عندما نتأمل سورة الحشر المدنية، والتي نزلت بعد سورة البينة، والمسماة أيضا بسورة بني النظير لحديثها عن هذه الغزوة المباركة ،ونتدبر آياتها الأربع والعشرين، والتي تبتدأ وتنتهي بتسبيح الله تعالى نجد أن صورة الماضي في عهد النبوة والرسالة، إبان الصراع مع اليهود، تشبه صورة واقعنا الحالي، إذ يقول الله سبحانه وتعالى: “هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر، ما ظننتم أن يخرجوا و ظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله، فآتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ،و قذف في قلوبهم الرعب، يخربون بيوتهم بأيديهم و أيدي المؤمنين، فاعتبروا يا أولي الأبصار” ومن خلال هذه الآيات وما بعدها، نقف على ثلاثة مشاهد رئيسية تصل الماضي بالحاضر، وتجعلنا نستشرف مستقبلا للدعوة زاهرا.
المشهد الأول: الدعوة للتوكل على الله، فالله ناصر المؤمنين.
ففي الآية أعلاه إخبار من الله سبحانه وتعالى أنه هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب أي يهود بني النضير من ديارهم لأول الحشر. ويضيف سبحانه بأن المسلمين ما كانوا يظنون أنهم سيخرجون لما كان لهم من عدد ومدد، وما كان عليه المسلمون من قلة الأموال والرجال، واليهود كانوا يظنون أن حصونهم المنيعة سوف تمنعهم من المؤمنين، هكذا كان المشهد آنذاك، وكذلك هو اليوم حال المسلمين المتخلفين في كل ميدان، العالة على موائد الإحسان، لا يظنون أن اليهود سيخرجون من فلسطين المغتصبة، المشرد أهلها في مخيمات الشتات، وكذلك الصهاينة اليوم يحصنون أنفسهم بالجدران العازلة والبوابات الإلكترونية والقبة الحديدية. ولكن المعتبرين أولي الأبصار من المسلمين يوقنون بنصر الله. فهو الذي سيخرجهم وسيهزمهم بالمؤمنين من عباده، وسوف “يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ” لأن الله سبحانه وتعالى “قذف في قلوبهم الرعب “، وترسيخا لليقين في القلوب، وزع الله تعالى فيئهم ولم يستثننا من هذا الفيء، قسم للمهاجرين وقسم للأنصار ولنا الدعاء الرابط بهم “ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم “. هذا مشهد أول في هذه السورة المبشرة.
المشهد الثاني: الدعوة للتخلي عن خصال المنافقين، فالله لا يهدي كيد الخائنين.
يتجلى في قول الله سبحانه وتعالى: “ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن اخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا ابدا، وإن قوتلتم لننصرنكم، والله يشهد إنهم لكاذبون “
يسرد لنا الله سبحانه عز وجل وعد المنافقين لإخوانهم يهود بني النضير بالخروج والقتال معهم ونصرهم ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين، ولكن الله يشهد بأنهم كاذبون. “ومن أصدق من الله قيلا“، وكذلك اليوم المنافقون من بني جلدتنا، الذين أخلدوا إلى الأرض واتخذوا أهواءهم والعجل الذهبي من دون الله آلهة، يتحالفون مع الكيان الصهيوني، في حين نجد المؤمنين يوقنون بأنهم كاذبين وهذا يأتي من اليقين في قوله سبحانه وتعالى:” لأ نتم أشد رهبة في صدورهم من الله، ذلك بأنهم قوم لا يفقهون. لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر، بأسهم بينهم شديد، تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى، ذلك بأنهم قوم لا يعقلون “، وكذلك اليوم المسلمون -مع تشرذمهم واستضعافهم – أشد رهبة في قلوب المنافقين وإخوانهم الصهاينة لأن قلوبهم حقا شتى، ويضرب الله لنا سبحانه وتعالى الأمثال للعبرة:” كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم. كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر، فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين “.
المشهد الأخير: الدعوة للزوم تقوى الله، فالغلبة للأتقى لا للأقوى.
وفي المشهد الأخير وبعد إخبارنا بعاقبة الظالمين، يوجه الله سبحانه وتعالى عز وجل نداءه للمؤمنين: ” يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد، واتقوا الله، إن الله خبير بما تعملون. ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، أولئك هم الفاسقون. لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة، أصحاب الجنة هم الفائزون “، هنا يبين الله سبحانه وتعالى للمؤمنين أسباب النصر ألا وهي التقوى والاستعداد ليوم المعاد. وتكرار الأمر بالتقوى إنما هو لتبيان مدى أهميتها. لأنه سبحانه عز وجل خبير بما يعمل كل خلقه. كما يأمر المؤمنين بعدم الغفلة لأن الذي ينسى الله ينسيه الله نفسه فيكون من الفاسقين. وأما الذاكر لله والمتوكل عليه فهو من أصحاب الجنة الفائزين.
على سبيل الختم:
يبين الله تعالى في ختام السورة قدر القرآن العظيم بحيث لو نزل على جبل لخشع وتصدع من خشية الله، كما يذكرنا بقدرته سبحانه وتعالى من خلال أسمائه الحسنى: ” هو الله الذي لا إله إلا هو، عالم الغيب والشهادة، هو الرحمن الرحيم. هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر، سبحان الله عما يشركون. هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى، يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ” أسماء تخبرنا بأن الله هو المتصرف في كونه وخلقه. “وما النصر إلا من عند الله “
*نقلاً عن موقع منار الإسلام للأبحاث والدراسات*