صدق نبي الرحمة ومشرع الخيرية لخير أمة على وجه الأرض في توصيف فئام من الناس يختارهم الله لخدمة عباده بأعمال الخير والعطاء، ومشاريع البر والإحسان، وآخرين مصطفين منهم ليكونوا روادا ورموزا وقادة في الأعمال والمشاريع، بل وأدلاء للعباد مفاتيح للخير مغاليق للشر في ميادين الحياة الواسعة كسعة الأرض والسماء، وهؤلاء وأمثالهم قال عنهم نبي هذه الأمة صلى الله عليه وسلم (إن من الناس مفاتيح للخير، مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر، مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه) [السلسلة الصحيحة للألباني: 1332].
ومن هؤلاء المفاتيح من يبادرون في إطلاق أفكار المشاريع الخيرية التنموية، فيكون منهم عطاء النفس وهي المكافأة المثلى للنفس البشرية، وعطاء الوقت بتحرير نفسه من رق الحياة وظروفها ومباهجها، ويكون من هؤلاء عطاء الجهد والطاقة وعطاء المال وإصلاح الأحوال، وهم في الوقت نفسه ممن يسنون السنن الحسنة للتاجر والمحسن، وللمحتاج والمجتمع على حد سواء، وعنهم قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من سن سنة حسنة فعمل بها، كان له أجرها ومثل أجر من عمل بها، لا ينقص من أجورهم شيئا) [صحيح ابن ماجه: 169].
ثم كيف بمن يجمعون بين فتح المشاريع بهدوء وصمت! وتواضع وتجرد من الذات لقطاع الخير والإحسان! مع إطلاق السنن الحسنة والمبادرات! وأحسب أن الشيخ فريح بن علي العقلا - رحمه الله - حبيب الجميع من الضعفاء والمساكين والمحتاجين، ورفيق التجار والمحسنين، وصديق البيئة والمجتمع، واللطيف المبتسم مع أحبابه وإخوانه، وسفير العطاء والإحسان لبلده وإخوانه من المسلمين أجمعين، حينما كان شعاره العملي بميدان العطاء (المشتركات أكثر من الاختلافات) وإن لم يكن هذا الرجل - نحسبه والله حسيبه - من رواد البناء والعطاء للإنسان والمكان والأوطان فمن يكون!
إنه المفتاح المؤسس للمشروع الخيري للزواج بجدة قبل ترسيمه وتسميته الجديدة (الجمعية الخيرية لمساعدة الشباب على الزواج والتوجيه الأسري 1409هـ) المشروع الذي كان يشغل باله قبل زواجه حينما كان طالبا في الجامعة، وبعد تخرجه منها كما حدثني بهذا رحمه الله، وحينما استقر به المقام في جدة وجد ثلة من إخوانه الفضلاء من الوجهاء والدعاة والمحسنين، إضافة إلى رجال العمل والإدارة كانوا عونا له في تأسيس وإنجاح هذا المشروع الذي كان من السنن الحسنة للبلاد والعباد، لا سيما مع قلة أو ندرة هذه المشاريع التنموية النوعية المؤسسية الحضارية آنذاك عام 1400هـ تقريبا، وهي المشاريع النوعية المعنية ببناء الإنسان وعمران الأوطان تأسيسا ووقاية وعلاجا.
فالمشروع وصاحب الفكرة أصبحا مفتاحا للخير بافتتاح مشاريع مماثلة في مناطق المملكة الأخرى وبأوقاف داعمة، فكما أن المشروع كان مفتاح خير في جدة مغلاقا للشر والفساد المحتمل كانت مشاريع اقتداء ناجحة أخرى، إضافة إلى أن هذا المشروع معني بدعم النواة الأولى لتكوين الأسرة الصالحة، والزواج بحد ذاته مقبرة الانحراف السلوكي والفساد الاجتماعي، فالشيخ بهذا العمل يعد من مغاليق الشر وأبوابه ووسائله نحسبه والله حسيبه.
ولم يكتف (الرجل المفتاح) بهذا، فقد عمل على بناء وقف متواضع بغرف محدودة لذوي الدخل الصغير جدا ليعيشوا السنة الأولى من حياتهم الزوجية، وربما السنة الثانية أو الثالثة من الزواج بإيجار رمزي ليتحقق للأسرة الجديدة والنواة الأولى الاستقرار والسكن والمودة والرحمة، حتى يشقوا الطريق الطويل من الحياة.
وكان كذلك مفتاحا لمشروع يحقق القرض الحسن للمحتاجين؛ حيث تبنى بنفسه مشروعا متواضعا ما لبث أن ازداد نموه وتنميته، وكانت له ثمرات يانعات، وذلك بدعم من أحد التجار المحسنين برأسمال يقوم على تدوير المال بين المحتاجين أسماه مشروع (القرض الحسن) لعموم المحتاجين، وكانت نسبة التسديد تتجاوز 95% في أحيان كثيرة حسب قوله رحمه الله، وقد جاءت هذه المشاريع ونوافذ الخير لخدمة مشروع يدعم الفرد والأسرة والمجتمع، وهي مفاتيح متعددة في مفتاح من النية الحسنة، والإرادة القوية الصادقة، التي ذللت له التحديات والصعاب، فتنادى معه الأصدقاء والأصحاب، ليتسلموا إدارات مفاتيح الخير ومغاليق الشر، وليكون إخوانه في الله وأصحابه وزملاؤه من أهل الإدارة والعطاء وسائل نجاح وإشهار مؤسسي لمشاريع أصبحت مشهودة في التاريخ الاجتماعي لبلاد الحرمين الشريفين، لا سيما بعد انتشارها في معظم مناطق المملكة العربية السعودية، وحق للبلاد أن تفخر بهذه المشاريع التي تسهم في تحقيق الأمن الاجتماعي.
وقام (الرجل المفتاح) كذلك مع ثلة من الأخيار بإنشاء مشروع آخر باسم (جمعية المودة للتنمية الأسرية) بجوار مسجد المودة الذي كان الشيخ من أبرز مفاتيح تأسيسه كذلك، لتقدم هذه الجمعية أنواع الدعم الأسري، والتوجيهات الاجتماعية، والدورات التربوية بمستويات متعددة وأنماط متنوعة من الجلسات الاستشارية، وإصلاح ذات البين، وطباعة الكتيبات والبرامج المتخصصة، والمحاضرات والدروس الهادفة، ليكتمل بهذا فتح الكثير من أبواب الخير ونشر الطمأنينة الأسرية والسكينة والمودة والرحمة، وإغلاق كثير من أبواب الشر على المجتمع المستهدف من أعدائه بتقويض بنائه، وتماسكه الأسري وقوته الاجتماعية وسعادته النفسية.
وهو (الرجل المفتاح) في ميلاد (جمعية كفى للتوعية بأضرار التدخين والمخدرات) بمنطقة مكة المكرمة، الجمعية التي تعد من مغاليق الشرور والأضرار الصحية والمجتمعية، حينما تنادى معه مجموعة من خيرة أعيان جدة، فقدمت الجمعية الدراسات والاستشارات والمحاضرات والتوعية المجتمعية، وكان من التفاعل الإيجابي أن توقفت محلات وبقالات في بعض أحياء محافظة جدة عن بيع "الدخان" كوقاية قبل العلاج.
فالتبغ ومشتقاته يعد من بوابات المخدرات وما فيها من شرور وآثام ومخاطر على الفرد والمجتمع والدولة.
وقبل هذه المشاريع ومعها وبعدها من المفاتيح والمغاليق جاء مشروع (وقف مسجد المنصور) ليكون مفتاحا تنمويا كبيرا لمشاريع متعددة ومتنوعة، وكأنها أيقونات لموقع واحد، خاصة حينما وجد ورثة الأمير منصور بن عبدالعزيز - رحمهم الله - ضالتهم في الشيخ فريح ومعه ثلة من العلماء والأعيان الأفاضل ليكونوا مجلس نظارة، وعلى رأسهم رئيس المحكمة الشيخ عبدالمحسن الخيال، والشيخ داود العلواني رئيس كتابة العدل، والشيخ صالح بن إبراهيم الزامل رجل الأعمال، والشيخ عبدالعزيز السيف رجل الأعمال كذلك، والشيخ سعيد الدعجاني مدير مكتب الدعوة بجدة، والشيخ عبدالرحمن العجيري، والشيخ القاضي عبدالله بن عبدالرحمن العثيم رئيس المحكمة الجزئية في جدة، والدكتور عبدالله المطرفي الأستاذ بجامعة الملك عبدالعزيز، والدكتور طالب العطاس، والشيخ يوسف بن سعيد الغامدي، والشيخ محمد درويش العمري، باختلاف في بعض أزمنة بعضهم في النظارة، والجانب اللافت في هذا الوقف الذي بدأ بمسجد جامع كبير والإنفاق عليه من قبل ورثة الأمير منصور - وفقهم الله - أنه تحول إلى مشروع المشاريع بأيقونات متعددة، وذلك بإخلاص النظار القائمين على هذه الوقفية المباركة، حينما أصبح المسجد مركزا علميا للدروس والمحاضرات، والندوات الثقافية والاجتماعية في جنوب جدة، وضم مكتبة علمية بأمهات الكتب يقصدها طلاب العلم والباحثون، وكانت المكتبة والمسجد منتدى علميا للقراء والطلاب.
بل إن هذا الوقف الخيري بعطاء الورثة، وجهود النظار، وتبرعات المحسنين قفز إلى أضعاف مضاعفة عن أصله، حينما تم التطوير الوقفي إلى عدة مشاريع وقفية، فولدت (عيادات المنصور الخيرية) التي تعد من التجارب الصحية الخيرية الأولى في بلاد العطاء، كقطاع تعاوني وغير ربحي للفقراء والمحتاجين وعامة الناس، برسوم رمزية متواضعة، وكان لهذه العيادات أثر ملموس ومحسوس في تحقيق الأمن الأسري والاجتماعي من مواطنين ومقيمين؛ حيث التكافل والتعاون والرعاية الصحية بتلبية حقوق الإنسان وكرامته، وكان من أبرز أعمال هذه العيادات، عيادة غسيل الكلى النموذجية في المهنية والتكلفة، وذلك وفق تقييم مستشفى الحرس الوطني بمنطقة مكة المكرمة، حسب ما ذكره لي شخصيا الشيخ فريح لتكون تجربة العيادات الصحية غير الربحية أنموذجا يحتذى به في سائر مناطق المملكة العربية السعودية.
بل إن هذه العيادات بتنوعها، كانت مفتاحا لدى المفتاح فريح ليضع منها فكرة أكبر، وهي (مستشفى غير ربحي كبير)، فكان البناء بتبرعات المحسنين، الذين رأوا بأنفسهم ثمرات العطاء ونتائجه في هذه المشاريع المتنامية والتنموية، وقد مات رحمه الله بعد اكتمال التأسيس المعماري، ولم يكن الافتتاح للمستشفى، وكفى أنه كان أبرز المفاتيح لهذا المشروع، إن لم يكن هو مفتاح الفكرة والتنفيذ في تأسيس المشروع الكبير.
لقد أتعب (الرجل المفتاح) إخوانه وأعوانه وشركاءه في العمل الخيري بمشاريع خيرية مؤسسية قامت بداية بمبادرات فردية منه إلى حد كبير، حينما كان يفتتح أبواب المشاريع بمفتاحه الصلب من العزيمة والإرادة القوية دون موارد مالية كافية، فيسبق التنفيذ لديه التخطيط من شركائه ومحبيه، ثم يتتابع هؤلاء الأفاضل زرافات ووحدانا معه وبعده، للربط والضبط المالي والنظامي الذي أجادوه وأتقنوه مع أخيهم، ويتبع هذا كله، التفاعل المجتمعي الكبير بالعطاء والشراكة والإحسان المادي والمعنوي؛ حيث النتائج اللافتة التي تستحق دراسة التجربة.
وأما عن مفاتيحه الأخرى ومشاريعه وأعماله في جوانب العطاء المتعددة خارج بلاده، فقد كانت أنموذجا آخر من العطاء الخيري في التنسيق مع بعض المؤسسات والجمعيات مما يعكس خيرية هذا الوطن حكومة وشعبا.
لقد أثبتت مفاتيح الشيخ فريح الخيرية، نجاح الإدارة الفردية بالإرادة القوية والمبادرات الشخصية، لتكون هذه التجارب التطوعية الحضارية موطن فخر واعتزاز ونفع مجتمعي، حينما تحولت المشاريع والبرامج بمعظمها إلى مؤسسات وجمعيات ذات شأن وموطن اقتداء في صناعة الأفكار المماثلة والنجاح العملي لمؤسسات وجمعيات أخرى تتماثل في الأهداف وربما تتفوق ببعض النتائج؛ لتقوم الحجة في إثبات فاعلية المبادرات الفردية، وليكون الاقتداء في ابتكار مشاريع العطاء وبنائها لبنة بعد لبنة، وقد كان اختياره رحمه الله لأوقاف بعض هذه المشاريع أوقافا مجزأة ومسجلة تصنع موارد متعددة، مما يعد من سن السنن الحسنة للتجار والمحسنين في توزيع أوقافهم وتنويعها على المؤسسات والجمعيات والجهات المستفيدة، وللأجيال من شباب مجتمعه، وفيها رسالة ورسائل بأن يكون طموح الأجيال مبادرات فردية ومؤسسية، وابتكار وتجديد، وتحديث في الوسائل والأبواب والنوافذ الخيرية، وحقا إن أبواب العطاء الخيري، هي النوافذ والأيقونات الواسعة المثلى للابتكار والتجديد والتحديث لأمة العطاء والخيرية، وهي شواهد حضارية في سابق التاريخ ولاحقه لأمة الإسلام.
وكلمة أخيرة عن هذا المفتاح الذي لم يكن تاجرا أو يبتغي التجارة التي كانت متاحة له بجميع أبوابها مع تعدد طفراتها التي صاحبت حياته، لكنه اختار التجارة مع الله؛ حيث توفي زاهدا لا يملك سوى منزله الذي يسكن فيه، وأرضا لا تتجاوز قيمتها مائة ألف ريال فقط، فالتجارة مع ربه كانت خياره، وقد كانت تجارته مع الله من أولويات حياته بتقديم الخير للغير، وهي التي انعكست كشواهد على جنازته، حينما شهدت جموع المصلين عليه والمقبرة ما يماثل جنائز كبار العلماء والدعاة، والناس شهداء الله في أرضه.
وأقول معلقا بعد هذه الإلمامة اليسيرة من سيرته الكبيرة: كلي أمل ورجاء أن يتنادى الأخيار من أحبابه وإخوانه وأولاده بالشراكة في إنشاء وقف يكون باسمه ليكون الوقف خيريا وللمحتاج من ذريته، إضافة إلى وجوب تدوين هذه التجربة الثرية، وذلك بكتاب يلملم التجارب والمفاتيح، لإعطاء الدروس والعبر عن تجربة ملهمة تستحق الكتابة كما تستحقها الأجيال بالتدريس، ثم هي كتابة عن أخ محب لمجتمعه المسلم ووطنه وولاة أمره، لا سيما وقد سكن قلبه حب الضعفاء والمساكين والمحتاجين حتى لقب باسم (أبو الأيتام والمساكين)، ولهذا جاء هذا المقال محصورا بجانب العطاء ومفاتيحه دون الجوانب الشخصية الأخرى.
رحم الله الشيخ فريح الذي غادر حياتنا صباح الاثنين بتاريخ 9 شعبان 1445هـ، ونفع الله بمفاتيحه الخيرية أعمالا صالحة دائمة غير منقطعة إلى يوم الدين، إنه سميع مجيب لمن دعاه
*نقلاً عن صحيفة مكة المكرمة
ومن هؤلاء المفاتيح من يبادرون في إطلاق أفكار المشاريع الخيرية التنموية، فيكون منهم عطاء النفس وهي المكافأة المثلى للنفس البشرية، وعطاء الوقت بتحرير نفسه من رق الحياة وظروفها ومباهجها، ويكون من هؤلاء عطاء الجهد والطاقة وعطاء المال وإصلاح الأحوال، وهم في الوقت نفسه ممن يسنون السنن الحسنة للتاجر والمحسن، وللمحتاج والمجتمع على حد سواء، وعنهم قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من سن سنة حسنة فعمل بها، كان له أجرها ومثل أجر من عمل بها، لا ينقص من أجورهم شيئا) [صحيح ابن ماجه: 169].
ثم كيف بمن يجمعون بين فتح المشاريع بهدوء وصمت! وتواضع وتجرد من الذات لقطاع الخير والإحسان! مع إطلاق السنن الحسنة والمبادرات! وأحسب أن الشيخ فريح بن علي العقلا - رحمه الله - حبيب الجميع من الضعفاء والمساكين والمحتاجين، ورفيق التجار والمحسنين، وصديق البيئة والمجتمع، واللطيف المبتسم مع أحبابه وإخوانه، وسفير العطاء والإحسان لبلده وإخوانه من المسلمين أجمعين، حينما كان شعاره العملي بميدان العطاء (المشتركات أكثر من الاختلافات) وإن لم يكن هذا الرجل - نحسبه والله حسيبه - من رواد البناء والعطاء للإنسان والمكان والأوطان فمن يكون!
إنه المفتاح المؤسس للمشروع الخيري للزواج بجدة قبل ترسيمه وتسميته الجديدة (الجمعية الخيرية لمساعدة الشباب على الزواج والتوجيه الأسري 1409هـ) المشروع الذي كان يشغل باله قبل زواجه حينما كان طالبا في الجامعة، وبعد تخرجه منها كما حدثني بهذا رحمه الله، وحينما استقر به المقام في جدة وجد ثلة من إخوانه الفضلاء من الوجهاء والدعاة والمحسنين، إضافة إلى رجال العمل والإدارة كانوا عونا له في تأسيس وإنجاح هذا المشروع الذي كان من السنن الحسنة للبلاد والعباد، لا سيما مع قلة أو ندرة هذه المشاريع التنموية النوعية المؤسسية الحضارية آنذاك عام 1400هـ تقريبا، وهي المشاريع النوعية المعنية ببناء الإنسان وعمران الأوطان تأسيسا ووقاية وعلاجا.
فالمشروع وصاحب الفكرة أصبحا مفتاحا للخير بافتتاح مشاريع مماثلة في مناطق المملكة الأخرى وبأوقاف داعمة، فكما أن المشروع كان مفتاح خير في جدة مغلاقا للشر والفساد المحتمل كانت مشاريع اقتداء ناجحة أخرى، إضافة إلى أن هذا المشروع معني بدعم النواة الأولى لتكوين الأسرة الصالحة، والزواج بحد ذاته مقبرة الانحراف السلوكي والفساد الاجتماعي، فالشيخ بهذا العمل يعد من مغاليق الشر وأبوابه ووسائله نحسبه والله حسيبه.
ولم يكتف (الرجل المفتاح) بهذا، فقد عمل على بناء وقف متواضع بغرف محدودة لذوي الدخل الصغير جدا ليعيشوا السنة الأولى من حياتهم الزوجية، وربما السنة الثانية أو الثالثة من الزواج بإيجار رمزي ليتحقق للأسرة الجديدة والنواة الأولى الاستقرار والسكن والمودة والرحمة، حتى يشقوا الطريق الطويل من الحياة.
وكان كذلك مفتاحا لمشروع يحقق القرض الحسن للمحتاجين؛ حيث تبنى بنفسه مشروعا متواضعا ما لبث أن ازداد نموه وتنميته، وكانت له ثمرات يانعات، وذلك بدعم من أحد التجار المحسنين برأسمال يقوم على تدوير المال بين المحتاجين أسماه مشروع (القرض الحسن) لعموم المحتاجين، وكانت نسبة التسديد تتجاوز 95% في أحيان كثيرة حسب قوله رحمه الله، وقد جاءت هذه المشاريع ونوافذ الخير لخدمة مشروع يدعم الفرد والأسرة والمجتمع، وهي مفاتيح متعددة في مفتاح من النية الحسنة، والإرادة القوية الصادقة، التي ذللت له التحديات والصعاب، فتنادى معه الأصدقاء والأصحاب، ليتسلموا إدارات مفاتيح الخير ومغاليق الشر، وليكون إخوانه في الله وأصحابه وزملاؤه من أهل الإدارة والعطاء وسائل نجاح وإشهار مؤسسي لمشاريع أصبحت مشهودة في التاريخ الاجتماعي لبلاد الحرمين الشريفين، لا سيما بعد انتشارها في معظم مناطق المملكة العربية السعودية، وحق للبلاد أن تفخر بهذه المشاريع التي تسهم في تحقيق الأمن الاجتماعي.
وقام (الرجل المفتاح) كذلك مع ثلة من الأخيار بإنشاء مشروع آخر باسم (جمعية المودة للتنمية الأسرية) بجوار مسجد المودة الذي كان الشيخ من أبرز مفاتيح تأسيسه كذلك، لتقدم هذه الجمعية أنواع الدعم الأسري، والتوجيهات الاجتماعية، والدورات التربوية بمستويات متعددة وأنماط متنوعة من الجلسات الاستشارية، وإصلاح ذات البين، وطباعة الكتيبات والبرامج المتخصصة، والمحاضرات والدروس الهادفة، ليكتمل بهذا فتح الكثير من أبواب الخير ونشر الطمأنينة الأسرية والسكينة والمودة والرحمة، وإغلاق كثير من أبواب الشر على المجتمع المستهدف من أعدائه بتقويض بنائه، وتماسكه الأسري وقوته الاجتماعية وسعادته النفسية.
وهو (الرجل المفتاح) في ميلاد (جمعية كفى للتوعية بأضرار التدخين والمخدرات) بمنطقة مكة المكرمة، الجمعية التي تعد من مغاليق الشرور والأضرار الصحية والمجتمعية، حينما تنادى معه مجموعة من خيرة أعيان جدة، فقدمت الجمعية الدراسات والاستشارات والمحاضرات والتوعية المجتمعية، وكان من التفاعل الإيجابي أن توقفت محلات وبقالات في بعض أحياء محافظة جدة عن بيع "الدخان" كوقاية قبل العلاج.
فالتبغ ومشتقاته يعد من بوابات المخدرات وما فيها من شرور وآثام ومخاطر على الفرد والمجتمع والدولة.
وقبل هذه المشاريع ومعها وبعدها من المفاتيح والمغاليق جاء مشروع (وقف مسجد المنصور) ليكون مفتاحا تنمويا كبيرا لمشاريع متعددة ومتنوعة، وكأنها أيقونات لموقع واحد، خاصة حينما وجد ورثة الأمير منصور بن عبدالعزيز - رحمهم الله - ضالتهم في الشيخ فريح ومعه ثلة من العلماء والأعيان الأفاضل ليكونوا مجلس نظارة، وعلى رأسهم رئيس المحكمة الشيخ عبدالمحسن الخيال، والشيخ داود العلواني رئيس كتابة العدل، والشيخ صالح بن إبراهيم الزامل رجل الأعمال، والشيخ عبدالعزيز السيف رجل الأعمال كذلك، والشيخ سعيد الدعجاني مدير مكتب الدعوة بجدة، والشيخ عبدالرحمن العجيري، والشيخ القاضي عبدالله بن عبدالرحمن العثيم رئيس المحكمة الجزئية في جدة، والدكتور عبدالله المطرفي الأستاذ بجامعة الملك عبدالعزيز، والدكتور طالب العطاس، والشيخ يوسف بن سعيد الغامدي، والشيخ محمد درويش العمري، باختلاف في بعض أزمنة بعضهم في النظارة، والجانب اللافت في هذا الوقف الذي بدأ بمسجد جامع كبير والإنفاق عليه من قبل ورثة الأمير منصور - وفقهم الله - أنه تحول إلى مشروع المشاريع بأيقونات متعددة، وذلك بإخلاص النظار القائمين على هذه الوقفية المباركة، حينما أصبح المسجد مركزا علميا للدروس والمحاضرات، والندوات الثقافية والاجتماعية في جنوب جدة، وضم مكتبة علمية بأمهات الكتب يقصدها طلاب العلم والباحثون، وكانت المكتبة والمسجد منتدى علميا للقراء والطلاب.
بل إن هذا الوقف الخيري بعطاء الورثة، وجهود النظار، وتبرعات المحسنين قفز إلى أضعاف مضاعفة عن أصله، حينما تم التطوير الوقفي إلى عدة مشاريع وقفية، فولدت (عيادات المنصور الخيرية) التي تعد من التجارب الصحية الخيرية الأولى في بلاد العطاء، كقطاع تعاوني وغير ربحي للفقراء والمحتاجين وعامة الناس، برسوم رمزية متواضعة، وكان لهذه العيادات أثر ملموس ومحسوس في تحقيق الأمن الأسري والاجتماعي من مواطنين ومقيمين؛ حيث التكافل والتعاون والرعاية الصحية بتلبية حقوق الإنسان وكرامته، وكان من أبرز أعمال هذه العيادات، عيادة غسيل الكلى النموذجية في المهنية والتكلفة، وذلك وفق تقييم مستشفى الحرس الوطني بمنطقة مكة المكرمة، حسب ما ذكره لي شخصيا الشيخ فريح لتكون تجربة العيادات الصحية غير الربحية أنموذجا يحتذى به في سائر مناطق المملكة العربية السعودية.
بل إن هذه العيادات بتنوعها، كانت مفتاحا لدى المفتاح فريح ليضع منها فكرة أكبر، وهي (مستشفى غير ربحي كبير)، فكان البناء بتبرعات المحسنين، الذين رأوا بأنفسهم ثمرات العطاء ونتائجه في هذه المشاريع المتنامية والتنموية، وقد مات رحمه الله بعد اكتمال التأسيس المعماري، ولم يكن الافتتاح للمستشفى، وكفى أنه كان أبرز المفاتيح لهذا المشروع، إن لم يكن هو مفتاح الفكرة والتنفيذ في تأسيس المشروع الكبير.
لقد أتعب (الرجل المفتاح) إخوانه وأعوانه وشركاءه في العمل الخيري بمشاريع خيرية مؤسسية قامت بداية بمبادرات فردية منه إلى حد كبير، حينما كان يفتتح أبواب المشاريع بمفتاحه الصلب من العزيمة والإرادة القوية دون موارد مالية كافية، فيسبق التنفيذ لديه التخطيط من شركائه ومحبيه، ثم يتتابع هؤلاء الأفاضل زرافات ووحدانا معه وبعده، للربط والضبط المالي والنظامي الذي أجادوه وأتقنوه مع أخيهم، ويتبع هذا كله، التفاعل المجتمعي الكبير بالعطاء والشراكة والإحسان المادي والمعنوي؛ حيث النتائج اللافتة التي تستحق دراسة التجربة.
وأما عن مفاتيحه الأخرى ومشاريعه وأعماله في جوانب العطاء المتعددة خارج بلاده، فقد كانت أنموذجا آخر من العطاء الخيري في التنسيق مع بعض المؤسسات والجمعيات مما يعكس خيرية هذا الوطن حكومة وشعبا.
لقد أثبتت مفاتيح الشيخ فريح الخيرية، نجاح الإدارة الفردية بالإرادة القوية والمبادرات الشخصية، لتكون هذه التجارب التطوعية الحضارية موطن فخر واعتزاز ونفع مجتمعي، حينما تحولت المشاريع والبرامج بمعظمها إلى مؤسسات وجمعيات ذات شأن وموطن اقتداء في صناعة الأفكار المماثلة والنجاح العملي لمؤسسات وجمعيات أخرى تتماثل في الأهداف وربما تتفوق ببعض النتائج؛ لتقوم الحجة في إثبات فاعلية المبادرات الفردية، وليكون الاقتداء في ابتكار مشاريع العطاء وبنائها لبنة بعد لبنة، وقد كان اختياره رحمه الله لأوقاف بعض هذه المشاريع أوقافا مجزأة ومسجلة تصنع موارد متعددة، مما يعد من سن السنن الحسنة للتجار والمحسنين في توزيع أوقافهم وتنويعها على المؤسسات والجمعيات والجهات المستفيدة، وللأجيال من شباب مجتمعه، وفيها رسالة ورسائل بأن يكون طموح الأجيال مبادرات فردية ومؤسسية، وابتكار وتجديد، وتحديث في الوسائل والأبواب والنوافذ الخيرية، وحقا إن أبواب العطاء الخيري، هي النوافذ والأيقونات الواسعة المثلى للابتكار والتجديد والتحديث لأمة العطاء والخيرية، وهي شواهد حضارية في سابق التاريخ ولاحقه لأمة الإسلام.
وكلمة أخيرة عن هذا المفتاح الذي لم يكن تاجرا أو يبتغي التجارة التي كانت متاحة له بجميع أبوابها مع تعدد طفراتها التي صاحبت حياته، لكنه اختار التجارة مع الله؛ حيث توفي زاهدا لا يملك سوى منزله الذي يسكن فيه، وأرضا لا تتجاوز قيمتها مائة ألف ريال فقط، فالتجارة مع ربه كانت خياره، وقد كانت تجارته مع الله من أولويات حياته بتقديم الخير للغير، وهي التي انعكست كشواهد على جنازته، حينما شهدت جموع المصلين عليه والمقبرة ما يماثل جنائز كبار العلماء والدعاة، والناس شهداء الله في أرضه.
وأقول معلقا بعد هذه الإلمامة اليسيرة من سيرته الكبيرة: كلي أمل ورجاء أن يتنادى الأخيار من أحبابه وإخوانه وأولاده بالشراكة في إنشاء وقف يكون باسمه ليكون الوقف خيريا وللمحتاج من ذريته، إضافة إلى وجوب تدوين هذه التجربة الثرية، وذلك بكتاب يلملم التجارب والمفاتيح، لإعطاء الدروس والعبر عن تجربة ملهمة تستحق الكتابة كما تستحقها الأجيال بالتدريس، ثم هي كتابة عن أخ محب لمجتمعه المسلم ووطنه وولاة أمره، لا سيما وقد سكن قلبه حب الضعفاء والمساكين والمحتاجين حتى لقب باسم (أبو الأيتام والمساكين)، ولهذا جاء هذا المقال محصورا بجانب العطاء ومفاتيحه دون الجوانب الشخصية الأخرى.
رحم الله الشيخ فريح الذي غادر حياتنا صباح الاثنين بتاريخ 9 شعبان 1445هـ، ونفع الله بمفاتيحه الخيرية أعمالا صالحة دائمة غير منقطعة إلى يوم الدين، إنه سميع مجيب لمن دعاه
*نقلاً عن صحيفة مكة المكرمة