تحرير منظمة التحرير لا استبدالها
محمد جمعة
بإتمام عملية الاقتراع في إسرائيل لاختيار أعضاء الكنيست الثامنة عشرة تكتمل ملامح المفارقة بين المشهدين الفلسطيني والإسرائيلي؛ حيث شهدت إسرائيل اقتراعين ديمقراطيين منذ مارس 2006 وحتى الآن، وهو نفس التاريخ الذي بدأت معه إرهاصات الانقسام الفلسطيني عقب تشكيل حركة حماس حكومة السلطة، ولا يزال مستمرا حتى يومنا هذا.
في ذات الوقت، فإن تصريحات خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس التي تحدث فيها عن مرجعية جديدة للشعب الفلسطيني جاءت قبل بضعة أيام فقط من الاستحقاق الانتخابي الإسرائيلي، وقد صاحبها حالة من القلق والخوف من المجهول والتشويش ملأت جوانب الساحة الفلسطينية.
ومن ثم ألقت هذه الدعوة بظلال كثيفة على أجواء الحوار الفلسطيني المرتقب، وأظهرت الكثير من المؤشرات بشأن ذلك الحراك وما يمكن أن يفضي إليه، لاسيما وأن تلك الحالة التي صاحبت تلك التصريحات لم تكن كلها (ولا حتى معظمها) نابعة من الغيرة على المنظمة، أو الخوف على مستقبل القضية الفلسطينية، وإنما انقسمت الساحة الفلسطينية إزاء ذلك إلى فريقين:
الأول: مخلص لقضيته وحريص على ألا تمس أو تخدش – ولو معنويا - وحدانية التمثيل الفلسطيني ومشروعيته في إطار ’’وطنهم المعنوي’’ منظمة التحرير، وهذا الفريق يضم قطاعا واسعا من المواطنين الفلسطينيين الذين وإن أقروا بكل الانتقادات التي توجهها حماس نحو المنظمة، إلا أنهم يعارضون مسألة استبدالها بمرجعية أخرى، وعلى هذا فهم يتفقون مع حماس في تشخيص الداء، ولكنهم يختلفون معها في أسلوب العلاج، ومن ثم يعتبرون مفاجأة خالد مشعل أمرا غير موفق من حيث التوقيت والاجتهاد السياسي، بل ربما يعتبرونها قفزة نحو المجهول!
أما الفريق الثاني: فلا يضم سوى حفنة قليلة من الناس لا تتعدى أصابع اليدين والقدمين، هم الذين اختطفوا المنظمة وأفرغوها من مضمونها، وجمدوا دوائرها واتحاداتها الشعبية، مثلما جمدوا مجلسيها الوطني والمركزي، وأبقوا على ’’لجنة تنفيذية’’ باتت تفتقد إلى النصاب القانوني بعد أن توفي نصف أعضائها، فيما أكل الدهر وشرب على نصفها الباقي!
بالتأكيد لا أحد يستطيع أن يوجه اللوم أو يشكك في مصداقية الفريق الأول، لكن الشكوك كلها -وبالأحرى الاتهامات- مصوبة تجاه مواقف الفريق الثاني، الذي راح يجأر بالشكوى، ويملأ الفضاء الفلسطيني صراخا وعويلا وتحذيرا، وحتى تخوينا لدعوة مشعل، فيما هم أكثر الناس مسئولية عما آلت إليه أحوال المنظمة بعد أن عاثوا إفسادا في مؤسساتها، وعملوا بإصرار وقصد مبيت على أن تتمدد سلطة أوسلو على حساب تلك المنظمة، ومن ثم حولوها في الحاصل الأخير إلى مجرد ’’شاهد زور’’ يجري استدعاؤه كلما تطلب الأمر التوقيع باسم الشعب الفلسطيني، أو لاستخدامه في المناكفات الفصائلية الداخلية، لاسيما في مواجهة حركة حماس، عبر سيف ’’الشرعية’’ المسلط على رقاب الجميع، فيما يعلم الكافة أن شرعية تمثيل الشعب الفلسطيني من واقع خبرة المنظمة كانت إما معطلة أو مجتزأة أو مستباحة.
شرعية مستباحة
ولا حاجة للإسهاب في أمر كهذا الآن، لكن تكفي الإشارة إلى مواقف السلطة وانتصارها الدائم لوزير خارجيتها في مواجهة رئيس الدائرة السياسية للمنظمة ’’فاروق القدومي’’، سواء أكان ذلك في عهد الراحل أبو عمار، أو في عهد أبو مازن حتى ما قبل انتخابات يناير 2006. وعندما شكلت حماس حكومة السلطة في مارس 2006 عاد القوم أدراجهم وراحوا يصطفون من جديد إلى جوار القدومي (أبو اللطف)، ويصلون ما انقطع من حبال الود معه.
لكن عندما وقع الانقسام وسيطرت حماس على قطاع غزة، وشكلت حكومة سلام فياض، أعاد القوم الكرة للمرة الثالثة؛ فحولوا مكاتب المنظمة وسفاراتها في الخارج، وكادرها الوظيفي لتصبح تابعة لوزارة خارجية السلطة، بدلا من الدائرة السياسية للمنظمة، وهكذا أصبحت ’’المرجعية’’ ضمن الدوائر المالية لسلام فياض.
هكذا أصبحت ’’المرجعية’’ بندا ضمن ميزانية حكومة ’’تسيير الأعمال’’ التي هي -حتى اللحظة الراهنة- مجرد ’’مشروع حكومة’’ من وجهة النظر القانونية؛ إذ لم تكتمل بعد إجراءاتها القانونية؛ لأنها لم تحظ بثقة المجلس التشريعي.
أما المجلس الوطني للمنظمة (تداعى أعضاؤه إلى عمان للاجتماع والرد على خالد مشعل، فيما لم نسمع له صوتا خلال العدوان على غزة) والذي من المفترض أنه يمثل الـ11 مليون فلسطيني في الداخل والخارج، فتكفي الإشارة إلى أنه ومنذ الجلسة الشهيرة التي ألغي فيها ميثاق المنظمة عام 1996، وحضرها الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون في غزة، لم ينعقد المجلس مرة أخرى، واقتصر الأمر على المجلس المركزي وكان ذلك في مرات قليلة للغاية.
والأهم أنه عند انعقاد المجلس الوطني في غزة عام 1996 كانت هناك قائمتان بأسماء الأعضاء.. واحدة بحوزة رئيس المجلس سليم الزعنون، وتضم قائمة بأسماء الأعضاء الحقيقيين للمجلس والذين لا يتجاوز عددهم 400عضو، وقائمة أخرى في حوزة رئاسة السلطة تضم إلى جوار قائمة الزعنون أكثر من 450 اسما جديدا لها؛ بحيث أصبح أعضاء المجلس الذين جرى اعتمادهم لحضور جلسة إلغاء الميثاق أكثر من 850 عضوا دون علم رئيس المجلس، ودون أخذ موافقته، أو دون إحالة الأسماء الجديدة إلى لجان المجلس.
وقد اعترف سليم الزعنون في اجتماع له مع ممثلي الفصائل في دمشق في أغسطس عام 2005 بأن هناك سجلات متباينة لأعضاء المجلس، فسجل رام الله يختلف عن سجل غزة، وكلاهما يختلف عن السجل الموجود لدى رئاسة المجلس في عمان.
ولا شك أن عدم المعرفة الدقيقة من قبل ’’الزعنون’’ بعدد أعضاء المجلس الذي يرأسه تكشف بوضوح حالة الترهل التي وصل إليها المجلس! أكثر من هذا، يحار المرء هنا ويتساءل عن سر الإصرار على اقتصار حضور المؤتمر السادس لحركة فتح (في حال انعقاده) على عدد محدود فقط، فيما يجري توسيع عدد أعضاء المجلس الوطني ليزيد عن عدد أعضاء المجلس الوطني للصين، أو مجلس النواب الهندي، أو الكونجرس الأمريكي، بل ويصل تقريبا إلى ضعف أعضاء مجلس الشعب المصري، وسبعة أضعاف مجلس النواب الأردني!
الأمر إذن لا يتعلق بشرعية التمثيل؛ لأنها ليست المقصد أو المبتغى، وإنما الرغبة في الاستفراد والسيطرة هي الدافع والمحرض، ولهذا تجري الزيادة أو النقصان بحسب الحاجة، فإذا اقتضت الضرورة إضعاف جبهة الرفض أو تهميش جبهة المشاغبين فالحل لذلك إما توسيع دائرة المشاركة بإضافة المحاسيب والموالين، تحت لافتة توسيع دائرة الاستشارة والاستفادة من أهل الخبرة والكفاءة، ومن ثم تتحول جبهة الرفض إلى أقلية، وإما بتضييق نسبة المشاركة إلى أقصى حد ممكن بدعوى الصعوبات اللوجستية ومقتضيات مرحلة التحرير التي تتطلب اعتماد نهج الإنابة الثورية، لاسيما في حالات الضرورة!
شلل دستوري يتطلب حراكا
في ظل معطيات كهذه يتعين الاعتراف بأن دعوة خالد مشعل لم تأت من فراغ؛ لأن الجسد السياسي الفلسطيني الراهن مهلهل بالفعل، ويفتقد إلى الشرعية؛ فمن ناحية يخضع الشعب الفلسطيني الآن نظريا لرئيس انتهت فترة ولايته، وحكومة تسيير أعمال من المفترض ألا تستمر أكثر من شهر واحد، وبعد التصديق عليها من المجلس التشريعي، وهو ما لم يحدث حتى الآن.
ومن ناحية أخرى تعاني مؤسسات منظمة التحرير من ترهل شديد، بل هي فاقدة للشرعية على النحو الذي أوضحناه، ولا شك أن حالة الشلل الدستوري هذه تتطلب تحركا جديا لملئها.
وعليه فإن دائرة الحوار هنا يجب أن تقتصر أو تتمحور حول سبل الحل والعلاج لتلك الأزمة، وحول إذا ما كان ذلك يقتضي الدعوة لمرجعية جديدة واستبدال منظمة التحرير، أو بالإصرار على تفعيل أو إعادة بناء تلك المنظمة، رغم الاعتراف بالصعوبة البالغة لذلك.
أم أن الأمر يتطلب من حركة حماس أن تنتهز دعوة فريق السلطة إلى تحقيق المصالحة وإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية، فتصر من ناحيتها على أن تجري تلك الانتخابات على مستوى منظمة التحرير وليس السلطة فقط؛ وذلك تفعيلا لإعلان القاهرة في مارس 2005، وعلى اعتبار أن السلطة لا تعبر إلا عن جزء من الشعب الفلسطيني، ومجلسها التشريعي لا يمثل سوى 30% فقط من هذا الشعب؛ إذ يبلغ عدد الشعب الفلسطيني اليوم 11 مليونا، ثلثاهم من اللاجئين، وإذا أضفنا إليهم النازحين بعد 1967 فإن ثلاثة أرباع الفلسطينيين يعيشون خارج ديارهم ومواطنهم الأصلية (30% من هذا الشعب يعيشون في الضفة وغزة، منهم 12% في غزة، و18% في الضفة) وهؤلاء فقط هم من تمتعوا بانتخابات نزيهة شهد لها العالم بذلك، أما الـ 70% فليس لهم صوت في تقرير مصيرهم، بينما يتحدث باسمهم ويقرر عنهم أناس لم يكسبوا ثقتهم أو لم ينتخبوهم على أقل تقدير.
وعليه فإن شرعية التمثيل تقتضي ألا يقتصر الأمر على انتخابات على مستوى السلطة، وإنما على مستوى المنظمة أيضا، لاسيما وأن السلطة هي مجرد ترتيب انتقالي نحو الدولة.
والمنظمة هي مرجعية السلطة، ولأن السلطة لم تكن أكثر من مجرد ترتيب انتقالي نحو الدول وليست غاية بحد ذاتها، وما دام أن عام 1999 المفترض أن تقوم فيه الدولة قد مر مرور الكرام؛ فإن الأمر يستدعي العودة إلى الأصل لإجراء مراجعة شاملة، سواء على صعيد سير المفاوضات وعملية التسوية التي كانت ولا تزال عملية بدون تسوية، أو على صعيد مشروعية التمثيل الفلسطيني بشكل حقيقي داخل مؤسسات المنظمة.
المفاضلة بين تلك الخيارات ينبغي أن يتم على ضوء عدة حقائق تراعي خصوصية الحالة الفلسطينية زمنيا وموضوعيا، وكذلك ما يحيط بها من معطيات عربية وإقليمية ودولية.
وملامح تلك الخصوصية تتضح في ضوء ما يلي:
1ـ أن كلا من واشنطن وتل أبيب لا تريدان إحياء منظمة التحرير وتقويتها؛ لأن ذلك يبعد احتمالات فرض الحل الإسرائيلي – الأمريكي للقضية الفلسطينية، ويريدان إبقاء المنظمة على وضعها الحالي (أي بين الحياة والموت)؛ لكي تقوم بمهمتها الأخيرة، أي التوقيع على التسوية النهائية باسم الشعب الفلسطيني كله.
كذلك لن تسمح أمريكا وإسرائيل بقيام منظمة تحرير جديدة أو بديلة أو موازية يتم الاعتراف بها وبشرعيتها، وإنما ستكون لهذا الكيان الجديد في حالة قيامه بالمرصاد.
2ـ أن الأوضاع العربية الراهنة لا تسمح هي الأخرى بحديث عن منظمة بديلة أو حتى إطار أو جبهة موازية لها، ولهذا لا تستطيع حماس أن تمرر المرجعية الجديدة دون أخذ موافقة دول الطوق المعروفة، وبالتأكيد حماس لم تأخذ موافقة مصر والأردن، أما سوريا فثمة شك في أن تقبل بأن تخوض معركة بهذا الحجم فلسطينيا وعربيا ودوليا، وأن تتحمل نتائجها بعد أن حققت مكاسب دبلوماسية كبيرة في العام الماضي؛ جراء انفتاحها على العالم بعد الحصار الذي عانت منه كثيرا.
المقصد إذن أن اعترافا بمرجعية حماس الجديدة سيكون شبه مستحيل عربيا ودوليا، أقله في المدى المنظور، وعليه فليس من الحكمة إضاعة اعتراف أغلبية دول العالم بمرجعية موجودة، وإن كانت على غير ما نرضى ونحب، لمصلحة مرجعية في علم الغيب ومحكوم عليها بالفشل سلفا.
وعليه فإن حماس مدعوة إلى التمييز بين توجهها نحو إنشاء أطر تحالفية وائتلافية واسعة وعريضة من جهة، وبين التورط في خلق منظمات بديلة وموازية من جهة ثانية، يعرف الجميع بأن فرص انتزاعها لشرعية التمثيل ووحدانيته تبدو مستحيلة.
والأولوية الآن لحشد القوى ورص الصفوف لاستعادة منظمة التحرير وتحريرها من قبضة خاطفيها، بالتعاون مع فصائل المقاومة، وبالتنسيق مع قواعد فتح وكوادرها، أي هؤلاء الذين لم تعد لهم صلة بالمنظمة ولا بالسلطة، وباتوا يواجهون اليوم محاولات حثيثة لإكمال السيطرة على حركتهم ’’فتح’’، من قبل قيادات من خارجها، جرى تكييفها على مقاس التنسيق الأمني مع الأمريكيين والإسرائيليين!!
** باحث متخصص في الشئون الفلسطينية.
*اسلام أون لاين
محمد جمعة
بإتمام عملية الاقتراع في إسرائيل لاختيار أعضاء الكنيست الثامنة عشرة تكتمل ملامح المفارقة بين المشهدين الفلسطيني والإسرائيلي؛ حيث شهدت إسرائيل اقتراعين ديمقراطيين منذ مارس 2006 وحتى الآن، وهو نفس التاريخ الذي بدأت معه إرهاصات الانقسام الفلسطيني عقب تشكيل حركة حماس حكومة السلطة، ولا يزال مستمرا حتى يومنا هذا.
في ذات الوقت، فإن تصريحات خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس التي تحدث فيها عن مرجعية جديدة للشعب الفلسطيني جاءت قبل بضعة أيام فقط من الاستحقاق الانتخابي الإسرائيلي، وقد صاحبها حالة من القلق والخوف من المجهول والتشويش ملأت جوانب الساحة الفلسطينية.
ومن ثم ألقت هذه الدعوة بظلال كثيفة على أجواء الحوار الفلسطيني المرتقب، وأظهرت الكثير من المؤشرات بشأن ذلك الحراك وما يمكن أن يفضي إليه، لاسيما وأن تلك الحالة التي صاحبت تلك التصريحات لم تكن كلها (ولا حتى معظمها) نابعة من الغيرة على المنظمة، أو الخوف على مستقبل القضية الفلسطينية، وإنما انقسمت الساحة الفلسطينية إزاء ذلك إلى فريقين:
الأول: مخلص لقضيته وحريص على ألا تمس أو تخدش – ولو معنويا - وحدانية التمثيل الفلسطيني ومشروعيته في إطار ’’وطنهم المعنوي’’ منظمة التحرير، وهذا الفريق يضم قطاعا واسعا من المواطنين الفلسطينيين الذين وإن أقروا بكل الانتقادات التي توجهها حماس نحو المنظمة، إلا أنهم يعارضون مسألة استبدالها بمرجعية أخرى، وعلى هذا فهم يتفقون مع حماس في تشخيص الداء، ولكنهم يختلفون معها في أسلوب العلاج، ومن ثم يعتبرون مفاجأة خالد مشعل أمرا غير موفق من حيث التوقيت والاجتهاد السياسي، بل ربما يعتبرونها قفزة نحو المجهول!
أما الفريق الثاني: فلا يضم سوى حفنة قليلة من الناس لا تتعدى أصابع اليدين والقدمين، هم الذين اختطفوا المنظمة وأفرغوها من مضمونها، وجمدوا دوائرها واتحاداتها الشعبية، مثلما جمدوا مجلسيها الوطني والمركزي، وأبقوا على ’’لجنة تنفيذية’’ باتت تفتقد إلى النصاب القانوني بعد أن توفي نصف أعضائها، فيما أكل الدهر وشرب على نصفها الباقي!
بالتأكيد لا أحد يستطيع أن يوجه اللوم أو يشكك في مصداقية الفريق الأول، لكن الشكوك كلها -وبالأحرى الاتهامات- مصوبة تجاه مواقف الفريق الثاني، الذي راح يجأر بالشكوى، ويملأ الفضاء الفلسطيني صراخا وعويلا وتحذيرا، وحتى تخوينا لدعوة مشعل، فيما هم أكثر الناس مسئولية عما آلت إليه أحوال المنظمة بعد أن عاثوا إفسادا في مؤسساتها، وعملوا بإصرار وقصد مبيت على أن تتمدد سلطة أوسلو على حساب تلك المنظمة، ومن ثم حولوها في الحاصل الأخير إلى مجرد ’’شاهد زور’’ يجري استدعاؤه كلما تطلب الأمر التوقيع باسم الشعب الفلسطيني، أو لاستخدامه في المناكفات الفصائلية الداخلية، لاسيما في مواجهة حركة حماس، عبر سيف ’’الشرعية’’ المسلط على رقاب الجميع، فيما يعلم الكافة أن شرعية تمثيل الشعب الفلسطيني من واقع خبرة المنظمة كانت إما معطلة أو مجتزأة أو مستباحة.
شرعية مستباحة
ولا حاجة للإسهاب في أمر كهذا الآن، لكن تكفي الإشارة إلى مواقف السلطة وانتصارها الدائم لوزير خارجيتها في مواجهة رئيس الدائرة السياسية للمنظمة ’’فاروق القدومي’’، سواء أكان ذلك في عهد الراحل أبو عمار، أو في عهد أبو مازن حتى ما قبل انتخابات يناير 2006. وعندما شكلت حماس حكومة السلطة في مارس 2006 عاد القوم أدراجهم وراحوا يصطفون من جديد إلى جوار القدومي (أبو اللطف)، ويصلون ما انقطع من حبال الود معه.
لكن عندما وقع الانقسام وسيطرت حماس على قطاع غزة، وشكلت حكومة سلام فياض، أعاد القوم الكرة للمرة الثالثة؛ فحولوا مكاتب المنظمة وسفاراتها في الخارج، وكادرها الوظيفي لتصبح تابعة لوزارة خارجية السلطة، بدلا من الدائرة السياسية للمنظمة، وهكذا أصبحت ’’المرجعية’’ ضمن الدوائر المالية لسلام فياض.
هكذا أصبحت ’’المرجعية’’ بندا ضمن ميزانية حكومة ’’تسيير الأعمال’’ التي هي -حتى اللحظة الراهنة- مجرد ’’مشروع حكومة’’ من وجهة النظر القانونية؛ إذ لم تكتمل بعد إجراءاتها القانونية؛ لأنها لم تحظ بثقة المجلس التشريعي.
أما المجلس الوطني للمنظمة (تداعى أعضاؤه إلى عمان للاجتماع والرد على خالد مشعل، فيما لم نسمع له صوتا خلال العدوان على غزة) والذي من المفترض أنه يمثل الـ11 مليون فلسطيني في الداخل والخارج، فتكفي الإشارة إلى أنه ومنذ الجلسة الشهيرة التي ألغي فيها ميثاق المنظمة عام 1996، وحضرها الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون في غزة، لم ينعقد المجلس مرة أخرى، واقتصر الأمر على المجلس المركزي وكان ذلك في مرات قليلة للغاية.
والأهم أنه عند انعقاد المجلس الوطني في غزة عام 1996 كانت هناك قائمتان بأسماء الأعضاء.. واحدة بحوزة رئيس المجلس سليم الزعنون، وتضم قائمة بأسماء الأعضاء الحقيقيين للمجلس والذين لا يتجاوز عددهم 400عضو، وقائمة أخرى في حوزة رئاسة السلطة تضم إلى جوار قائمة الزعنون أكثر من 450 اسما جديدا لها؛ بحيث أصبح أعضاء المجلس الذين جرى اعتمادهم لحضور جلسة إلغاء الميثاق أكثر من 850 عضوا دون علم رئيس المجلس، ودون أخذ موافقته، أو دون إحالة الأسماء الجديدة إلى لجان المجلس.
وقد اعترف سليم الزعنون في اجتماع له مع ممثلي الفصائل في دمشق في أغسطس عام 2005 بأن هناك سجلات متباينة لأعضاء المجلس، فسجل رام الله يختلف عن سجل غزة، وكلاهما يختلف عن السجل الموجود لدى رئاسة المجلس في عمان.
ولا شك أن عدم المعرفة الدقيقة من قبل ’’الزعنون’’ بعدد أعضاء المجلس الذي يرأسه تكشف بوضوح حالة الترهل التي وصل إليها المجلس! أكثر من هذا، يحار المرء هنا ويتساءل عن سر الإصرار على اقتصار حضور المؤتمر السادس لحركة فتح (في حال انعقاده) على عدد محدود فقط، فيما يجري توسيع عدد أعضاء المجلس الوطني ليزيد عن عدد أعضاء المجلس الوطني للصين، أو مجلس النواب الهندي، أو الكونجرس الأمريكي، بل ويصل تقريبا إلى ضعف أعضاء مجلس الشعب المصري، وسبعة أضعاف مجلس النواب الأردني!
الأمر إذن لا يتعلق بشرعية التمثيل؛ لأنها ليست المقصد أو المبتغى، وإنما الرغبة في الاستفراد والسيطرة هي الدافع والمحرض، ولهذا تجري الزيادة أو النقصان بحسب الحاجة، فإذا اقتضت الضرورة إضعاف جبهة الرفض أو تهميش جبهة المشاغبين فالحل لذلك إما توسيع دائرة المشاركة بإضافة المحاسيب والموالين، تحت لافتة توسيع دائرة الاستشارة والاستفادة من أهل الخبرة والكفاءة، ومن ثم تتحول جبهة الرفض إلى أقلية، وإما بتضييق نسبة المشاركة إلى أقصى حد ممكن بدعوى الصعوبات اللوجستية ومقتضيات مرحلة التحرير التي تتطلب اعتماد نهج الإنابة الثورية، لاسيما في حالات الضرورة!
شلل دستوري يتطلب حراكا
في ظل معطيات كهذه يتعين الاعتراف بأن دعوة خالد مشعل لم تأت من فراغ؛ لأن الجسد السياسي الفلسطيني الراهن مهلهل بالفعل، ويفتقد إلى الشرعية؛ فمن ناحية يخضع الشعب الفلسطيني الآن نظريا لرئيس انتهت فترة ولايته، وحكومة تسيير أعمال من المفترض ألا تستمر أكثر من شهر واحد، وبعد التصديق عليها من المجلس التشريعي، وهو ما لم يحدث حتى الآن.
ومن ناحية أخرى تعاني مؤسسات منظمة التحرير من ترهل شديد، بل هي فاقدة للشرعية على النحو الذي أوضحناه، ولا شك أن حالة الشلل الدستوري هذه تتطلب تحركا جديا لملئها.
وعليه فإن دائرة الحوار هنا يجب أن تقتصر أو تتمحور حول سبل الحل والعلاج لتلك الأزمة، وحول إذا ما كان ذلك يقتضي الدعوة لمرجعية جديدة واستبدال منظمة التحرير، أو بالإصرار على تفعيل أو إعادة بناء تلك المنظمة، رغم الاعتراف بالصعوبة البالغة لذلك.
أم أن الأمر يتطلب من حركة حماس أن تنتهز دعوة فريق السلطة إلى تحقيق المصالحة وإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية، فتصر من ناحيتها على أن تجري تلك الانتخابات على مستوى منظمة التحرير وليس السلطة فقط؛ وذلك تفعيلا لإعلان القاهرة في مارس 2005، وعلى اعتبار أن السلطة لا تعبر إلا عن جزء من الشعب الفلسطيني، ومجلسها التشريعي لا يمثل سوى 30% فقط من هذا الشعب؛ إذ يبلغ عدد الشعب الفلسطيني اليوم 11 مليونا، ثلثاهم من اللاجئين، وإذا أضفنا إليهم النازحين بعد 1967 فإن ثلاثة أرباع الفلسطينيين يعيشون خارج ديارهم ومواطنهم الأصلية (30% من هذا الشعب يعيشون في الضفة وغزة، منهم 12% في غزة، و18% في الضفة) وهؤلاء فقط هم من تمتعوا بانتخابات نزيهة شهد لها العالم بذلك، أما الـ 70% فليس لهم صوت في تقرير مصيرهم، بينما يتحدث باسمهم ويقرر عنهم أناس لم يكسبوا ثقتهم أو لم ينتخبوهم على أقل تقدير.
وعليه فإن شرعية التمثيل تقتضي ألا يقتصر الأمر على انتخابات على مستوى السلطة، وإنما على مستوى المنظمة أيضا، لاسيما وأن السلطة هي مجرد ترتيب انتقالي نحو الدولة.
والمنظمة هي مرجعية السلطة، ولأن السلطة لم تكن أكثر من مجرد ترتيب انتقالي نحو الدول وليست غاية بحد ذاتها، وما دام أن عام 1999 المفترض أن تقوم فيه الدولة قد مر مرور الكرام؛ فإن الأمر يستدعي العودة إلى الأصل لإجراء مراجعة شاملة، سواء على صعيد سير المفاوضات وعملية التسوية التي كانت ولا تزال عملية بدون تسوية، أو على صعيد مشروعية التمثيل الفلسطيني بشكل حقيقي داخل مؤسسات المنظمة.
المفاضلة بين تلك الخيارات ينبغي أن يتم على ضوء عدة حقائق تراعي خصوصية الحالة الفلسطينية زمنيا وموضوعيا، وكذلك ما يحيط بها من معطيات عربية وإقليمية ودولية.
وملامح تلك الخصوصية تتضح في ضوء ما يلي:
1ـ أن كلا من واشنطن وتل أبيب لا تريدان إحياء منظمة التحرير وتقويتها؛ لأن ذلك يبعد احتمالات فرض الحل الإسرائيلي – الأمريكي للقضية الفلسطينية، ويريدان إبقاء المنظمة على وضعها الحالي (أي بين الحياة والموت)؛ لكي تقوم بمهمتها الأخيرة، أي التوقيع على التسوية النهائية باسم الشعب الفلسطيني كله.
كذلك لن تسمح أمريكا وإسرائيل بقيام منظمة تحرير جديدة أو بديلة أو موازية يتم الاعتراف بها وبشرعيتها، وإنما ستكون لهذا الكيان الجديد في حالة قيامه بالمرصاد.
2ـ أن الأوضاع العربية الراهنة لا تسمح هي الأخرى بحديث عن منظمة بديلة أو حتى إطار أو جبهة موازية لها، ولهذا لا تستطيع حماس أن تمرر المرجعية الجديدة دون أخذ موافقة دول الطوق المعروفة، وبالتأكيد حماس لم تأخذ موافقة مصر والأردن، أما سوريا فثمة شك في أن تقبل بأن تخوض معركة بهذا الحجم فلسطينيا وعربيا ودوليا، وأن تتحمل نتائجها بعد أن حققت مكاسب دبلوماسية كبيرة في العام الماضي؛ جراء انفتاحها على العالم بعد الحصار الذي عانت منه كثيرا.
المقصد إذن أن اعترافا بمرجعية حماس الجديدة سيكون شبه مستحيل عربيا ودوليا، أقله في المدى المنظور، وعليه فليس من الحكمة إضاعة اعتراف أغلبية دول العالم بمرجعية موجودة، وإن كانت على غير ما نرضى ونحب، لمصلحة مرجعية في علم الغيب ومحكوم عليها بالفشل سلفا.
وعليه فإن حماس مدعوة إلى التمييز بين توجهها نحو إنشاء أطر تحالفية وائتلافية واسعة وعريضة من جهة، وبين التورط في خلق منظمات بديلة وموازية من جهة ثانية، يعرف الجميع بأن فرص انتزاعها لشرعية التمثيل ووحدانيته تبدو مستحيلة.
والأولوية الآن لحشد القوى ورص الصفوف لاستعادة منظمة التحرير وتحريرها من قبضة خاطفيها، بالتعاون مع فصائل المقاومة، وبالتنسيق مع قواعد فتح وكوادرها، أي هؤلاء الذين لم تعد لهم صلة بالمنظمة ولا بالسلطة، وباتوا يواجهون اليوم محاولات حثيثة لإكمال السيطرة على حركتهم ’’فتح’’، من قبل قيادات من خارجها، جرى تكييفها على مقاس التنسيق الأمني مع الأمريكيين والإسرائيليين!!
** باحث متخصص في الشئون الفلسطينية.
*اسلام أون لاين