مدخل:
إن الإنسان في ضوء حضوره الفاعل داخل إطاره المرجعي (العالَم الذي يحيا فيه)، وفي ضوء ثنائية التأثير والتأثر التي تهيمن على علاقته بهذا العالم يقدم استجابات تعبيرية، هذه الاستجابات تعد بمثابة انعكاس كاشف عن روح البيان الذي علمه الله سبحانه وتعالى لمخلوقه الإنسان([1])، والاستجابات التعبيرية هذه لا تتخذ في ظهورها شكلاً واحدًا، بل تتنوع في هيئتها التي يمكن تقسيمها قسمين: استجابات لغوية، واستجابات غير لغوية؛ وهذه الأخيرة قد تكون في شكل لوحة مرسومة، أو تمثال منحوت، أو مقطوعة موسيقية، أو غير ذلك، والحديث عن الاستجابات اللغوية يأخذنا إلى مستويين لغويين أثيرين في البيان الإنساني:
المستوى المباشر الذي تُقدَّم من خلاله الرؤى الفكرية والمكونات الشعورية العاطفية المجردة بصياغات لغوية يمكن نعتها بالوضوح الذي هو ضد الرمز والتخييل والمجاز.
المستوى غير المباشر أو الإيحائي الذي يميل إلى الخيال، وفي هذا المستوى يسكن الأدب بأنواعه المتعددة التي نعلمها عنه، ومع هذا المستوى تجد مجتمعات القراءة غير المكتفية بحد المتعة والتسلية فحسب، هي نفسها بحاجة إلى جهد في التأويل الذي يتجاوز حدود المعاني القريبة سهلة النيل إلى ما وراءها في عملية تقوم على الافتراض، وتتطلب قدرًا من الإلمام المعرفي بصفة عامة والنقدي بصفة خاصة.([2])
والكتابة فعل إنساني مميز، يعكس رغبة وثيقة الصلة بالفطرة في التسجيل من أجل إبراز الحضور وتلبيةً لرغبة في البقاء. إن المكونات الإدراكية للإنسان المتمثلة في العقل وفي القلب، ومعهما وسائل اتصال الإنسان بعالمه؛ ألا وهي الجوارح الخمسة: السمع، والبصر، والشم، والتذوق، واللمس؛ تشكل جميعها منطقة الفاعل المسؤول عن إنجاز فعل الكتابة؛ فالتدوين أداة مفعولية تتأثر بعمليات الإنجاز التي تتم بفعل الاستقبال من العالم، ثم يتحول ما يتم استقباله إلى رؤية مجردة على المستوى الذهني والشعوري، تتطور في مرحلة لاحقة إلى وجود فيزيقي ملموس عبر أشكال عدة، من بينها اللغة، وفعل الكتابة المتصل بها.
ولا شك في أن حياة الإنسان على الأرض بصفة عامة والمنجز الحضاري الملازم لها، يقوم على معادلة تتكون من: عالم+ إنسان (عقل، قلب، جوارح)+ تسجيل باللغة= مُنجَز، هذا المنجز الذي يشغل موقع المفعول، أو ناتج هذه المعادلة هو بمثابة فعل حركي يعتمد على النقل من حالة التجرد إلى حالة الحضور الملموس القابل للإدراك عبر ذوات أخرى في أطر زمانية ومكانية مغايرة، في ظل مسلمة تداولية ذات طبيعة قائمة على التجدد والاستمرار.([3])
اتجاهات الكتابة
والنقل من خلال اللغة يأخذنا في اتجاهين:
النقل المحايد أو الموضوعي: وفي هذا الاتجاه يؤدي الكاتب دور الناسخ الذي لا يتدخل بإعادة صياغة أو تعليق أو إصدار أحكام أو حذف أو إضافة لما يتم نسخه، وهي عملية تحيلنا إلى مرحلة شديدة الأهمية في تاريخ البناء الحضاري العربي الإسلامي، يُطلق عليها مرحلة التدوين، التي شهدها القرن الثاني والثالث الهجريين، وكان للأدب وبخاصة فن الشعر والتاريخ وخصوصًا أيام العرب والسير والمغازي والحديث النبوي الشريف النصيب الأكبر من الاهتمام في ذلك العصر.
وتجدر الإشارة إلى أن الحديث عن عصر التدوين وطبيعة النشاط الذي تم فيه ليس إلا مثالاً على هذا النوع من الكتابة الذي يؤدي فيه الفاعل القائم بالتدوين دور الوسيط بين طرفين، في عمليةٍ الغرضُ منها الحفاظ على المادة المعرفية من الاندثار أو النسيان أو التبديل والتحريف([4])، وفق مقتضيات وثيقة الصلة بزمانها ومكانها وما يجري فيهما من ملابسات، تجعل من التسجيل بالكتابة قناعة أو حتمية لخدمة غايات فردية أو جمعية، أو للاثنين معًا.
النقل الذاتي: في هذا الاتجاه يجنح هذا السلوك الإنساني نحو الفردية الوثيقة الصلة بوجهة نظر وبموقف فكري وشعوري متصل بذات محددة؛ ومن ثم فإن المجرد الساكن منطقة العقل والقلب سيخرج إلى فضاء التداول ممزوجًا بهذه الذات، وبما تؤمن به وبما تتبناه من مواقف فكرية وحالات عاطفية، إذا كان المكتوب معبرًا بصدق عن المخبوء في وعيها، بعيدًا عن اعتبارات الكذب أو التزييف أو الادعاء؛ ومن ثم فإن هذه العبارة الأثيرة لبوفون: "الأسلوب هو الرجل"؛ ربما تكون انعكاسًا واضحًا لهذه الحالة في النقل؛ لذا فإن أنساقًا كتابية مثل: الشعر، والقصة، والرواية، والمسرحية، والمقال؛ بالنظر إلى الأدب على سبيل المثال، ويلحق بها مدونات أخرى تنتمي إلى حقول معرفية متنوعة يعتمد أصحابها على الرأي والتعليق والإضافة والابتكار، تعد جميعها نموذجًا يصح الاستشهاد به على هذا الاتجاه في الكتابة.
مفاهيم الكتابة:
إن فعل الكتابة في عمومه إذًا يسير بنا باتجاه مفهومين: الإنشاء أو الابتكار، في مقابل النسخ الذي يؤدي فيه الكاتب دور الوسيط دون تدخل منه ينحو به نحو الذاتية.
أما عن الإنشاء أو الابتكار فإن فعل الكتابة فيه يتأسس على ما يتم تدوينه من محتوى قد ارتبط في وجوده بالإنسان الفرد المعبِّر الذي يعد بمثابة الفاعل الرائد المرسِل له بدايةً، وفي مجال المعرفة الإنسانية عمومًا نجد أن ما تم ويتم إنجازه من نظريات وبالتوازي معها مفاهيم/ مصطلحات، على اختلاف أنماط هذه المعرفة تعد نموذجًا لهذا اللفظ الأثير الذي تحدثنا عنه سالفًا؛ ألا وهو الإنشاء أو الابتكار.
وينبغي في ضوء هذا التصور التأسيس لوعي مفاده ألَّا حدود فصل صارمة بين الاتجاهين المتصلين بالتدوين؛ أي المحايد، والذاتي؛ لأن الكتابة سلوك إنساني يقوم على عملية استدعاء بشكل مقصود أو لا إرادي غير متعمد؛ فما تسطره يد الإنسان يعد نتيجة أو انعكاسًا لفعل إنساني سابق عليه؛ ألا وهو الفعل: قرأ، الذي يشير إلى الإنسان واستقباله من عالمه، وتأثره بما يجري فيهن وما هو كائن فيه في طور له الأسبقية من حيث الحضور([5])، ثم تأتي مرحلة الكتابة من قبل الذات الإنسانية المنجزة لهذا الفعل؛ أي فعل الكتابة؛ لتكون معبرة بجلاء عن حالة من التلاقي والتضافر والتمازج والاندماج بين ما هو منتمٍ إلى غيرها، وما اصطنعته بنفسها من رؤى ومفاهيم قد ارتبطت في ظهورها الأول بها مباشرةً.
ولا شك في أن الكتابات التي تتوخى الدقة، وتحرص على ما يمكن تسميته المصداقية تحرص على الفصل بين ما هو ملك للكاتب من ناحية، وما هو ملك لغيره من ناحية ثانية، في إطار عمليات الاقتباس والتوثيق وما يعلق بها من قضايا؛ وعلى ذلك يمكن القول: إن جُل ما يتم إنجازه من معرفة يتم توزيعها على حقول الفكر الإنساني المتنوعة تقدم لنا فعل الكتابة في هيئة يجتمع فيها ما هو موضوعي، وما هو ذاتي؛ بما يجعل من ثنائية (السابق واللاحق) مسلَّمة إنسانية بديهية في تداول المعرفة، وفي نقل الخبرات بين الأجيال عبر الزمن وبين أبناء الأسرة الإنسانية على اختلاف لغاتهم وثقافاتهم.
وإذا نظرنا إلى حقل ما يسمى بالإبداع الفني على اختلاف أنواعه من أدب وغيره وإلى حقل الأدب على اختلاف فنونه من شعر ونثر بأنواعهما التي تنضوي تحتهما؛ نجد أن العالَم الذي يمتح منه هذا الفنان المبدع، ويستقي منه عناصر يبني من خلالها عالمه الموازي الذي اصطنعه بقلمه نجد أنه في علاقته بهذا العالم الخارجي المحيط به من جهة، وفي علاقته بأقرانه من أبناء الصنعة التي ينتمي هو إليها السابقين عليه والمعاصرين له وتأثره بهم من جهة أخرى، يجعلنا على قناعة مفادها: أن الموضوعية المحضة في التدوين، أو الذاتية المحضة؛ مسألة قابلة للجدل والتفنيد والطعن، فإن ما يسمى بالتناص أو التناصية التي تقوم على تجاوز النص حدوده الذاتية بانفتاحه على نصوص وسياقات معرفية أخرى، هذه التناصية التي تتيح النص وإن كان مؤلفه واحدًا أن يكون أشبه بحالة حوارية، أو بسيمفونية تقوم على تعددية صوتية، هذا التناص أو التناصية يشكل حالة إنسانية عامة؛ فكل إنسان هو كيان قائم على التلقي والتأثر والتشبع من خارجه ومن غيره؛ يهضم ويعيد الصياغة والترتيب والإضافة؛ ليخرج ويرسل مصنوعه إلى العالم ليستقبله غيره([6]).. وهكذا في عملية مضارعة لها صفة التجدد والاستمرار.
ويتبين هذا الطرح بجلاء إذا ما توقفنا أمام قوله تعالى: ((اقرأْ بِاسمِ رَبِّك الَّذي خَلَقْ* خَلَقَ الإنسانَ مِنْ عَلَق* اقرأ وربُّك الأكرم* الذي عَلَّم بالقلم* عَلَّم الإنسانَ ما لمْ يَعْلمْ)).([7])
إن الكتابة إذًا سلوك يأتي تاليًا لفعل له الأسبقية عليه دائمًا؛ ألا وهو فعل القراءة، الذي يعني الأخذ والاستقبال، قبل أن يتحول هذا الفاعل القارئ الآخذ بعد ذلك إلى مرسِل مُعْطٍ، يجد نفسه على قناعة أنه قد تَكَوَّنَ عنده ما يمكن أن يتلقاه عنه غيره.
[1])) يقول الله سبحانه في سورة الرحمن: "الرحمن* علمَّ القرآن* خلق الإنسان* علَّمه البيان". الآيات 1-4.
[2])) انظر: د.أحمد يحيى علي، بين التعبير الإنساني والمحاكاة، فبراير 2022م، مجلة الرافد، دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة.
[3])) انظر: د.أحمد يحيى علي، جماليات الوصف في لغتنا العربية، إبريل 2016م، منتدى مجمع اللغة العربية على الشبكة العالمية، الرياض.
[4])) انظر: د. محمد قاسم عبد الله، سيكولوجية الذاكرة، ص37-40، العدد 290، فبراير 2003م، عالم المعرفة، الكويت.
[5])) انظر: تشارلس مورجان، الكاتب وعالمه، ترجمة: د. شكري محمد عياد، ص23-24، طبعة 2012م، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة.
[6])) انظر: حميد لحمداني، القراءة وتوليد الدلالة، ص11-12، الطبعة الأولى، 2003م، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء.
[7])) سورة العلق: 1-5.