مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2023/05/01 13:13
قراءة نقدية في نونية عديِّ بن زيد العِبادي
عَدِي بن زيد العِبادي التَّميمي، شاعر جاهلي نصراني، ولد بالحِيرة بعد أن هرب جدُّه من اليمامة خوفًا من دم أصابه في قومه، وكوَّن مكانة اجتماعية في الحيرة، ممَّا هيَّأ لعديٍّ مركزًا فعّالا جعله مؤثرًا في تنصيب ملوك الحِيرة، وتقرَّب إلى البلاط الفارسي، وصار كاتبًا ذا شأنٍ، وبُعِث في سفارة من المملكة الفارسية إلى القسطنطينية مارًّا بدمشق، ولما عاد بالهدايا صادف وفاة أبيه ومربِّيه، فاستأذن كسرى في العودة للحِيرة.
وكان المنذرُ أوصى عديًّا بابنه النُّعمان، فعمل عَدي بدهاء على تقريب النعمان لكسرى حتى ملَّكه الحِيرة دون إخوانه العشرة؛ مما أثار حفيظة بني مَرينة الذين كانوا لا يريدون النُّعمان، فعملوا على إثارة حفيظة النُّعمان على عَدي حتى حبسه، وعجَّل بقتله عندما أرسل كسرى رسولًا ليفتديه أو يشفع له.
كان له من الإخوة ثلاثة: عمَّار، وكان كاتبًا عند كسرى، وعمرو، والثالث أخوه من أمِّه؛ عدي بن حَنْظلة. وله من الأبناء: زيد بن عَدي، وسَوَادة، وعَلْقَمة، وابنته هند. وتزوج بامرأتين: هند بنت النُّعمان أو أخته، وأُميمة.
وكان ورث حب الثقافة عن أجداده وآبائه، وبرع في الفارسية إلى جانب العربيةـ وتعلم الرمي بالنُّشَّاب، واللعب بالصَّوْلَجَان، وسفارته إلى القسطنطينية أَثْرت ثقافته وفجَّرت الكتابة عنده.
شِعره: حُقِّق وجُمِعَ من شعره تسعمائة بيت، حقَّقه محمد جبار المعيبد، وألفاظه سهلة ممَّا جرَّأ على نحل كثير من الشعر له، ومن أغراض شعره: وصف الخمر، ووصف الخيل، والغزل، كما كان من أهم الأغراض الأسى لحاله في السجن وعتاب أقاربه على تركه، وتزهيد النعمان في الدنيا وتذكيره بتقلب الدهر وعتابه في سجنه. وكان شعره في الخمر نموذجًا للأعشى وغيره، وكان شعره في الزهد نموذجًا لشعراء الزهد من بعده، وكثر عنده وعند شعراء الحِيرة عمومًا بحرا الخفيف والرَّمَل.
قصيدته النونية: ومن قصائده السيارة نونيته التي يتحدث فيها عن قصة جَذِيمةَ الأَبْرش والزَّبَّاء التي قتلته، وقَصِير الذي احتال في الانتقام له، وقد وردت هذه القصيدة في ديوانه ناقصة جدًّا، ففيه جمع المحقق منها خمسةً وعشرين بيتًا فقط، ووردت عند أبي عبيدة معمر بن المثنَّى(ت209هـ) في كتاب الدِّيْباج(ص109-112)، وعند ابن خالويه(ت370هـ) في شرح مقصورة ابن دريد(ت321هـ) (ص424). والأبيات الثمانية الأُوَل تفرَّد بها ابن خَالَويه ولم ترد في الدِّيباج، فيبقى لابن خالويه تفرُّده بأنه أقدم مصدر –حسب بحثي- ذكر القصيدة كاملة.
وتتكون من أربعين بيتًا، ويمكن تقسيم أجزائها الرئيسة إلى ثلاثة أقسام:
المقدمة الطللية، وتحتل الأبيات السبعة الأولى، وهي:
1-أَبُدِّلَتِ المَنَـــازِلُ أَمْ عُفِيْــــــــــــــــــــــــنَا... تَقَادَمَ عَهْدُهُنَّ فَقَدْ بَلِيْنَا
2-خَلَا خُدَدًا تَعَاوَرُهَا السَّوَارِي... وَتَأْوِيْبُ الإِمَــــاءِ بِهِ الأَرِيْنَا
3-عَفَـــــــــتْهَا الرِّيْحُ حَتَّى غَيَّرَتْــــــــهَا... وَبُـــــدِّلَ بَعْــــــــــــــــدَ حِقْبـَتِها سِنِيْنَا
4-وَقَـــــــــــــدْ نَــــــــادَى أَمِيْرُكِ بِاحْتِمَالٍ...وَقَـــــــــــــــدْ قَطَــــــــــــــعَ احْتِمَالُهُمُ الوَتِيْنَا
5-وَجَـــــدَّ مِن ابْنَـــــــــــةِ الْجَدَّاءِ شَوْقٌ....وَحَبْــــــلٌ كَانَ جِــــدَّتُهُ مَتِيْنَــــــــــــا
6-لَيَـــــالِيَ مَــــــا يَخَـــــــــــافُ القَلْبُ مِنْهَا...سِوَى مَـــــــــــا أَنْ تُفَـــــــارِقَ أَوْ تَبِيْنَـــــا
7-كَــــــأَنَّ حُــــدُوجَهُنَّ([1]) زُهَى نَخِيْلٍ....إِذَا أَشْرَفْنَ وَهْـــــــــنًا أَوْ وَجِيْنَا
ثم بيت التخلص من المقدمة للموضوع وهو البيت الثامن:
8-أَلَا يَـــــــا أَيُّهَــــــا الْــمُثْرِي الْمُزَجِّي...أَلَمْ تَسْمَعْ بخَطْبِ الأَوَّلِيْنَـــــــــــــــــــا
ثم تأتي أبيات قصة الزَّبَّاء وجَذِيمةَ وهي القسم الأكبر من القصيدة، واحتلت الأبيات من التاسع إلى الشطر الأول من البيت الخامس والثلاثين.
 ثم أبيات الحكمة والعظة من الحدث، وهي خمسة أبيات وشطر بيت، وتبدأ من الشطر الثاني من البيت الخامس والثلاثين إلى آخر القصيدة:
35-....................... ...وَأَيُّ مُعَــــــمَّرٍ لا يَبْـــــــــــتَلِـــــــيْنَــــــــــا
36-إِذَا أمْهَــــلْنَ ذَا جَــــــدٍّ عَظِيْمٍ...عَطَفْنَ لَهُ وَلَوْ فَرَّطْـــــــنَ حِيْنَـــــــــــا
37-وَلَمْ أَجِدِ الفَتَى يُبْغَى لِشَيءٍ... وَلَوْ أَثْرَى وَلَوْ وَلَدَ البَنِيْنَا
38-وَلَوْ لَاقَى مِـــنَ الأَيَّــــــامِ غَبْطًا... وَرِفْعًــــــا في مَعِيْشَتِهِ وَلِيْنَــــــــــا
39-ألَمْ تَرَ أَنَّ رَيْبَ الدَّهْرِ يَعْلُوْ....أَخَا النَّجِدَاتِ وَالحِصْنَ الحَصِيْنَا
40-كَــذَاكَ الدَّهْـــرُ وَالأَيَّـــــــامُ خُوْنٌ...لَهَا غِيَرٌ يُسَاقِطْنَ الْجَنِينَا
الشاعرية: جاء وصف الأطلال على النحو الجاهلي المعتاد؛ حيث يدور حول تبدل منازل الأحباء بعد الحركة والصخب والعمران إلى العفاء والبلى، ولم يبق منها سوى رسوم تدل على حياة كانت، كحفر حفرت حول الخيام لمنع المطر من دخول الخيام، وحفر أوتاد الخيام، وتكاد الريح أن تُذهب أثرها، ثم الحبيبة المغلوبة على أمرها في الرحيل رغم شوقها للبقاء للقاء الحبيب.
ثم جاء سرد القصة التاريخية وتغيب فيه الشاعرية ويعلو السرد، مثل قوله:
9-دَعَــــا بِالبَقَّــــةِ الأُمَرَاءَ يَوْمًـــــــا...جَــــــذِيمَــــــةُ عَصْرَ يَنْجُوْهُمْ ثُبِيْنَـــــــا
10-فَـــلَمْ يَـــرَ غَيْرَ مَــــا ائْتَمَرُوْا سِوَاهُ...فَشَدَّ لِرَحْــــــلِهِ السَّفَرَ الوَضِيْنَا
11-فَطَــــاوَعَ أَمْرَهُمْ وَعَصَى قَصِيْرًا...وَكَـــــــانَ يَقُوْلُ لَوْ تَبِعَ اليَقِيْنَـــــــــا
12-لمُخْطَبَتِي الَّتِي غَــــدَرَتْ وَخَانَتْ... وَهُــــنَّ ذَوَاتُ غَائِلَةٍ: لُحِيْــــــــنَا
13-فَدَسَّتْ في صَحِيْفَتِهَا إِلَيْهِ... لِيَمْلِكَ بِضْعَهَا وَلِأَنْ تَدِيْنَا
فهو سرد خال من الشاعرية لا يفضل النثر إلا بالوزن.
ثم جاءت أبيات الحكمة وتغيب فيها الشاعرية أيضًا ويعلو صوت الحكمة.
وخلت عامة من الجماليات غير قليل من الصور، مثل تشبيه الهوادج الراحلة بلونها الأحمر والأصفر وهي تعلو الجِمال بالتمر مختلف اللون على رؤوس النخيل، وهو تشبيه لم أقف عليه عند أحد غيره –حسب علمي-:"كأنَّ حُدُوجَهُنَّ زُهَى نَخِيْلٍ"، وأيضًا تصويره حال النساء وهن يندبن الميت ويتمسحن بجثته رجاء عودته حيًّا كما تروح وتأتي الناقة على ابنها الذي انتزع منها رجاء عودته لها:"كما يَتَعَاوَرُ الخُلُجُ الجَنينا"، وقوله:"يجُرُّ الموتَ".
ولا يختلف رأيي هذا في شاعرية هذه النونية عن رأي القدماء في شعر عدي عامة، إذ قال أبو الفرج الأصبهاني(ت356هـ) في الأغاني(2/90): "وكانوا قد أخذوا عليه أشياء عيب فيها، وكان الأصمعي وأبو عبيدة يقولان: عدي بن زيد في الشعراء بمنزلة سُهَيْل في النجوم؛ يعارضها ولا يجري معها مجراها".
حسن التخلص: حسن التخلُّص من غرض إلى غرض في القصيدة مميَّزٌ بشكل لافت، فقد تخلص من المقدمة الطللية إلى الغرض التاريخي تخلُّصًا لطيفًا لا يُشعر المتلقي بالانتقال؛ حيث قال:
8- أَلَا يَـــــــا أَيُّهَــــــا الْــمُثْرِي الْمُزَجِّى...أَلَمْ تَسْمَعْ بخَطْبِ الأَوَّلِيْنَـــــــــــــــــــا
فقد وجَّه الحديث لحادي الإبل الراحلة وسأله هل عرفت خبر الأولين الذين لم يدم لهم حال وغرَّتهم الدنيا حينًا ثم كسرتهم، فكأنه يريد أن يؤخر رحيله ويغريه بسماع عِبَر التاريخ.
وحسن التخلُّص الثاني كان في الانتقال من سرد قصة جَذيمة الأَبْرش والزَّبَّاء إلى أبيات الحكمة، فقد وفق الشاعر فيه جدًّا، حيث جعل شطر البيت الأول متعلِّقا بالقصة السابقة والشطر الثاني بيت حكمة مُهَيِّئًا للعظة القادمة:
35- وَأَبْــــــرَزَهَا الحَــوَادِثُ وَالْمَنَـــــايَــــــــا...وَأَيُّ مُعَــــــمَّرٍ لا يَبْتَلِيْنَــــــــــا
الوحدة الموضوعية: كما أن الوحدة الموضوعية في القصيدة متوافرة بشدة بين أجزائها الثلاثة؛ فعاطفة تبدل الحال مع الحبيب من قرب وأنس إلى رحيل وبُعْدٍ تشبه رحيل مُلْك جَذِيمة والزَّبَّاء بعد رِفْعة، ويربط بين الحدثين؛ تبدل الحب وتبدل حال جَذِيمة والزَّبَّاء أبياتُ الحكمة ولاسيما آخر بيت في القصيدة:
40-كَــذَاكَ الْدَّهْـــرُ وَالأَيَّـــــــامُ خُوْنٌ...لَهَا غِيَرٌ يُسَاقِطْنَ الْجَنِينا
إذن تميزت هذه النونية بحسن التخلص والوحدة الموضوعية، وقليل من الصور، ولكن علا فيها صوت السرد التاريخي على صوت الشاعرية!
 
([1]) الحدوج: مركب من مراكب النساء كالهودج والمحفة.
مقالات اخرى
أضافة تعليق