عند صناعة أي قرار إنساني أو سياسي، فإن الفرد يُخضِعُ حساباته غالباً إلى منطق عقلاني يربط من خلاله الوسائل بالأهداف، وبمقتضى ذلك يُرجّحُ استراتيجيات الربح والخسارة. ولأن الفرد، كأي كائن حي آخر، محكوم بالقانون الطبيعي لغريزة البقاء، فإنه يبني وسائله وخياراته الاستراتيجية وفق التفضيلات التي تُعظم من فرص بقائه وعائلته على قيد الحياة. ومن هذا المنطلق، فإن أعظم خسارة تكلفةً من منظور الفرد الشخصي ستكون في تلك الحالات التي سيُعرّضُ نفسه أو حياة أسرته وأطفاله إلى أخطار الموت أو تدمير ممتلكاته واستلاب مدخراته الشخصية. وهو الحال في الحروب الحديثة التي تكون تَكلُفتها الإنسانية والمادية مدمرة للغاية، ويغدو فيها كل شيء مباحاً من إراقة للدماء، وإزهاق للأرواح، واغتيال للأطفال، وتثكيل للنساء، واستباحة للأموال، وتدمير للبيوت، وتهجير للسكان. وبسبب كوارث ووحشية هذه الحروب الحديثة، أصبح القرار السياسي العقلاني الرشيد هو الذي يكرس الوسائل والآليات المناسبة لخدمة أهداف تعظيم الفرص الطبيعية لبقاء الإنسان على قيد الحياة، وتحسين مستوى معيشته، ووضع الترتيبات التنظيمية المناسبة التي تصون حق الإنسان في الحفاظ على حياته الشخصية وحياة أطفاله وحماية ممتلكاته وأغراضه الخاصة. والوسيلة المناسبة والسبيل المثلى لتحقيق هذا الهدف أن يتجنب صانع القرار الضعيف الذي يمتلك موارد عسكرية واقتصادية محدودة وغير كافية وفعالة، الانخراط في أي صراع عسكري متوقع أن يكون تكلفته باهظة ودامية وتدميرية على أفراد مجتمعه، لا سيما إذا أخذنا بالاعتبار أن القرارات السياسية غالباً ما يصنعها فرد أو مجموعة، ولكن ثمنها المدفوع غالباً ما يكون من دماء وأشلاء قطاع عريض من الأطفال والأبرياء الذين لم يستشرهم أحد في قرارات مصيرية قد تكلفهم حياتهم وكل مقومات عيشهم الكريم. وتزداد احتمالات اتخاذ هذه القرارات المكلفة على الشعوب عندما تكون الأطراف المتفاعلة متطرفة ودوغمائية، فتتفاوض طبقاً لقواعد غير عقلانية بسبب تحكم حسابات اللعبة الصفرية في تداولاتها ومخرجات قراراتها. وعلى الرغم من أن كل المجتمعات الإنسانية لا تخلو من وجود عقلاء وحكماء بما في ذلك داخل النظم السياسية النازية والفاشية، بل حتى الإسرائيلية، فإن حضور صوتها غالباً ما يكون هشاً وضعيفاً، وبالكاد تكون مسموعة بسبب غياب الشروط الاجتماعية والموضوعية داخلياً وخارجياً التي تُحسّنُ من تعظيم فرص انتخابهم وإدارتهم السياسية للمجتمع. وغياب هذه الأصوات المعتدلة عادة ما يعزز من فرص أصوات الأطراف المتطرفة والمؤدلجة التي تتفاوض وفق معادلات اللعبة الصفرية، معتقدة أن تعظيم مكاسب وأرباح أي طرف لا يكون إلا بالإلغاء الكامل للطرف الآخر وعلى حساب الخسارة الكلية للخصم.
دلالة هذه اللعبة الصفرية في المأساة الإنسانية التي نشهدها في غزة يمكن النظر إليها من خلال القوى الأربع التي تتحكم بإدارة وشروط وقوانين ومخرجات هذه اللعبة والتي جعلت من توقعات هذه الحرب حتمية: اللاعب الأول فيها هو الحكومة الائتلافية اليمينية والعنصرية التي هي أكثر تديناً وتطرفاً في التاريخ الإسرائيلي برئاسة نتنياهو المتهم جنائياً بخيانة الأمانة، وقبول الرشى، والكذب والاحتيال. فقد جمعت حكومة نتنياهو الائتلافية طيفاً واسعاً من الأحزاب الصهيونية المتطرفة، منها على سبيل المثال لا الحصر: حزب «الليكود»، و«شاس»، والحزب الصهيوني الديني، وحزب القوة اليهودية بقيادة الإرهابي إيتمار بن غفير اليميني العنصري المنتمي لحركة «كاخ» التي تصنفها إسرائيل كمنظمة إرهابية والتي تقوم عقيدتها السياسية على عنصرين: تهجير السكان العرب خارج فلسطين، وتوسيع الكيان الصهيوني إلى حدودها التاريخية. وتجدر الإشارة إلى أن بن غفير العنصري قُدّمت ضده أكثر من خمسين لائحة دعاوى جنائية من السكان العرب بسبب خطاباته التي تشجع على الكراهية وممارساته العنصرية. وعلى الرغم من سجله العنصري والإجرامي عينه نتنياهو وزيراً للأمن القومي الإسرائيلي. ولا يقل وزير المالية سموتريش في هذه الحكومة تطرفاً عن بن غفير، الذي أنكر بدوره أي وجود للشعب الفلسطيني. وبسبب هذا الخطاب الإقصائي والممارسات العنصرية الممنهجة لهذه الحكومة، وصفت صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية في عام 2022 فوز حكومة نتنياهو بأنه «يوم أسود في تاريخ إسرائيل»، بل إن الإرهابي إيجال عامير الذي اغتال عرّاب اتفاقيات السلام رئيس الوزراء إسحاق رابين مبرراً حينها قتله بأن الأخير كان منفتحاً لمبادرات السلام مع الفلسطينيين والعرب، وهو الأمر الذي اعتقد عامير أنه يناقض تعاليم التوراة؛ كان متأثراً ومُلهماً بالعقائد السياسية لبعض الأحزاب اليمينية المكونة لهذه الحكومة. وقد تبنى نتنياهو وأعضاء حكومته الائتلافية بشكل رسمي نفس المنطلقات الدينية والآيديولوجية لعامير وبن غفير وسموتريش. وظهر ذلك جلياً في الخطاب الرسمي للحكومة الموجه ضد العرب والفلسطينيين، والتحذير من المتغيرات الديموغرافية التي تصب مستقبلاً في مصلحة العرب، وبرزت أيضاً في الممارسات السياسية التي استهدفت تصفية القضية الفلسطينية، ورفض مبادرات السلام وحل الدولتين، وضم الجولان والقدس بشكل نهائي، وتوسيع المستوطنات، والسماح للمستوطنين بترويع وقتل المدنيين الفلسطينيين، وتكثيف الحصار والضغط على سكان غزة. والأهم من كل ذلك، التهميش المتعمد لحكومة نتنياهو للأصوات العقلانية والمعتدلة للحكومة الشرعية لعباس ورفض التفاوض معها، بل وصل الغرور والتبجح إلى أبعد من ذلك، حينما طالب نتنياهو بضرورة حرمان الفلسطينيين من حق استخدام «الفيتو» ضد نيات عقد مشاريع اتفاقيات السلام مع المحيط العربي في الخطاب الذي ألقاه في الأمم المتحدة. وكل تلك الخطوات توحي بأن العقيدة المُوجهة لحكومة نتنياهو الائتلافية تقوم على منطق الإقصاء والحسابات الصفرية مع المجتمع الفلسطيني، وصراع استحواذ كل شيء مقابل خسارة الخصم لكل شيء؛ أي منطق صراع الوجود لا صراع الحدود.
أما اللاعب الآخر المقابل للاعب الأول في طاولة اللعبة الصفرية، فهو حركة «حماس» التي يُنظرُ إليها بوصفها لاعباً عقائدياً مهماً في هذا الصراع الدموي. فمن المعلوم يقيناً أن حركة «حماس» في علاقة صفرية مع منظمة «فتح» التي تؤمن بأن السلام خيار استراتيجي، وأن الصراع مع إسرائيل هو صراع حدود لا صراع وجود، وذلك على النقيض مع التوجهات العقائدية والآيديولوجيا السياسية لـ«حماس». وهو الأمر الذي أفضى لانقسام سياسي حاد بين أهم اللاعبين الفلسطينيين، وإلى تمزيق وتشتيت للقضية المركزية عند العرب. فحركة «حماس» تُعرّف نفسها بالمادة الثانية من ميثاقها بأنها أحد فروع حركة «الإخوان المسلمين». كما أنها تتحرك ضمن العقيدة الإقصائية التي تؤمن بأن الصراع مع إسرائيل هو عبارة عن صراع وجود، ونفي ونفي كلي مضاد للآخر من منطلق أن فلسطين وقف إسلامي مقدس «لا يمكن أن يتخلى عنها أحد» وفق المادة (11). وهذا الاعتقاد دفع الحركة إلى التأكيد في مادتها (13) إلى رفض «التوصل إلى أي تسوية عن طريق التفاوض؛ لأن الجهاد هو الجواب الوحيد»، لحل هذا الصراع. ورغم أن الحركة هي الطرف الأضعف في هذه اللعبة الصفرية من حيث القوة المادية والعتاد العسكري، ولا تمتلك الوسائل المادية الفعالة لتحقيق أهدافها الخاصة، فإنها تبدو بأنها لا تلقي بالاً بحجم التكاليف الإنسانية الباهظة المتوقعة من دخولها في صراع مفتوح مع حكومة يمينية عنصرية تتفوق عليها من حيث الأسلحة الاستراتيجية والدعم الدولي، علاوة على تحرر هذه الحكومة العنصرية من كل القيود الأخلاقية والقوانين الدولية التي تَحدُ من استهدافها للأطفال والأبرياء وقصف المنشآت المدنية والمدارس والمستشفيات. ولذلك فإن النشوة المؤقتة لحركة «حماس» في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) كانت سلوكاً غير عقلاني، ومغامرة طائشة وغير محسوبة ليقين قيادات «حماس» بأن تكلفة وعواقب ردود فعل الحكومة الإسرائيلية المتطرفة عقائدياً سيكون باهظاً ووخيماً على سكان غزة الأبرياء، وسيكون الثمن المدفوع هو دماء أطفال بريئة، وأشلاء شهداء مدنيين، ويقينها كذلك بأن تكلفة هذه الحرب الوحشية سوف تستثني قيادات «حماس» السياسية التي تعيش في الخارج. وفي هذا الصدد أشار الإعلامي عبد الرحمن الراشد إلى أن سلوك «حماس» لم يكن عقلانياً ورشيداً على الإطلاق؛ لأن قياداتها كانت تدرك بشكل مسبق أن «مصر لن تشن حرباً، والسعودية والكويت والعراق لن تقطع البترول والغاز، وأبو مازن لن يلغي (أوسلو)، وعشائر الأردن لن تعبر النهر، و(حزب الله) سيعض على بيروت، وما تبقى من الدول الاثنتين والعشرين العربية لن يفعل شيئاً». وأضيف إليه كذلك أن الضفة الغربية الجار الأقرب ستظل عاجزة ومكبلة ومشلولة عن تقديم الدعم والعون العسكري لإخوتهم وأقاربهم وعشائرهم في غزة عند نشوب الحرب.
كما يتضح السلوك اللاعقلاني لحركة «حماس» أيضاً في القيام ببعض الحسابات الخاطئة التي أسهمت في تضخيم فرص صعود اليمين المتطرف الإسرائيلي، وتقويض شرعية الأصوات المعتدلة فيها، كما أدت إلى تكريس الانقسام الفلسطيني بالداخل، وتبديد الدعم العربي في الخارج. فحركة «حماس» كما تبدو لبعض المحللين لا تختلف كثيراً عن «حزب الله» من حيث اعتبارها مجرد أداة وظيفية تعمل لخدمة أجندات السياسة الخارجية الإيرانية المعادية لاستقرار الدول العربية وتوازن القوى في المنطقة، وأن أنشطتها العسكرية، بشكل واعٍ أو لا واعٍ، مكرسة لخدمة أهداف المشروع الإيراني. أضف إلى ذلك أن الجناح العسكري لـ«حماس» قام في بعض الأحيان بافتعال مغامرات عسكرية في الأوقات التي كانت تعاني فيها حكومة نتنياهو من أزمات وصراعات داخلية حادة، وانقسام سياسي بين أجنحتها الائتلافية، وكادت توشك في بعض الأحيان على السقوط. فمثلاً، تزامنت أحداث السابع من أكتوبر مع مظاهرات مليونية غير مسبوقة في إسرائيل، استمرت لأكثر من شهرين، مطالبة بإسقاط مشروع الإصلاح القضائي المقترح من حكومة نتنياهو، وتطورت تلك المطالبة لاحقاً إلى المناداة بمحاكمته بتهم تتعلق بالفساد وخيانة الأمانة. وبسبب هذه المظاهرات أدرج الصحافي الأميركي اليهودي الشهير توماس فريدمان بالثالث من أكتوبر في مقاله بصحيفة «النيويورك تايمز» نتنياهو مع بوتين وكيم وترمب في قائمة الأربعة قادة المستبدين بالعالم والذين يشكلون من منظوره تهديداً للسلم والأمن الدوليين. بيد أن المفارقة المثيرة للسخرية أن عمليات السابع من أكتوبر كانت قد أدت إلى إعادة توحيد الصف الإسرائيلي ضد غزة، بمثابة قارب نجاة لنتنياهو وحكومته المتطرفة. وعلى غرار نفس المثال السابق، في انتخابات 2006 وعندما كانت كفة الميزان تميل لفوز المرشح اليساري شيمعون بيريز شريك رابين في اتفاقيات السلام، تبنّت حركة «حماس» حينها تفجيرات داخل إسرائيل أفضت إلى مقتل 32 إسرائيلياً. وأسهم هذا الفعل غير المدروس أيضاً في تغيير النتيجة لمصلحة نتنياهو الذي كان قد دخل حلبة المنافسة الانتخابية ببرنامج سياسي مناهض لاتفاقيات السلام. وتكرار هذا النمط من السلوك الحمساوي كان مثيراً للجدل، وأسهم في فتح الباب واسعاً أمام نظريات المؤامرة التي أشارت إلى تماثل العقيدة السياسية التي تجمع بين «حماس» واليمين الإسرائيلي المتطرف من حيث الإيمان بأن الصراع هو صراع وجود لا صراع حدود، علاوة على الإشارة إلى أن ثمة تواطؤاً ضمنياً مشتركاً بين «حماس» ونتنياهو لتدمير كل مشاريع السلام، وهو الهدف الذي يتفق عليه كلا الخصمين في ترتيب قواعد اللعبة الصفرية.
وفي هذا الصدد نشر الصحافي الإسرائيلي ديمتري شومسكي في صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية بعد أربعة أيام من دخول «حماس» إلى إسرائيل مقالاً بعنوان «لماذا يريد نتنياهو أن يقوي (حماس)؟». في هذا المقال أشار شومسكي إلى أن نتنياهو يؤمن بضرورة تعزيز قوة «حماس» على حساب السلطة الفلسطينية؛ لأن إدامة الصدع بين «حماس» في غزة والسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية من شأنه أن يبقي الشلل الدبلوماسي إلى الأبد، وبالتالي يرفع الضغوط والإحراجات الدولية التي تُرغم نتنياهو على تقسيم إسرائيل إلى دولتين. ودلّل الكاتب على ذلك بأن نتنياهو أعطى موافقته لدولة قطر بأن تقوم بتحويل مبلغ مليار دولار إلى غزة شريطة أن يذهب نصفها إلى جناحها العسكري. واستنتج الصحافي وفق هذا التحليل أن استراتيجية نتنياهو كانت قد حولت «حماس» إلى شريك، وعباس إلى عدو. وتم إعادة نشر بعض ما سبق في صحيفتي «فوكس» و«جيروزلم بوست». وقد عزّز من انتشار نظرية المؤامرة أيضاً أوامر الحكومة الإسرائيلية، باقتراح من وزير المالية المتطرف سموتريش، بإعادة الانتشار الأمني الإسرائيلي على حدود غزة ونقل معظم الجنود المرابطين فيها إلى الضفة الغربية لحماية المستوطنات هناك، مما ترك غلاف غزة مفتوحاً لارتكاب أعمال السابع من أكتوبر. ناهيك بأن السيناريوهات التي أخرجها الجهاز الإعلامي لـ«حماس» من خلال نشر المقاطع المرئية التي وثَّقت أَسر واستهداف المدنيين بشكل غير مسبوق، ساهمت في شيوع نظرية المؤامرة. فهذا الإخراج الفني غير العقلاني لـ«حماس» أسهم بشكل كبير في دفع جهاز الإعلام الغربي إلى تبني وتسويق نمط السردية الإسرائيلية التي صورت بدهاء ومكر شديدين سلوك «حماس» داخل منظومة الأعمال الداعشية، أو ضمن نطاق الأحداث الدموية للحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، وفي بعض الأحيان تشبيه سلوكها بـ«الهولوكوست» النازية؛ لما لهذه الأفلام المرئية والسرديات الدرامية والأحداث التراجيدية التي رافقتها من تداعيات وتأثيرات نفسية عميقة على الوعي التاريخي والوجداني للمتلقي والمشاهد الغربي، رغم أن الإجرام الإسرائيلي هو الأكثر بشاعة وبربرية ووحشية ودموية على الإطلاق. وعلى الرغم من أني ضد كل نظريات المؤامرة المذكورة ولا أميل لها على الإطلاق، فإن بعض الأفعال اللاعقلانية لـ«حماس» كانت قد شجعت على شيوع وانتشار مثل هذه الشطحات الإعلامية، وعلى ردود الفعل السلبية الدولية المناهضة للحركة. والأهم من ذلك كله، تشويه المطالب المشروعة لأهل غزة. وسنتحدث في المقال القادم عن اللاعبين الآخرين في هذه اللعبة الصفرية، وللحديث بقية.
*نقلاً عن صحيفة الشرق الأوسط*