يُعدُّ "الاقتصاد الاجتماعي" من المدخلات والمخرجات الرئيسة للعمل الخيري سواءً في أخذ وقبول هبات المال وما شابه هذا، أو في العطاء للآخرين من المستحقين، وهذا النوع من الاقتصاد يُعدًّ محركاً للسوق، خاصةً إذا أضيف له ما يسمى بالمشاريع الصغيرة ومشاريع الأسر المنتجة التي غالباً ما تكون مدعومة من الجمعيات الخيرية، وهو مما يُنعش اقتصاد الدول، كما هي التجربة الكينية وبعض دول أفريقيا والهند، بل وفرنسا وبلجيكا والسويد التي تَعتَبِرُ الاقتصاد الاجتماعي من محركات الاقتصاد العام للدول.
وقد أَدْرَكَت دولة ألمانيا –على سبيل المثال- أهمية هذا المُحرك للاقتصاد العام للدولة حينما أعطت هذا القطاع أولوية في الدعم من خلال ما يُسمى عطاء الضمان الاجتماعي الشهري أو الأسبوعي لديهم، حيث بلغت ميزانية العطاء الحكومي في بعض السنوات 60% من ميزانية الدولة، واللافت للنظر في هذا، أن هذا العطاء يُعدُّ محركاً كبيراً لسوق الشراء والبيع والإنتاج، خاصةً حينما يكون وقت صرف هذه المخصصات أسبوعياً وشهرياً فتتحرك الأسواق بالعمليات الشرائية.
يأتي هذا حينما أصبح العمل الخيري عالمياً بكل صوره وأشكاله معياراً من أبرز معايير تقدم الدول وحضارتها، فهو من أوضح مظاهر الاستقرار الاجتماعي، والعدالة الاجتماعية بين أهل الثراء وأصحاب الاحتياج، حيث هذه الخيرية تتجاوز بالإنسان الأنانية وحب الذات والمال إلى الروح الجماعية والتضحية والإيثار مما ينعكس على الأمن الاجتماعي، ويُعدُّ الوقف في الإسلام من أقوى قيم الخيرية، حيث العطاء وانعكاساته التنموية المستدامة على الإنسان والمكان، وبالتالي فالوقف محرك كبير للاقتصاد الاجتماعي وهذا ما تميزت به المجتمعات والعواصم الإسلامية عبر التاريخ، من خلال هذه الشعيرة التي تنوعت مُخرجاتها وثَمراتها، فأصبحت بتنوعها معياراً لمدى ما وصلت إليه الأمة الإسلامية من رُقيٍ وحضارة، وقد استفادت دول الغرب من أمة الإسلام حول هذه القيم حسب كتابات منصفيهم، وأصبح العطاء الخيري يُعدُّ لدى معظم الأمم والدول، معياراً في التقدم بديلاً عن معيار دخل الفرد.
وقد تنبه المُحتَل لما تمنحه الأوقاف للأمة الإسلامي، من قوةٍ معنويةٍ ومادية، فَعَمِل في كل حملةٍ من حملاته الصليبية الاستعمارية على إلغائها أو إضعافها وتهميشها في حياة المسلمين بصورٍ متعددة، ومما يؤكد هذا ما كتبه أمير البيان شكيب أرسلان الذي عاش بنفسه هذا الواقع ورآه في سياسات المحتل تجاه الأوقاف، وهو ما يتكرر في كل مكان وزمان، حيث قال: "الإفرنج لا يكرهون في الدنيا شيئاً كرههم للأوقاف الإسلامية، ولا يخافون في مستعمراتهم من شيء كمخافتهم منها، لأنهم يعتقدون أن المسلمين إذا أحسنوا إدارتها وضبطوا حاصلاتها كان لهم منها منبع إعداد عظيم في أمورهم السياسية، فلذلك تراهم يسعون بقدر طاقتهم في مَحْوِ رسومها"، والسر في ذلك أن الأوقاف في أصلها الشرعي، وفي تجربتها التاريخية، تُعد قوة مادية ومعنوية لوحدة الشعوب وقوة المجتمعات وصمودها، ومن وسائل نهضتها حتى مع ضعف الدول وزوال الحكومات، أو سقوطها.
وبلدات هذا (الوطن المبارك) مثل غيرها من بلاد المسلمين عامة، بل إن بلدات ومجتمعات (بلاد الحرمين) بالذات كان لها إسهامات مشهودة ومكتوبة في مجالات الأوقاف خاصةً قبل مأسستها وترسيم إداراتها، وذلك حينما كانت الأوقاف لوحدها تقريباً من أقوى مصادر التنمية البشرية والمالية، وتتأكد أهمية الأوقاف الرعوية والتنموية آنذاك في أزمنة كان تنوعها يُعدُّ الأبرز في توفير خدمة الغذاء، وسدِّ الحاجات المتنوعة، وحينما كانت مصدراً من مصادر تشغيل القضاء والقضاة، وإمامة المساجد، والإنفاق على العلم والعلماء في مجتمعاتهم المحلية، وذلك قبل مفاهيم الدولة المركزية أو الرعوية، لا سيما مع واقع الحاجة الشديدة للموارد، ومع عدم الوفرة المادية لدى الحكومة أو الدولة، حتى أن المجتمعات ببدائيتها وإدارتها الذاتية المحلية لأوقافها وبلدانها كانت تُمثِّل (المجتمعات التعاونية) على حقيقتها، أكثر من واقع مجتمعات الوفرة والاقتصاد فيما بعد ذلك، فالأوقاف قديماً باستقلاليتها المحلية عن الإدارة البيروقراطية والمركزية، كانت ثقافة عامة عند كثير من الناس عامتهم وخاصتهم، وكان يُعظَّمُ من شأنها بشكلٍ كبير في ظل الدوافع الإيمانية، ومخرجاتها كانت مشهودة في كل مجتمع محلي.
فالنمو للأوقاف والأعمال الخيرية في المجتمعات المحلية في عصورٍ مضت أقوى منه نسبياً بعد وجود الدولة الرعوية المركزية، مما قد يصدق على أن تلك المجتمعات البدائية بتعاونها وأوقافها وتطوعها، أقرب ما تكون إلى ما يسمى في العصر الحاضر المجتمعات المدنية والأهلية أو مجتمعات القطاع الثالث والتنمية، حيث العطاء الاجتماعي والتعاوني لا ينقطع بين الناس، فعناصر التنمية وإن كانت محدودة ومرتبطة بالإنسان وإمكانياته المادية المحدودة في نفس المكان، إلا أنها كانت لها آثار مباركة مشهودة (كتاب الرس وأدوار تاريخية في الوحدة: ص192-193).
فالعمل الخيري التطوعي أو الأهلي كان ناجحاً كذلك بإسهاماته الفعلية بالاقتصاد الاجتماعي قبل أن تكون هذه التسمية، حيث قوة دوافعه الدينية، واحتياج المجتمعات له، وحرية الحركة الإدارية فيه، خلافاً لواقعه المتأخر بعد نشوء الوزارات المعنية به حينما اجتمع ضعف الدعم المالي من القطاع الحكومي والتجاري مع المركزية والبيروقراطية المعيقة! وصاحب هذا ضعف تمكينه من الحصول على الموارد المالية المتنوعة الكافية التي تصنع منه مُحرِّكاً للاقتصاد ومُتحركاً به، وهو ما يستوجب رفع الحالة المتدنية من الفهم والوعي المجتمعي والحكومي حول الأدوار التكاملية لقطاعات الدولة ودور (الاقتصاد الاجتماعي) فيها، فهذا الضعف لهذا الاقتصاد مما يزيد من الأعباء على القطاع الحكومي ومما يُربك سياساته واستراتيجياته، كما أن هذا الواقع للاقتصاد الاجتماعي مما يُضعف دورات عموم الاقتصاد للقطاع الأهلي كذلك، حيث تنخفض المشتريات ويقل الطلب على السوق وحركته الشرائية في ظل ضعف هذا الاقتصاد الاجتماعي.
ومن المهم معرفة أن المجتمعات البسيطة أو الفقيرة التي تكثر فيها الحاجة والفقر تتلازم معها –في الغالب- أعمال التطوع وفزعات التعاون كجزء لا يتجزأ من شخصيتها وأحوالها، بينما مجتمعات الثراء والوفرة والاستهلاك تكون فيها الأعمال التطوعية والتعاونية شيئاً ثانوياً في غالب أحوالها، وهذا مشاهد عالمياً وبارز جداً في الحياة الاجتماعية في دول الخليج، وبالرغم من كل الخطط الخمسية والرؤى المستقبلية التي تَحثُّ وتؤكد على أهمية القطاع الخيري ودوره التنموي والرعوي المأمول، لكن عجلة الشراكة التنموية بهذا القطاع بطيئة، وربما متعثرة سواءً على مستوى الخطط الرسمية! أم على مستوى الطموحات الأهلية!
والسؤال الكبير الذي يحتاج إلى إجابة هو هل "جائحة كورونا" بتداعياتها الاقتصادية العنيفة سوف تُعزِّز قِيَم التطوع وقيم العطاء وتُمكِّن لهذا الاقتصاد الاجتماعي المهم؟ وهل هذه التداعيات سوف تدعم مَنْح هذا القطاع حقوقه ليتبوأ مكانهُ (قطاعاً ثالثاً) فاعلاً رعوياً وتنموياً في الوقت ذاته؟
ومع صعوبة الإجابة كاملة عن هذا السؤال، أرى أن الرجوع لقراءة بعض تاريخ الآباء والأجداد حول واقع مجتمعاتنا القديمة، مع قراءة أشمل عن دور الاقتصاد الاجتماعي في الاقتصاد العام للدول المعاصرة، هو ما سوف يساعد في الإجابة، فالتعاون والتطوع والعطاء والأوقاف كانت تمنح التكامل فيما بين جماعات القرى والبلدات، وهذا هو السائد بين الناس بالرغم من ضعف الوفرة، فمحرِّكَات الخيرية ودوافعها من التراحم والتعاطف كصرف الزكاة والإنفاق الخيري كان سائداً بكل صوره، وهو من سمات المجتمعات الحضارية في ديننا الإسلامي، كما أن هذا القطاع في عطائه وإنجاح الاقتصاد الاجتماعي من أبرز سمات الحضارة المعاصرة كذلك.
ولما سبق فإنني أعتقد جازماً –كباحث في هذا القطاع- في ظل بعض المعطيات العلمية المهمة والمتغيرات والتحولات أن الحكومات في دول الخليج بعد أزمة كورونا والأزمات الاقتصادية الحالية، والرؤى المستقبلية الخطيرة لأسعار البترول، ستكون أكثر حاجة إلى دعم هذا القطاع مالياً وإدارياً وحقوقياً وإلى دعم أدواره الرعوية والتنموية، نظراً للاحتياج المستقبلي بكثرة إلى هذا القطاع التطوعي الخيري الاقتصادي، ونظراً لأهمية التكامل والتوازن بين القطاعات الثلاثة للدول في عصور التحديات أكثر من قبل.
كما أعتقد –كباحث في هذا الشأن- أن مؤسسات هذا القطاع وجمعياته ستكون مُهدَّدة بحالات من الضعف أو التوقف في الإنفاق والمساعدات، وربما الإقفال، لا سيما إذا لم تُخصص لها ميزانيات ثابتة بدعمٍ كافٍ من الموارد المالية العامة للدولة، ومن الأوقاف العامة، والزكاة العامة، وتخصيص بعض عوائد الضرائب أو الغرامات أو نسب معينة منها، وإذا لم يتم تنشيط قيم العطاء والتعاون الاجتماعي بين الأفراد والأسر بعضهم مع بعض –كما هو واقع المجتمعات قبل المأسسة والجمعيات وترسيم الوقفيات- كرديف قوي في سد الاحتياجات مع المؤسسات والجمعيات الخيرية، فإذا لم يكن كل هذا أو معظمه فإن غياب هذا القطاع الفاعل والمهم بأدواره هو ما سَيُؤثِّر سلباً على منظومة خطط الدولة الاستراتيجية المعنية بالجانب الرعوي والتنموي والمهتمة بالدورات الاقتصادية المحلية، وبالتالي ستكون لهذا انعكاسات اجتماعية خطرة، وارتباك في منظومة الاقتصاد أكثر، فـ(الاقتصاد الاجتماعي) قطاع لا يستهان به في منظومات الاقتصاد والتنمية والأمن بكل صوره، بل إنه مُسهم كبير في الإصلاح الإداري لبعض الدول والإنقاذ والحل لأخرى على مستوى الدول الغنية والفقيرة على حدٍّ سواء .
وهذه الأهمية الكبيرة لهذا القطاع مع هذا الواقع من التداعيات الاقتصادية مما يتطلب المزيد من المبادرات العملية من كل جهات الاختصاص لصناعة (قطاع ثالث) يقف قوياً مع مؤسسات القطاع الحكومي والقطاع التجاري لبناء منظومة فعلية تتكامل فيها القطاعات وتُجنِّب الدولة والمجتمع مخاطر المرحلة وتحدياتها، ومن الله -وحده- التوفيق.