لا تزال ثورة الـ25 من يناير/كانون الثاني 2011 تمثل الحدث السياسي الأبرز في مصر على مدار 50 عامًا الأخيرة، فهي حدث عظيم في كنهه وكينونته، وإن لم يكن كذلك ففيما أفضى إليه لاحقًا من نتائج؛ فقد أطاحت الثورة رأس واحد من أطول أنظمة الحكم بمصر في تاريخها الحديث، وأكثرها فسادًا واستبدادًا وفشلًا على المستويات كافة. ومع التسليم بأن الثورة، أي ثورة، تمثل حدثًا استثنائيا في تاريخ الشعوب والمجتمعات، فإن فشل هذه الثورة في تحقيق أهدافها وأهمها الحرية والعدالة والكرامة، يدفع إلى ضرورة إعادة التفكير فيها وفي مآلاتها، والاستفادة من الدروس الممكنة من هذه التجربة.
ومن هنا يغدو من الضروري طرح مجموعة من الأسئلة الجذرية المهمة المتعلقة بالثورة المصرية، ثورة الـ25 من يناير/كانون الثاني 2011، خاصة ونحن نعيش ذكراها العاشرة هذه الأيام. وهي أسئلة لا توجد عنها، حتى الآن، إجابات قاطعة أو واضحة، سواء لدى كاتب هذه السطور، أو لدى الفاعلين السياسيين ممن شاركوا في ذلك الحدث الاستثنائي. كما أنها أيضا محاولة لإثارة التفكير في ما تطرحه هذه الأسئلة من مسائل وقضايا بحاجة إلى التفكيك والفهم. وليس الأمر هنا من قبيل الرفاهية الفكرية أو الجدل الأكاديمي النظري، بل انطلاق من المسؤولية الأخلاقية والهمّ الوطني بكيفية الخروج من الوضع السياسي البائس في مصر نحو أفق تغيير جديد يضع المواطن المصري في القلب منه وليس على هامشه.
السؤال المهم الآخر هو: لماذا فشلت القوى السياسية التي تحركت في ثورة يناير في الاتفاق على مشروع للانتقال السياسي؟ وهل كان الأمر متعلقًا بالخلافات الأيديولوجية والسياسية بين هذه القوى؟ أم إنه تعلّق بعدم الثقة والخوف المتبادل بينهما منذ مرحلة ما قبل الثورة؟
ولعل أول وأهم هذه الأسئلة هو: كيف نوصّف ما حدث في الـ25 من يناير/كانون الثاني 2011؟ فهل كان ثورة حقيقة شاملة، أم إنه كان مجرد فعل ثوري أدى إلى إطاحة رأس النظام في الـ11 من فبراير/شباط 2011؟ أم كانت هبّة وانتفاضة شعبية احتجاجا على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والضغط من أجل تحسينها دون الحاجة بالضرورة إلى تغيير النظام السياسي؟ أم إننا كنّا إزاء نصف ثورة ونصف انقلاب إذ كان الجيش شريكًا ولاعبًا مؤثرًا وفاعلًا منذ الأيام الأولى لثورة يناير؟
قد يرى البعض أن هذا السؤال غير مهم، وذلك على اعتبار أن ما حدث قد حدث، ولكنني أعتقد أنه سؤال مهم ومؤسس في الذكرى العاشرة لثورة يناير، وأهمية السؤال لا تنبع فقط من المعلومات والتسريبات والمذكرات التي ظهرت على مدار السنوات العشر الماضية خاصة مذكرات الرئيس الأميركي باراك أوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون، التي تشير بوضوح إلى أن المجلس العسكري كان هو اللاعب الرئيس في كل أحداث الثورة، بل لأنه أيضا سؤال مفيد في كيفية التعاطي مع العسكر في أي مرحلة مستقبلية قد تحمل احتمالات للتغيير عبر انتفاضة أخرى أو انتقال سياسي.
وباعتقادي فإنه لا توجد مناسبة مهمة أكثر من مناسبة مرور عقد على الثورة لطرح مثل هذا السؤال (سؤال التوصيف والتصنيف لما حدث في الـ25 من يناير/كانون الثاني) وغيره من الأسئلة الملحّة، مثل سؤال لماذا فشلت الثورة؟ وسؤال غياب المشروع السياسي البديل، والسؤال عن الاختيار بين المسارات السياسية والثورية؛ فمن دون فهم ملابسات تلك الثورة، وكثير منها لا يزال مخفيًا وغامضًا، فلن يمكن المرور إلى الأمام، ولا يُعلم أنه إذا ما وقعت أحداث مشابهة في المستقبل (القريب ربما)، كيف سيكون التعاطي معها؟ فالوصف والتصنيف هنا ليسا مسألة نظرية أو أكاديمية محضة تُثار على سبيل الرفاهة الفكرية، بل تقع في قلب فهم تعقيدات المشهد السياسي في مصر، ومعرفة تشابك علاقات القوة وتوزيعها بين مراكز السلطة المختلفة.
أما السؤال المهم الأخر فهو: لماذا فشلت القوى السياسية التي تحركت في ثورة يناير في الاتفاق على مشروع للانتقال السياسي؟ وهل كان الأمر متعلقًا بالخلافات الأيديولوجية والسياسية بين هذه القوى؟ أم إنه تعلق بعدم الثقة والخوف المتبادل بينهما منذ مرحلة ما قبل الثورة؟ أم كان متعلقًا باستغلال العسكر هذه الخلافات والنفخ فيها؟ أم ارتبط بضعف الالتزام الديمقراطي للنخب السياسية بمختلف ألوانها وأطيافها؟ فخبرة السنوات العشر الماضية تكشف بما لا يدع مجالًا للشك عن أن الخلافات والانقسامات بين القوى السياسية المصرية تكاد تكون بنيوية وليست خلافات عابرة، وذلك على الرغم من القمع الشديد الذي تتعرض له جميع هذه القوى على يد العسكر، وهو ما يتضح في كل مناسبة سياسية بما فيها الذكرى السنوية لثورة يناير التي يتبادل فيها الفرقاء اللوم والعتاب على فشل الثورة.
ولعل أخر الأسئلة وأهمها، وأكثرها صعوبة، هو كيفية التعامل مع العسكر، وإلى أي مدى يمكن أن يكونوا شركاء في أي عملية انتقالية. وبوجه عام لا توجد جيوش يمكنها أن تقود عملية انتقال سياسي ديمقراطي في الأنظمة السلطوية إلا في حالات استثنائية. فالعسكر، خاصة في العالم العربي، لا يثقون بالنخب المدنية لأسباب تاريخية ونفسية وسياسية ومصلحية، وفي كثير من الحالات يعتقدون أنهم الأحق والأجدر والأفضل لقيادة البلدان من أجل الحفاظ عليها من الانقسامات السياسية وذلك تحت غطاء ادّعاء الحفاظ على الأمن والاستقرار. ولذا فإن عملية إخراج العسكر من السلطة، ولاحقًا من السياسية، خاصة في بلد مثل مصر يحكمه العسكر دون شريك منذ أكثر من 60 عامًا، لن تكون على الإطلاق سهلة أو هيّنة، بل سيحتاج الأمر إلى عقود من التفاوض والضمانات للجنرالات، هذا إذا افترضنا أن ذلك حدث نتيجة تحولات جوهرية سواء بسبب ثورة أو هزيمة أو فشل ذريع في إدارة البلاد.
هذه الأسئلة، وغيرها، على درجة كبيرة من الأهمية، وهي ليست أسئلة نظرية محضة، بل أسئلة واقعية ترتبط بأصل الأزمة السياسية في مصر، كما أن الإجابة عنها قد تساعدنا على التفكير في كيفية الخروج من الوضع الحالي في مصر، ومن دون الإجابة عنها سوف تتكرر أخطاء الماضي نفسها، وسنظل ندور في الحلقة المفرغة ذاتها في حين أن حكم الجنرالات يزداد هيمنة وسيطرة على البلاد والعباد.