مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2023/05/01 13:06
زكريا النوتي.. الصَّنَّاجة التي خفتت
قبل يوم (24/7/2011م) بأسبوعين تقريبًا، اتصلت به وأخذت منه موعدًا لأعطيه نسخة رسالة الدكتوراه ليناقشها، وتسلمها مني السكرتير، ثم ذهبت مرة أخرى في هذا اليوم. وكان لقاؤه في مكتبه عميدًا لكلية العلوم الإسلامية للوافدين، دخلت عليه وأنا أحمل رهبة كبيرة له، وكنا هيابين لمن يكبرنا سنًّا فقط، فكيف بمن يكبرنا سنًّا وعلمًا ومكانة!
وما هي إلا نصف ساعة، وصرنا أخوين، لا أشعر بفارق مكانة ولا سن، بل صرنا نتمازح؛ بدأ بالترحيب وتقديم الشيكولاتة، ثم التعرف، ثم طلب مني شرح موضوع رسالتي له، ولم يفقد تركيزه معي، رغم انقطاع الحديث بدخول الواردين الكثر:
يَزْدَحِمُ النَّاسُ على بابِكُمْ ... والمَوْردُ العَذْبُ كثيرُ المُزْدَحَمْ
وظل يسأل سؤال العارف، وأجيب، كأني كنت في مناقشة قبل المناقشة، ويقلب في الصفحات ويسأل.
وكان أكثر ما وقف عنده التعريفات، وكان غير مصدق أني واضعها وعلى غير مثال سابق.
ثم أسند ظهره إلى كرسيه المتواضع وسألني: من أين استقيت فكرة هذا الموضوع؟ فحكيت.
ثم قال: ولماذا لم تسمِّه منهجًا؟ فقلت له: خشية أن أُتهم بالمبالغة وينقلب السحر على الساحر. فضحك ضحكة عريضة!
ثم سألني هل تخطب الجمعة؟ فقلت لا. فاستغرب جدًّا واستنكر الأمر، وقال: ولم تواجه جمهورًا قط؟
قلت: بل واجهت وألقيت في قليل من المناسبات الوعظية، وكثير من المناسبات الأدبية والثقافية.
قال: إذن من يخطب إن لم يخطب أمثالك!
فقلت: أستحي أن أشتغل في المساء بما أحبه من شعر هاتك خِدر عُنيزة ورقَّ الزُّجاج فرقَّت الخمر فتشابها وتشابه الأمر، ثم أقف على المنبر نهارًا أقول: واجعلنا للمتقين إمامًا.
فضحك ضحكة عريضة وقال: اشتغل مساء بزهديات أبي العتاهية ومكفِّرات صاحب الزجاجة، وبردة البوصيري، واخطب نهارًا.
فقلت مبتسمًا: غلبت عليَّ شقوتي بحب الأولَين!
ثم حدَّثني عن فكرة كتاب تحت التأليف يذكر فيه خزايا الحياة العلمية والجامعية، وسرد لي قصصًا شيَّبتني، فقلت له: أستأذنك في قول؟ فأذن لي، فقلت: لا تفعل؛ فستفتح بابًا من العداوة لن يغلق، وستشغلكم تبعاته، ولن يجدي فتحه، والجو العام الآن غير مناسب بالمرة.
ولكن الأمر كان يشغله جدًّا، وصرَّح لي بانزعاجه من العمادة.
ثم صار يسألني عن ظروفي الاقتصادية والاجتماعية وكأني ابن من أبنائه، وكلما هممت بالاستئذان خوفًا من تعطيله، أجلسني.
قد تكون صورة لـ ‏نص‏وفي آخر اللقاء أخرج كتابه (معلقة زهير قراءة جديدة في ضوء وحدة القصيدة) وكتب هذا الإهداء الواضح في الصورة الذي أثَّر فيَّ تأثيرًا كبيرًا، وزرع في نفسي نبتة عطرة فواحة ما زلت أتنسم عبيرها حتى الآن، وأضاء لي قنديلا ظل يحدوني في الطريق؛ ففي البدايات تحتاج لمن يؤكد لك أنك على الجادّة، وللأسف يضن كثير من الكبار على الشادين بمثل هذا، بل يقدمون عليه:
فَدَعْ عَنْكَ الكِتَابةَ لَسْتَ مِنْها... ولَوْ سَوَّدْتَ ثَوْبَكَ بالمِدادِ
فقلت ممازحًا: نكتب: الدكتور إن شاء الله؛ تعليقًا. فرد: بل تحقيقًا. فابتسمت وقلت: هذه نتيجة من الكنترول إذن.
وكال لي مدحًا فوق ما كتب، وكرَّر كثيرًا: استمر ولا تتوقف مهما كانت الظروف، كما يتوقف الكثيرون.
فانظر كيف دخلت عليه مرهوبًا وغادرته صديقًا وهو عميد!
ومن الطريف أنه قبل المناقشة بدقائق سألني هل أهلي من النوع صعيدي الطباع، فابتسمت وقلت: اللهم سترك، هذا يوم عصيب! ثم قلت: خذ راحتك دكتورنا الكريم فأهلي أناس طيبون. وخفت أن يكون قد أضمر لي شدة في المناقشة، ولكنه- علم الله- كان موضوعيًّا محايدًا، يصدق عليه قول أبي تمام:
شَرسْتَ بَلْ لِنْتَ بَلْ قانَيْتَ ذَاكَ بِذا... فأَنتَ لاَشكَّ فيكَ السَّهْلُ والجَبَلُ
بل دافع عن وجهة نظري في كثير من المواضع بجدية وحزم.
وتظهر جديته في الحياة وحرصه على القيم من عدة أمور منها على سبيل المثال قوله في إهداء كتابه "الذئب في الأدب القديم" الذي طبع عام 2004م: "إلى كل مسلم عزيز النفس عالي الهمة، يرفض أن يكون من سقط المتاع، هملا في دنيا الناس، ليس بالخب ولكن الخب لا يخدعه، يأبى الذل والضيم والهوان، وإلى كل مؤمن يتمتع بالفراسة الصادقة، كيِّس فطن يقظ حذر، لا ينخدع بالترهات والأباطيل، يدرك مسؤوليته في الحياة".
وقائمة إنتاجه رحمه الله تشهد بالجدية في البحث العلمي، فمن سيرته العلمية كما في بوابة الأزهر الشريف مع بعض الإضافات:
ولد الأستاذ الدكتور زكريا النوتي- رحمه الله- عام 1956م، وحصل على الإجازة العالية «الليسانس» من كلية اللغة العربية بالقاهرة عام 1979م بتقدير جيد جدًّا مع مرتبة الشَّرف، والتحق بالدراسات العليا، وحصل على درجة التخصص (الماجستير) في الأدب والنقد عام 1986م بتقدير: ممتاز، عن رسالته: «خالد الجرنوسي: حياته وشعره»، وحاز درجة العالمية (الدكتوراه) عام 1990م بتقدير: مرتبة الشرف الأولى، عن رسالته: «شعر قبيلة بني سليم من الجاهلية حتى نهاية العصر الأموي".
عُيّن الراحل معيدًا في قسم الأدب والنقد عام 1981م، ثم مدرسًا مساعدًا عام 1986م، ثم مدرسًا عام 1990، ثم أستاذًا مساعدًا عام 1997م، ثم أستاذًا عام 2004م، وتوفي يوم الإثنين الموافق 16/ 08/ 2021م رحمه الله تعالى.
وكُلِّف الراحلُ عميدًا لكلية العلوم الإسلامية للوافدين، ومشرفًا على مركز اللغة العربية للناطقين بغيرها عام 2010م.
أثرى الأستاذ الدكتور زكريا النوتي المكتبة الأدبية والعربية بالعديد من المصنفات والمؤلفات العلمية، منها:
1- الأدب الجاهلي: تاريخه وقضاياه.
2- الأدب الأموي: تاريخه وقضاياه.
3- من الأدب الجاهلي: دراسة وتحليل ونقد.
4- تمرُّد «طرفة»: أسبابه وأصداؤه في شعره.
5- عدي بن الرقاع العاملي: حياته وشعره.
6- ميمية المتنبي ..اغتراب مرير وفارس أسير وحلم ضائع.
7- الذئب في الأدب القديم.
8- ثور الوحش بين النابغة وذي الرمة.
9- فلسفة القوة بين أبي تمام والمتنبي.
10- سينية البحتري: شاعرية المكان، المعادل الموضوعي، الرسم بالكلمات.
11- مصرع فارس في بلاد الغربة: قراءة تحليلية موازنة ليائيتي عبد يغوث ومالك بن الريب.
12- الحماسة فيما اختار أبو تمام للشاعرات.
13- قراءة جديدة في نصوص قديمة.
14- تفسير البحر المحيط لأبي حيان (تحقيق بالاشتراك).
15- تفسير أبي الليث السمرقندي (تحقيق بالاشتراك).
16- الذريعة في الأعداد الواردة في الشريعة (تحقيق بالاشتراك).
17- موسوعة نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم (بالاشتراك).
18-معلقة زهير قراءة جديدة في ضوء وحدة القصيدة.
19- في النص الشعري: العصر العباسي والمملوكي (بالاشتراك).
20- الغارة على اللغة العربية.
21-العلامة الدكتور يوسف القرضاوي شاعرا (دراسات في الأدب الإسلامي).
شغل الفقيدُ عضوية عدد من اللجان العلمية والأكاديميّة، منها: اللجنة العليا لبرامج التعليم الخاص (عضوًا)، لجنة إعداد وثيقة المعايير الأكاديمية ومكونات برنامج كليات اللغة العربية والشعب المناظرة (عضوًا)، لجنة المعايير الأكاديمية لمقرر الأدب والنصوص للتعليم ما قبل الجامعي (مقررًا)، لجنة المعايير الأكاديمية لمقرر (الأدب والمطالعة والنصوص) للتعليم ما قبل الجامعي (مقررًا)، لجنة إعداد أسئلة الثانوية الأزهرية (عضوًا)، لجنة تطوير المناهج بقطاع كليات اللغة العربية (عضوًا)، لجنة إعداد برنامج الدراسات العليا بجامعة تبوك (عضوًا)، كما عُين فضيلته نائبًا لمدير وحدة ضمان الجودة بالكلية عام 2008م.
وقد حصل الراحل على كثير من الدورات التدريبية، منها: دورة تطوير التعليم بالمجلس البريطاني (سبتمبر 2007م)، ثلاث دورات بالهيئة القومية لضمان الجودة؛ هي: التعريف بالهيئة القومية لضمان جودة التعليم والاعتماد، مفاهيم ومقومات نظم الجودة والاعتماد، معايير الدراسة الذاتية (مايو 2008م)، دورة إعداد مدربين بالمجلس البريطاني (يناير 2009م).
وكان آخر مقال نُشر له هو مقال (رمضانيات..الحال المرتحل) وكان لي شرف نشره، وإرسال الرابط له (https://www.arabgatenews.com/%d8%b1%d9%85%d8%b6%d8%a7%d9%86%d9%8a%d8%a7%d8%aa-)
. رحمه الله رحمة واسعة جزاء ما قدَّم!

 
مقالات اخرى
أضافة تعليق