إن المتأمل في كثير من آي القرآن العظيم وأقوال نبينا الكريم، صلى الله عليه وسلم، يلمح أن حياة المسلم تمتد، في حركتها ونشاطها، بين فعلين هما، افعل ولا تفعل، أي أنها تقع بين الأمر والنهي، قال تعالى:(وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) الحشر:7.
كذلك جاء في صحيح مسلم، قوله، صلى الله عليه وسلم: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم).
وعلى المسلم أن يسعى ويجتهد في استغلال هذه المساحة المتاحة له، وأن يعمل بجد وإخلاص، وعلى قدر طاقته وإمكاناته، في هذا المجال الذي يقع بين الفعلين، غير أن هناك ملاحظة جديرة بالاهتمام، وهي أن الاجتهاد في مساحة افعل واسعة وفيها الكثير من البراح، بينما تكاد لا توجد فسحة في مجال النهي (لا تفعل)، فالفعل المستخدم في الآية (فَانْتَهُوا)، وفي الحديث (فاجتنبوه)، وكلاهما يدل على الصرامة الشديدة في المنع والتحريم، أي أنه لا يوجد أدنى قدر من المسامحة أو السماح باقتراف الأمور المنهي عنها أو حتى مجرد مقاربتها، وفي هذا دلالة واضحة وبينة على قوة المنع، وقد استخدم هذا الأمر بالنهي في عدة مواضع تتعلق بمنع وتحريم اكتساب الأموال من وجوه غير شرعية:
1. ينهانا الإسلام عن أن نأكل أموالنا بالباطل، ويمنعنا ومن اكتسابها من غير وجه حق، قال تعالى:
(وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) البقرة: 188.
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) البقرة: 174.
2. وأيضًا تحرم قوانين الشريعة الإسلامية أكل أموال اليتامى، قال تعالى:
(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) النساء:10.
3. وقد غلظت التشريعات في الإسلام من تحريم التكسب من الخمر، الميسر، …، وهي من أكبر الرزائل المدمرة للبناء المجتمعي والعاملة على تفككه، قال تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) المائدة: 90.
وجاء في الحديث النبوي: (لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وشاربها وساقيها وحاملها والمحمولة إليه وبايعها ومشتريها وآكل ثمنها) .
4. كما تنهانا القوانين والتشريعات الإسلامية عن التكسب من خلال ممارسة البغاء، يقول تعالى:
(وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) النور: 33.
5. ويحرم الإسلام قضاء الحوائج والحاجات من خلال دفع الرشوة، التي تعد من العناصر المدمرة لكل نشاط اقتصادي وتنموي في كل مجتمع، فقد جاء في كتب السنة النبوية الشريفة: (عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: لعن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الراشي والمرتشي) .
6. ويأبى الإسلام على المسلم أن يكون مخادعًا وغشاشًا يخدع الناس في تعاملاته، سواء أكانت مالية أو غير مالية، فقد جاء في صحيح مسلم: (عن أبي هريرة، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مر على صبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللا، فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس من غش فليس مني) .
7. وتعد ظاهرة التعملات الربوية من أعظم وأفدح الرزائل التي عمل الإسلام على تحريمها والنهي عن ممارستها في المجتمع المسلم، ولعل السبب لا يخفى على أحد، فالتعامل بالفوائد الربوية يعتبر ثغرة واضحة لاستغلال حاجة الفقراء والمساكين، وأيضًا تفتح الأبواب لجشع الجشعين ونهم النهمين للمال، الأمر الذي يشكل مدعاة لفساد المجتمع بكامله، قال تعالى:
(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) البقرة: 275.
**نقلاً عن موقع منار الإسلام للأبحاث والدراسات