجدل).
... فأما حين يتولى الله - سبحانه - ذلك كله فإن التصور الاعتقادي، وكذلك المنهج الحيوي المنبثق منه، يجيئان بريئين من كل ما يعتور الصنعة البشرية من القصور والنقص والضعف والتفاوت... وهكذا كان (الشمول) خاصية من خصائص الميزان الإلهي»[14].
الخاصية الخامسة:
اعتبار الإيمان باليوم الآخر:
إن الانطلاق من الإيمان باليوم الآخر ليُعَدُّ من أبرز سِمَات الميزان الإلهي؛ وذلك لما لعقيدة اليوم الآخر من أثر في وزن الناس والقيم والأغراض والربح والخسارة والتكريم والإهانة، وغير ذلك.
وإذا أردنا الوقوف على آثار الإيمان باليوم الآخر في تصحيح الموازين وانضباطها ودقتها وعدلها فلننظر إلى شخصين؛ أحدهما: قد استقر اليقين باليوم الآخر في قلبه، وظهر ذلك في أقواله وأعماله وأحواله، والآخر: لا يؤمن باليوم الآخر من الكفرة والمشركين، أو كان غافلاً عن ذلك كحال أكثر المسلمين اليوم. ثم نقارن بينهما في وزنهما للأمور، وحكمهما على الأشياء، ومواقفهما وأحوالهما؛ فإننا سنجد عند المقارنة البون الشاسع، والتباين الكبير في موازينهما ومواقفهما وانضباطهما واستقامتهما.
يقول سيد قطب - رحمه الله تعالى -: «والغفلة عن الآخرة تجعل كل مقاييس الغافلين تختل، وتؤرجح في أكفهم ميزان القيم؛ فلا يملكون تصور الحياة وأحداثها وقيمها تصوراً صحيحاً، ويظل علمهم بها ظاهراً سطحياً ناقصاً؛ لأن حساب الآخرة في ضمير الإنسان يغير نظرته لكل ما يقع في هذه الأرض، فحياته على الأرض إن هي إلا مرحلة قصيرة من رحلته الطويلة في الكون، ونصيبه في هذه الأرض إن هو إلا قدر زهيد من نصيبه الضخم في الوجود، والأحداث والأحوال التي تتم في هذه الأرض إن هي إلا فصل صغير من الرواية الكبيرة، ولا ينبغي أن يبني الإنسان حكمه على مرحلة قصيرة من الرحلة الطويلة، وقدر زهيد من النصيب الضخم، وفصل صغير من الرواية الكبيرة!
ومن ثَمَّ لا يلتقي إنسان يؤمن بالآخرة ويحسب حسابها، مع آخر يعيش لهذه الدنيا وحــدهــا ولا ينتظــر ما وراءهـا؛ لا يلتقي هذا وذاك في تقدير أمر واحد من أمور هذه الحياة، ولا قيمة واحدة من قيمها الكثيرة، ولا يتفقان في حكم واحد على حادث أو حالة أو شأن من الشؤون؛ فلكل منهما ميزان، ولكل منهما زاوية للنظر، ولكل منهما ضوء يرى عليه الأشياء والأحداث والقيم والأحوال. هذا يرى ظاهراً من الحياة الدنيا، وذلك يدرك ما وراء الظاهر من روابط وسنن، ونواميس شاملة للظاهر والباطن، والغيب والشهادة، والدنيا والآخرة، والموت والحياة، والماضي والحاضر والمستقبل، وعالم الناس والعالم الأكبر الذي يشمل الأحياء وغير الأحياء»[15].


[1] تفسير ابن كثير، 4/270.
[2] الرد على المنطقيين، 1/384.
[3] في ظلال القرآن: 6/3449.
[4] محاسن التأويل: 15/282.
[5] تفسير السعدي: 5/148.
[6] تفسير البقاعي: 19/148.
[7] التحرير والتنوير: 13/238-240 (باختصار).
[8] خصائص التصور الإسلامي، ص 155، 154.
[9] في ظلال القرآن: 2/920.
[10] خصائص التصور الإسلامي، ص 327،326 (بتصرف يسير).
[11] انظر: خصائص التصور الإسلامي، ص67.
[12] خصائص التصور الإسلامي ، ص66-68 (باختصار وتصرف يسير).
[13] خصائص التصور الإسلامي ، ص 69،68.
[14] المصدر السابق، ص 156،155 (باختصار وتصرف يسير).
[15] في ظلال القرآن، 5/2759.
.مجلة البيان
أضافة تعليق