هما زميلان التقيا في بغداد في وقت طلب العلم؛ حيث دخلها أبو علي الفارسي(ت377هـ) وأقام فيها في الفترة(307هـ-341هـ)، بينما دخلها ابن خالويه(ت370هـ) وأقام فيها في الفترة (314-333هـ)؛ أي أنهما ربما تصاحبا ما يقرب من تسعة عشر عامًا، ودرسا معًا وبينهما شيوخ مشتركون منهما ابن دريد(ت321هـ)، وأبو بكر ابن مجاهد(ت324هـ)، والتقيا مرَّة أخرى في حلب حيث دخلها ابن خالويه قبله عام (334هـ)، بينما دخلها أبو علي الفارسي عام(341هـ). ورغم ذلك لم تكن العلاقة بينهما على ما يرام، وقد تحدث الدكتور محمود جاسم محمد عن العلاقة بينهما([1]) غير أن الأمر يحتاج بعض الإيضاح، وقد ظهرت الخصومة بينهما في عدة مواقف، وعدة قضايا، وصلنا منها:
-المنافسة في بلاط عضد الدولة البُوَيْهي(ت372هـ): اشتركا في بلاط عضُد الدولة البويهي، وكلاهما أهدى له كُتُبًا، فابن خالويه أهدى له كتابه "مُجدول في القراءات"، وأبو علي الفارسي أهدى له كتابه "الحجة"([2])، ولم يصلنا خبر عن المنافسة في هذه الفترة تحديدًا غير هذا.
- المنافسة في بلاط سيف الدولة الحمداني: من المعارك التي دارت بينهما في بلاط سيف الدولة:
1- مناظرة لغوية في حلب: في كتابه "المسائل الحلبيات" التي ألفها بعد دخول حلب سنة(341هـ) مسألة موجهة لسيف الدولة([3]) يفهم منها أنها ردٌّ على رقعة رسالة من ابن خالويه([4]) أرسلها لسيف الدولة، تتعلق بمناظرات لغوية جرت بينهما، فحواها: أن كثيرًا مما ورد في هذه الرقعة لم تجر عادة الفارسي بها لا سيما مع صاحب الرقعة، ويتهم ابن خالويه فيها بقلة التحفظ، وأن ابن خالويه حرَّف كلامه ونقل غير ما دار على حقيقته، حيث يتهمه بأنه زعم أن السِّيْرافي قرأ عليه، و"لو يبقى عمر نوح ما صلح أن يقرأ على السيرافي"، وبأنه قال :"إن ابن الخيَّاط كان لا يعرف شيئًا"، وبأنه "قد خطأه البارحة في أكثر ما قاله"، وبأنه قال: "ما قال أحدٌ إنَّ القومَ يقعُ على الجنِّ"، وأن "أُناسًا" جمع كما قال الفرَّاء، وسأله ابن خالويه عن لفظ "الناس" ووزنه والدليل على أن الأصل فيه "الأناس"، وأنه شبه الفعل بالاسم والكلمة التي على حرفين بالثلاثي.
وكانت هذه المناظرة بين عدد من الناس ومنهم من أدلى بدلوه فيها، ولم تكن هذه هي الرسالة الوحيدة التي أرسلها ابن خالويه بل هناك ثلاث رسائل.
وسبب ذكر السيرافي(ت368هـ) هنا هو أنه كانت منافسة شديدة من جانب أبي علي الفارسي ضد أبي سعيد السيرافي شيخ ابن خالويه وزميله في الطلب على ابن دريد(ت321هـ) وابن مجاهد(ت324هـ)، فقد كان أبو علي "متَّقدًا بالغيظ علي أبي سعيد وبالحسد له، لأنه تمَّ له تفسير كتاب سيبويه من أوله إلى آخره، بغريبه وأمثاله وشواهده وأبياته...ولأَّن هذا شيء ما تم للمبرِّد ولا للزَّجاج، ولا لابن السَّرَّاج ولا لابن درستويه مع سَعة علمهم وفيض كلامهم"([5]). كما أن منزلة السيرافي ارتفعت بعد هزيمته لمتَّى بن يونس المنطقي(ت384هـ)([6]).
وقد تعرَّض ابن خالويه في كتابه "شرح مقصورة ابن دريد"([7]) لقضية "قوم" وإطلاقها على الرجال دون النساء، وقوله هو قول أبي علي الفارسي نفسه في هذه الرسالة، غير أنه أضاف إليه مستنده من الرواية عن شيوخه كعادته؛ مما يدل على أن هذه الخصومة ليست علمية، ولكنها تنافسية.
والظاهر أن هذه المناظرة كانت في بدايات ورود أبي علي الفارسي لحلب؛ على عادة سيف الدولة في استدعاء ابن خالويه لاستقبال اللغويين الذين يرِدون إلى بلاطه كما حدث مع أبي الطيب اللغوي، ورغم ذلك جلس أبو علي الفارسي في بلاط سيف الدولة فترة، دارت فيها المعارك الآتية.
2-قال السيوطي في المزهر([8]): "...رأيت في كتاب "ليس" لابن خالويه، قال: ليس في كلامهم اسم ممدود جُمِع مقصورًا إلا ثمانية أحرف، وهي: صحراءُ وصحارَى، وعذرَاءُ وعذَارَى، وصَلْفاءُ وصلافَى؛ أرضٌ غليظةٌ، وخَبْراء وخَبارَى؛ أرضٌ فيها نُدُوَّة، وسَبْتاء وسَباتَى؛ أرضٌ فيها خُشونة، وَوَحْفاء ووحَافَى أرضٌ فيها حجارةٌ، ونَبْخاءُ ونَبَاخَى ونَفْخاء ونفاخى. وكانت هذه المسألة سأل عنها سيف الدولة فما عرِف أحدٌ ممن بحضرته شيئًا منها، فقلت: أنا أعرف أسماء ممدودة تُجمع بالقَصْر. قال: ما هي؟ قلت: لا أقولها إلا بألف دينار. ثم ذكرت ذلك لأن الممدود يجمع على أفْعِلة: رِداءٌ وأرديةٌ، والمقصور يُجمع ممدودًا: رَحَى وأرحاء، وقَفَا وأقفاء.
وذكر ابن خالويه هذه الحكاية في موضع آخر من كتاب ليس، وقال فيها: وكان في الحاضرين بين يدي سيف الدولة أحمد بن نصر، وأبو علي الفارسي، فقال أحمد بن نصر: أنا أعرف حرفًا؛ حَلْفاء وحَلاَفَى. فقلنا: حَلْفاء جمع حَلِفة، وإنما سألنا عن واحد. فقال الفارسي: أنا أعرف حرفًا؛ أشياء وأشاوَى. فقلنا: أشياء جمعٌ. هذا كله كلام ابن خالويه".
ففي هذا النقل يعلن ابن خالويه تفوقه على أبي علي الفارسي في اللغة بحضرة سيف الدولة دون سابق استعداد للمنافسة.
3- معركة الترادف في اللغة: في نزهة الألباء([9]): قال: "ويحكى أنه قال لأبي علي كم للسيف اسمًا؟. قال: اسم واحد. فقال له ابن خالويه: بل له أسماء كثيرة. وأخذ يعدُّها نحو: الحُسام، والمِخْذَم، والقَضِيب، والمقضب. فقال له أبو علي: هذه كلها صفات".
وهذا الخلاف في المترادفات ووجودها ما زال قائمًا لم يُحسم، ولا يدل رأيٌ فيه على خطأ الرأي الآخر([10]).
4-معركة كتاب "معاني القرآن وإعرابه" للزَّجَّاج: ألَّف أبو إسحاق الزجاج(ت311هـ) كتاب "معاني القرآن وإعرابه"، فألَّف أبو علي الفارسي(ت377هـ) كتاب "الإغفال" أو "الأمور المصلحة من كتاب معاني القرآن وإعرابه للزَّجاج"([11])، ينتقد فيه مائة وتسع مسألة مما جاء في كتاب الزَّجاج، وهي مسائل نحوية وصرفية وصوتية أغلبها اعتمد فيها الزَّجاج على كلام الخليل وسيبويه وفهِمه على غير الوجه الذي فهِمه أبو علي الفارسي، ومن الجدير بالذكر أن الزَّجاج من شيوخ الفارسي بل وسمع منه كتابه "معاني القرآن"، ورغم ذلك كان أبو علي متحاملًا على أستاذه في نقده([12]).
ودافِعُه للردِّ هو زيادة توقيره لسيبويه؛ لمكانته، وربما لأنَّ كليهما من شيراز بفارس، وربما لأنَّ الزَّجاج تلميذ المبرِّد الذي اعترض على سيبويه وألَّف كتابه "الغلط" في الاعتراض عليه، وربما بسبب النزاع السُّني المعتزلي؛ حيث كان أبو علي الفارسي معتزليًّا والزَّجَّاج سنيًّا.
وتأليف كتاب "الإغفال" كان مبكرًا قبل أو أثناء تأليف كتاب "المسائل البغداديات"، وقبل كتابه "الحلبيات" التي ألفها بعد ارتحاله لحلب سنة(341هـ) لأنه أشار إليه فيه عدة مرات، فهو من كتبه الأُوَل.
فردَّ عليه ابن خالويه بكتاب سمَّاه "الهاذور"، فردَّ عليه أبو علي الفارسي بكتاب "نقض الهاذور على ابن خالويه"، وللأسف ضاع "الهاذور" و"نقض الهاذور" إلا نُتَفًا منهما([13])، رغم أن "نقض الهاذور" كان موجودًا حتى أواخر القرن السادس الهجري؛ حيث إن ابن خير الإشبيلي(ت575هـ) رواه عن الشيخ أبي محمد عبد الرحمن بن محمد بن عتَّاب، عن أبي عمرو عثمان بن أبي بكر بن حمود السَّفَاقسيّ، عن أبي محمد عبد الله بن أبي غالب النَّحويِّ بشيراز، عن أبي علي الفارسي([14]).
وقد جمع الدكتور مشعان بن نازل الحربي([15]) نصوص "الهاذور" و"نقض الهاذور" الموجودة في "خزانة الأدب" و"شرح شواهد الشافية" للبغدادي، والمسائل التي جمعت هي خمس مسائل عن: واو رب، ولاهم الكبار، وأصل لفظ الجلالة، وهمزة ناس، ولَهِنَّك لَرجلٌ صادقٌ، بالإضافة إلى بعض الشواهد.
و"نقض الهاذور" ربما أُلف مسامتًا لفترة تأليف "الإغفال" قبل ارتحاله لحلب أو خلال مقامه في حلب، وذهب أحد العلماء إلى أنه أُلِّف في حلب بعد اتصاله بسيف الدولة مما أوغر صدر ابن خالويه عليه فألَّف "الهاذور"، وذهب الدكتور مشعان إلى أن "نقض الهاذور" أُلِّف في آخر حياته بعد كتابه "التذكرة القصرية" مستندًا لنصوص وردت عند عبد القادر البغدادي وابن جني، وهو أقوى الآراء الثلاثة.
وكان "نقض الهاذور" فيه تعسُّفٌ كما صرَّح ابن جني تلميذ أبي علي الفارسي، حيث قال([16]): "فأما قول من قال إن قولهم "لَهِنَّك" أصله "لله إنك"...أن أبا علي قد كان قواه بأَخَرةٍ وفيه تعسُفٌ". وقول الفارسي هذا موجود في "نقض الهاذور". وفوق التَّعسُّف خالف فيه بعضًا مما أقرَّه سابقًا باستفاضة في "التذكرة القصرية"([17]).
وقد وصف أبو علي الفارسي ابن خالويه بصفات شديدة؛ حيث وصفه في "نقض الهاذور" بأنه متقَّوِّل كذَّاب، ومتخرِّص أفَّاك، والكذاب الأفَّاك، والعاميُّ المريض. ووصفه في "المسائل الحلبيات"([18]) بأنه قليل التحفُّظ فيما يقوله، وأنه يحكي غلطًا وكلامه ساقطٌ، وسماه في "التذكرة" بالجاهل.
وعقَّب ابن العديم([19]) على ذلك بقوله: "ذكر ذلك في غير موضع من كتاب التَّذكِرة. أين كأبي عبد الله؟ لقد عُدِم من الشَّام فكان كمكَّة إذ فُقد هشام!". ولا نعلم هل استخدم ابن خالويه مثل هذه الألفاظ أم لا؛ بسبب ضياع كتابه.
كما أنَّه لمز قُدرة ابن خالويه النَّحوية، ففي نزهة الألباء([20]): يحكى أنه اجتمع هو وأبو علي الفارسي فجرى بينهما كلام، فقال لأبي عليٍّ نتكلم في كتاب سيبويه؟ فقال له أبو علي: بل نتكلم في الفصيح". فابن خالويه أراد تحديه في أكثر شيء برع فيه وهو النحو وكتاب سيبويه، وأبو علي الفارسي أراد أن يباريه في أكثر شيء برع فيه وهو الفصيح.
وأسباب الخلاف بينهما ثلاثة أمور:
الأول: اختلاف الميل اللغوي، وإن كانا من المدرسة البغدادية، فأبو علي يميل للقياس ويتوسع فيه جدًّا، وابن خالويه يقدِّم الرواية.
والثاني: المنافسة بين أبي علي الفارسي وأبي سعيد السِّيْرافي، كما مرَّ.
والثالث: جانب التنافس على الوجاهة عند سيف الدولة الحمداني، وكان ابن خالويه شرسًا في هذا الجانب.
والرابع: أنهما متعاصران و"المُعاصرةُ حِجَابٌ" تمنع قبول قول الأقران في بعض؛ لغلبة الحسد في أهل العلم الواحد، وقد قال ابن عباس رضي الله عنه: "خذوا العِلمَ حيث وجدتم، ولا تقبلوا قولَ الفقهاءِ بعضَهم على بعضٍ؛ فإنهم يتغايرون تغايُرَ التُّيُوس في الزَّريبة"([21]). وقال الإمام الذهبي([22]): "كلامُ الأقرانِ لا يُعبأُ بِهِ، لا سيما إذا لاح لك أنَّه لِعَداوةٍ أو لمذهبٍ أو لحسدٍ، وما ينجو منه إلا من عصمه الله، وما علمت أن عصرًا من الأعصار سلِم أهلُه من ذلك سوى الأنبياء والصِّدِّيقين، ولو شئت لسردت من ذلك كراريس". فإن كان ذلك في أهل الفقه والحديث فإنه في أهل الفنون الأخرى أقوى.
وخلاصة العلاقة بينهما أنه رغم أنهما كانا زميلي طلبٍ كانت العلاقة بينهما مضطربة سواء كان في بغداد أو في حلب، وسواء في بداية لقائمها أو في نهايته، وربما كان ابن خالويه السبب الأول في رحيل أبي علي الفارسي عن بلاط سيف الدولة.
والغريب في الأمر أن ابن خالويه نقل عن أبي علي في كتابه "إعراب ثلاثين سورة"([23])، ووافقه ضمنًا في مأخذ من مآخذه على الزَّجَّاج([24])؛ حيث قال: "وسمعت أبا علي النحوي يقول: "اسم الله تعالى مشتق من تألُّه الخلق؛ أي فقرهم وحاجتهم إليه".
-المنافسة في بلاط عضد الدولة البُوَيْهي(ت372هـ): اشتركا في بلاط عضُد الدولة البويهي، وكلاهما أهدى له كُتُبًا، فابن خالويه أهدى له كتابه "مُجدول في القراءات"، وأبو علي الفارسي أهدى له كتابه "الحجة"([2])، ولم يصلنا خبر عن المنافسة في هذه الفترة تحديدًا غير هذا.
- المنافسة في بلاط سيف الدولة الحمداني: من المعارك التي دارت بينهما في بلاط سيف الدولة:
1- مناظرة لغوية في حلب: في كتابه "المسائل الحلبيات" التي ألفها بعد دخول حلب سنة(341هـ) مسألة موجهة لسيف الدولة([3]) يفهم منها أنها ردٌّ على رقعة رسالة من ابن خالويه([4]) أرسلها لسيف الدولة، تتعلق بمناظرات لغوية جرت بينهما، فحواها: أن كثيرًا مما ورد في هذه الرقعة لم تجر عادة الفارسي بها لا سيما مع صاحب الرقعة، ويتهم ابن خالويه فيها بقلة التحفظ، وأن ابن خالويه حرَّف كلامه ونقل غير ما دار على حقيقته، حيث يتهمه بأنه زعم أن السِّيْرافي قرأ عليه، و"لو يبقى عمر نوح ما صلح أن يقرأ على السيرافي"، وبأنه قال :"إن ابن الخيَّاط كان لا يعرف شيئًا"، وبأنه "قد خطأه البارحة في أكثر ما قاله"، وبأنه قال: "ما قال أحدٌ إنَّ القومَ يقعُ على الجنِّ"، وأن "أُناسًا" جمع كما قال الفرَّاء، وسأله ابن خالويه عن لفظ "الناس" ووزنه والدليل على أن الأصل فيه "الأناس"، وأنه شبه الفعل بالاسم والكلمة التي على حرفين بالثلاثي.
وكانت هذه المناظرة بين عدد من الناس ومنهم من أدلى بدلوه فيها، ولم تكن هذه هي الرسالة الوحيدة التي أرسلها ابن خالويه بل هناك ثلاث رسائل.
وسبب ذكر السيرافي(ت368هـ) هنا هو أنه كانت منافسة شديدة من جانب أبي علي الفارسي ضد أبي سعيد السيرافي شيخ ابن خالويه وزميله في الطلب على ابن دريد(ت321هـ) وابن مجاهد(ت324هـ)، فقد كان أبو علي "متَّقدًا بالغيظ علي أبي سعيد وبالحسد له، لأنه تمَّ له تفسير كتاب سيبويه من أوله إلى آخره، بغريبه وأمثاله وشواهده وأبياته...ولأَّن هذا شيء ما تم للمبرِّد ولا للزَّجاج، ولا لابن السَّرَّاج ولا لابن درستويه مع سَعة علمهم وفيض كلامهم"([5]). كما أن منزلة السيرافي ارتفعت بعد هزيمته لمتَّى بن يونس المنطقي(ت384هـ)([6]).
وقد تعرَّض ابن خالويه في كتابه "شرح مقصورة ابن دريد"([7]) لقضية "قوم" وإطلاقها على الرجال دون النساء، وقوله هو قول أبي علي الفارسي نفسه في هذه الرسالة، غير أنه أضاف إليه مستنده من الرواية عن شيوخه كعادته؛ مما يدل على أن هذه الخصومة ليست علمية، ولكنها تنافسية.
والظاهر أن هذه المناظرة كانت في بدايات ورود أبي علي الفارسي لحلب؛ على عادة سيف الدولة في استدعاء ابن خالويه لاستقبال اللغويين الذين يرِدون إلى بلاطه كما حدث مع أبي الطيب اللغوي، ورغم ذلك جلس أبو علي الفارسي في بلاط سيف الدولة فترة، دارت فيها المعارك الآتية.
2-قال السيوطي في المزهر([8]): "...رأيت في كتاب "ليس" لابن خالويه، قال: ليس في كلامهم اسم ممدود جُمِع مقصورًا إلا ثمانية أحرف، وهي: صحراءُ وصحارَى، وعذرَاءُ وعذَارَى، وصَلْفاءُ وصلافَى؛ أرضٌ غليظةٌ، وخَبْراء وخَبارَى؛ أرضٌ فيها نُدُوَّة، وسَبْتاء وسَباتَى؛ أرضٌ فيها خُشونة، وَوَحْفاء ووحَافَى أرضٌ فيها حجارةٌ، ونَبْخاءُ ونَبَاخَى ونَفْخاء ونفاخى. وكانت هذه المسألة سأل عنها سيف الدولة فما عرِف أحدٌ ممن بحضرته شيئًا منها، فقلت: أنا أعرف أسماء ممدودة تُجمع بالقَصْر. قال: ما هي؟ قلت: لا أقولها إلا بألف دينار. ثم ذكرت ذلك لأن الممدود يجمع على أفْعِلة: رِداءٌ وأرديةٌ، والمقصور يُجمع ممدودًا: رَحَى وأرحاء، وقَفَا وأقفاء.
وذكر ابن خالويه هذه الحكاية في موضع آخر من كتاب ليس، وقال فيها: وكان في الحاضرين بين يدي سيف الدولة أحمد بن نصر، وأبو علي الفارسي، فقال أحمد بن نصر: أنا أعرف حرفًا؛ حَلْفاء وحَلاَفَى. فقلنا: حَلْفاء جمع حَلِفة، وإنما سألنا عن واحد. فقال الفارسي: أنا أعرف حرفًا؛ أشياء وأشاوَى. فقلنا: أشياء جمعٌ. هذا كله كلام ابن خالويه".
ففي هذا النقل يعلن ابن خالويه تفوقه على أبي علي الفارسي في اللغة بحضرة سيف الدولة دون سابق استعداد للمنافسة.
3- معركة الترادف في اللغة: في نزهة الألباء([9]): قال: "ويحكى أنه قال لأبي علي كم للسيف اسمًا؟. قال: اسم واحد. فقال له ابن خالويه: بل له أسماء كثيرة. وأخذ يعدُّها نحو: الحُسام، والمِخْذَم، والقَضِيب، والمقضب. فقال له أبو علي: هذه كلها صفات".
وهذا الخلاف في المترادفات ووجودها ما زال قائمًا لم يُحسم، ولا يدل رأيٌ فيه على خطأ الرأي الآخر([10]).
4-معركة كتاب "معاني القرآن وإعرابه" للزَّجَّاج: ألَّف أبو إسحاق الزجاج(ت311هـ) كتاب "معاني القرآن وإعرابه"، فألَّف أبو علي الفارسي(ت377هـ) كتاب "الإغفال" أو "الأمور المصلحة من كتاب معاني القرآن وإعرابه للزَّجاج"([11])، ينتقد فيه مائة وتسع مسألة مما جاء في كتاب الزَّجاج، وهي مسائل نحوية وصرفية وصوتية أغلبها اعتمد فيها الزَّجاج على كلام الخليل وسيبويه وفهِمه على غير الوجه الذي فهِمه أبو علي الفارسي، ومن الجدير بالذكر أن الزَّجاج من شيوخ الفارسي بل وسمع منه كتابه "معاني القرآن"، ورغم ذلك كان أبو علي متحاملًا على أستاذه في نقده([12]).
ودافِعُه للردِّ هو زيادة توقيره لسيبويه؛ لمكانته، وربما لأنَّ كليهما من شيراز بفارس، وربما لأنَّ الزَّجاج تلميذ المبرِّد الذي اعترض على سيبويه وألَّف كتابه "الغلط" في الاعتراض عليه، وربما بسبب النزاع السُّني المعتزلي؛ حيث كان أبو علي الفارسي معتزليًّا والزَّجَّاج سنيًّا.
وتأليف كتاب "الإغفال" كان مبكرًا قبل أو أثناء تأليف كتاب "المسائل البغداديات"، وقبل كتابه "الحلبيات" التي ألفها بعد ارتحاله لحلب سنة(341هـ) لأنه أشار إليه فيه عدة مرات، فهو من كتبه الأُوَل.
فردَّ عليه ابن خالويه بكتاب سمَّاه "الهاذور"، فردَّ عليه أبو علي الفارسي بكتاب "نقض الهاذور على ابن خالويه"، وللأسف ضاع "الهاذور" و"نقض الهاذور" إلا نُتَفًا منهما([13])، رغم أن "نقض الهاذور" كان موجودًا حتى أواخر القرن السادس الهجري؛ حيث إن ابن خير الإشبيلي(ت575هـ) رواه عن الشيخ أبي محمد عبد الرحمن بن محمد بن عتَّاب، عن أبي عمرو عثمان بن أبي بكر بن حمود السَّفَاقسيّ، عن أبي محمد عبد الله بن أبي غالب النَّحويِّ بشيراز، عن أبي علي الفارسي([14]).
وقد جمع الدكتور مشعان بن نازل الحربي([15]) نصوص "الهاذور" و"نقض الهاذور" الموجودة في "خزانة الأدب" و"شرح شواهد الشافية" للبغدادي، والمسائل التي جمعت هي خمس مسائل عن: واو رب، ولاهم الكبار، وأصل لفظ الجلالة، وهمزة ناس، ولَهِنَّك لَرجلٌ صادقٌ، بالإضافة إلى بعض الشواهد.
و"نقض الهاذور" ربما أُلف مسامتًا لفترة تأليف "الإغفال" قبل ارتحاله لحلب أو خلال مقامه في حلب، وذهب أحد العلماء إلى أنه أُلِّف في حلب بعد اتصاله بسيف الدولة مما أوغر صدر ابن خالويه عليه فألَّف "الهاذور"، وذهب الدكتور مشعان إلى أن "نقض الهاذور" أُلِّف في آخر حياته بعد كتابه "التذكرة القصرية" مستندًا لنصوص وردت عند عبد القادر البغدادي وابن جني، وهو أقوى الآراء الثلاثة.
وكان "نقض الهاذور" فيه تعسُّفٌ كما صرَّح ابن جني تلميذ أبي علي الفارسي، حيث قال([16]): "فأما قول من قال إن قولهم "لَهِنَّك" أصله "لله إنك"...أن أبا علي قد كان قواه بأَخَرةٍ وفيه تعسُفٌ". وقول الفارسي هذا موجود في "نقض الهاذور". وفوق التَّعسُّف خالف فيه بعضًا مما أقرَّه سابقًا باستفاضة في "التذكرة القصرية"([17]).
وقد وصف أبو علي الفارسي ابن خالويه بصفات شديدة؛ حيث وصفه في "نقض الهاذور" بأنه متقَّوِّل كذَّاب، ومتخرِّص أفَّاك، والكذاب الأفَّاك، والعاميُّ المريض. ووصفه في "المسائل الحلبيات"([18]) بأنه قليل التحفُّظ فيما يقوله، وأنه يحكي غلطًا وكلامه ساقطٌ، وسماه في "التذكرة" بالجاهل.
وعقَّب ابن العديم([19]) على ذلك بقوله: "ذكر ذلك في غير موضع من كتاب التَّذكِرة. أين كأبي عبد الله؟ لقد عُدِم من الشَّام فكان كمكَّة إذ فُقد هشام!". ولا نعلم هل استخدم ابن خالويه مثل هذه الألفاظ أم لا؛ بسبب ضياع كتابه.
كما أنَّه لمز قُدرة ابن خالويه النَّحوية، ففي نزهة الألباء([20]): يحكى أنه اجتمع هو وأبو علي الفارسي فجرى بينهما كلام، فقال لأبي عليٍّ نتكلم في كتاب سيبويه؟ فقال له أبو علي: بل نتكلم في الفصيح". فابن خالويه أراد تحديه في أكثر شيء برع فيه وهو النحو وكتاب سيبويه، وأبو علي الفارسي أراد أن يباريه في أكثر شيء برع فيه وهو الفصيح.
وأسباب الخلاف بينهما ثلاثة أمور:
الأول: اختلاف الميل اللغوي، وإن كانا من المدرسة البغدادية، فأبو علي يميل للقياس ويتوسع فيه جدًّا، وابن خالويه يقدِّم الرواية.
والثاني: المنافسة بين أبي علي الفارسي وأبي سعيد السِّيْرافي، كما مرَّ.
والثالث: جانب التنافس على الوجاهة عند سيف الدولة الحمداني، وكان ابن خالويه شرسًا في هذا الجانب.
والرابع: أنهما متعاصران و"المُعاصرةُ حِجَابٌ" تمنع قبول قول الأقران في بعض؛ لغلبة الحسد في أهل العلم الواحد، وقد قال ابن عباس رضي الله عنه: "خذوا العِلمَ حيث وجدتم، ولا تقبلوا قولَ الفقهاءِ بعضَهم على بعضٍ؛ فإنهم يتغايرون تغايُرَ التُّيُوس في الزَّريبة"([21]). وقال الإمام الذهبي([22]): "كلامُ الأقرانِ لا يُعبأُ بِهِ، لا سيما إذا لاح لك أنَّه لِعَداوةٍ أو لمذهبٍ أو لحسدٍ، وما ينجو منه إلا من عصمه الله، وما علمت أن عصرًا من الأعصار سلِم أهلُه من ذلك سوى الأنبياء والصِّدِّيقين، ولو شئت لسردت من ذلك كراريس". فإن كان ذلك في أهل الفقه والحديث فإنه في أهل الفنون الأخرى أقوى.
وخلاصة العلاقة بينهما أنه رغم أنهما كانا زميلي طلبٍ كانت العلاقة بينهما مضطربة سواء كان في بغداد أو في حلب، وسواء في بداية لقائمها أو في نهايته، وربما كان ابن خالويه السبب الأول في رحيل أبي علي الفارسي عن بلاط سيف الدولة.
والغريب في الأمر أن ابن خالويه نقل عن أبي علي في كتابه "إعراب ثلاثين سورة"([23])، ووافقه ضمنًا في مأخذ من مآخذه على الزَّجَّاج([24])؛ حيث قال: "وسمعت أبا علي النحوي يقول: "اسم الله تعالى مشتق من تألُّه الخلق؛ أي فقرهم وحاجتهم إليه".
([1]) انظر مقدمة تحقيق "شرح مقصورة ابن دريد"، (ص26-28).
([2]) انظر كتاب "أبو علي الفارسي حياته ومكانته بين أئمة التفسير العربية وآثاره في القراءات والنحو"، عبد الفتاح إسماعيل شلبي، دار المطبوعات الحديثة، السعودية، جدة، ط3، 1989م، (64، 66، 310). وذكر أنه كانت بينهما منافسة في كتابي الحجة (ص311-326)، ولكن نسبة كتاب الحجة لابن خالويه لا تصح، كما أثبت في بحثي "الفصل في نسبة كتاب الحجة في القراءات السبع المنسوب لابن خالويه"، مجلة الدراسات اللغوية، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، المجلد الثالث والعشرون، العدد الرابع، (شوال ذو الحجة 1442هـ/ مايو- يونيو2021م)، (ص371).
([3]) انظر: المسائل الحلبيات، أبو علي الفارسي، تحقيق عبد الحميد هنداوي، (ص159 -176)، دار القلم دمشق، ودار المنارة بيروت، ط1، 1987م.
([4]) لم يذكر في المسائل الحلبيات ولا في مقدمة تحقيقه أن المقصود هو ابن خالويه، والذي حدد أنه ابن خالويه هو ياقوت الحموي في معجم الأدباء في ترجمة الفارسي، (2/819-820).
([5]) الإمتاع والمؤانسة، أبو حيان التوحيدي، (ص131)، المكتبة العصرية، بيروت، ط1، 1424هـ.
([6]) انظر نقض الهاذور لأبي علي الفارسي (تعريفًا بالكتاب وجمعًا لبعض نصوصه)، مشعان بن نازل الحربي، مجلة الدراسات اللغوية، مجلد18، العدد2، يناير-مارس،2016هـ، (ص106).
([7]) شرح مقصورة ابن دريد، (ص330).
([8]) المزهر في اللغة، السيوطي، (2/199-200)، وانظر معجم الأدباء، ياقوت الحموي، (3/1031).
([9]) نزهة الألباء، (ص230).
([10]) السابق، (ص231).
([11]) حققه الدكتور عبد الله بن عمر الحاج إبراهيم، المجمع الثقافي، دبي، مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث، 2013م، وعلى مقدمة تحقيقه اعتمدت فيما سيأتي. وانظر: موقف أبي علي الفارسي من الزجاج في كتابه الإغفال دراسة وتحليل، سيف بن سالم بن فضيل المسكري، رسالة ماجستير، جامعة نزوى، سلطنة عمان، 2014م.
([12]) انظر الدراسات اللغوية خلال القرن الرابع الهجري، حمودي زين الدين المشهداني، (ص260)، دار الكتب العلمية، بيروت، 2005م.
([13]) انظر: الفلاكة والمفلوكون، شهاب الدين الدلجي، (ص102)، مطبعة الشعب، مصر، 1322هـ، وخزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، عبد القادر البغدادي، تحقيق عبد السلام هارون، (1/18)، (2/280، 281، 288). (10/39، 57)، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط4، 1997م.
([14]) فهرس ابن خير الإشبيلي، تحقيق بشار عواد معروف ومحمود بشار معروف، (ص85)، دار الغرب الإسلامي، تونس، ط1، 2009م.
([15]) نقض الهاذور لأبي علي الفارسي (تعريفًا بالكتاب وجمعًا لبعض نصوصه)، مشعان بن نازل الحربي، (ص97-139). وعليه اعتمدت فيما يأتي من معلومات.
([16]) الخصائص، ابن جني، تحقيق محمد علي النجار، (1/318)، عالم الكتب، بيروت، ط2، 1403هـ.
([17]) شرح أبيات مغني اللبيب، البغدادي، تحقيق عبد العزيز رباح ويوسف الدقاق، (4/349)، دمشق، دار المأمون للتراث، ط2، 1407هـ.
([18]) انظر: المسائل الحلبيات، (ص159 -176).
([19]) بغية الطلب في تاريخ حلب، ابن العديم، (ص2265).
([20]) نزهة الألباء (ص230).
([21]) فيض القدير شرح الجامع الصغير، لزين الدين المناوي، (4/164)، المكتبة التجارية الكبرى، مصر، ط1، 1356هـ.
([22]) ميزان الاعتدال في نقد الرجال، شمس الدين الذهبي، (1/111)، تحقيق علي محمد البجاوي، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، ط1، 1963م.
([23]) إعراب ثلاثين سورة من القرآن، ابن خالويه، (ص11-12)، دار مكتبة الهلال، لبنان، 1985م.
([24]) انظر: موقف أبي علي الفارسي من الزجاج في كتابه الإغفال دراسة وتحليل، سيف بن سالم بن فضيل المسكري، رسالة ماجستير، (ص25-26).