بعد فترة من تولي الحجاج حكم الحجاز، أراد الرجوع إلى الشام لزيارة أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، وفد معه إبراهيم بن محمد بن طلحة وقال: أتيتك برجل الحجاز في الشرف والأبوة والفضل والمروءة يا أمير المؤمنين، مع ما هو عليه من حسن الطاعة وجميل المناصحة، فبالله عليك يا أمير المؤمنين، إلا فعلت معه من الخير ما هو مستحقه. فقال عبد الملك: من هو يا أبا محمد؟ قال له: إبراهيم بن طلحة، فرد على الحجاج قائلاً: ليكن ليدخل.
فلما دخل على عبد الملك أمر بجلوسه في صدر المجلس، ثم قال: إن الحجاج ذكر لنا ما نعرفه من كمال مروءتك وحسن نصيحتك، فلا تدع في صدرك حاجة إلا أعلمتنا بها حتى نقضيها لك ولا تضيع شكر الحجاج فيك.
قال إبراهيم: إن الحاجة التي نبغي بها وجه الله تعالى نصيحة أمير المؤمنين، قال: قل، قال: لا أقولها وبيني وبينك ثالث، قال: ولا صديقك الحجاج؟! قال: ولا، فما كان من عبد الملك إلا أن يقول للحجاج: قم، فقام خجلاً وهو لا يعرف أين تطأ رجله، فلما مضى قال له: هات نصيحتك، فقال: يا أمير المؤمنين، وليت الحجاج الحرمين الشريفين وفيهما مَن تعرف من أولاد المهاجرين والأنصار وصحبة رسول الله، مع ما تعلمه من ظلمه وفسقه وجوره وبعده من الحق وقربه إلى الباطل، فبالله عليك يا أمير المؤمنين، إلا عزلته وادخرتها قربة إلى الله تعالى.
فقال عبد الملك: لقد ظنَّ الحجاج الخير بغير أهله، ثم قال: يا إبراهيم، قم، فقمت على أنحس حال وخرجت من المجلس، وقد اسودت الدنيا في وجهي، فتبعني حاجبه وقبض على زندي وجلس بي في الدهليز، ثم دعا عبد الملك بالحجاج، فدخل فمكث طويلاً، فما شككت إلا أنهما يتشاوران في قتلي، ثم دعاني فقمت ودخلت فوافاني الحجاج خارجاً فعانقني، وقال: جزاك الله عني خيراً في هذه النصيحة، أما والله لئن عشت لأرفعن قدرك.
وتركني وخرج، ودخلت وأنا أقول: يهزأ بي، وهو معذور، فدخلت على عبد الملك فأجلسني مجلسي الأول، ثم قال لي: قد علمت صدقك وقد عزلته عن الحرمين ووليته العراق وأعلمته أنك استقللت له الحجاز واستدعيت له العراق، وأنك تطلب له الزيادة في الأعمال، وهو يظن أنك السبب في توليته العراق، وقد تهلل وجهه فرحاً لذلك، فسر معه أينما توجه يولك خيراً، ولا تقطع نصيحتك عنا.
وهذا الموقف هو دلالة على حكمة ابن مروان.
**نقلاً عن صحيفة الشرق الأوسط