مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
الإسلاميون مصدر لحيوية غير مسبوقة*
د.عمرو حمزاوي
على الرغم من محافظة الأنظمة الحاكمة في معظم الدول العربية على ثباتها وتماسكها وسيطرتها على
مفاصل الحكم والقرار فيها، شهد العام المنصرم في مختلف مجتمعات العالم العربي تحوّلاً -وإن جزئياً- في التركيبات المجتمعية، بفعل تعاظم دور بعض أحزاب المعارضة بين أوساط الشعوب العربية بشكل يخوّلها ممارسة ضغط معنوي على الحاكم، يجبره على إجراء رقابة ذاتية قبل اتخاذ قراراته، لكن هذه الأحزاب والجماعات على اختلافها لم تتمكن بعد من وضع ضوابط حقيقية على تصرفات المسؤولين العرب، أسوةً بالمعارضات الغربية التي تشكّل حكومات الظلّ وتكون الرقيب والحسيب الواعي دوماً على أعمال الحكومات، بفعل تحرّك معظم الدول العربية تحت شرعية قوانين الطوارئ والأنظمة.

على الرغم من أن الحراك السياسي الذي حدث بصور مختلفة في العالم العربي خلال الآونة الأخيرة لم يقارب بين العالم العربي وبين مشهد التحول الديمقراطي كثيراً، فإنه لم يعدم بعض الآثار والتداعيات المهمة.

فقد أضحت الساحة السياسية في عدد من الدول العربية أكثر انفتاحاً، وذلك على مستويات أربعة يتمثل أولها في تنوّع الفاعلين، إذ لم تعد النخب الحاكمة تحتكر بمفردها الممارسة المشروعة للسياسة، بل أضحت الأحزاب والحركات الإسلامية تزاحمها، فضلاً عن أدوار متفاوتة الأهمية تلعبها التيارات العلمانية، ليبرالية ويسارية.

كذلك برزت مطلبية ديمقراطية جديدة تكونت لها أدوات كالحركات والفعاليات الاحتجاجية التي تجمع بين السياسي والمدني على امتداد العالم العربي، والمستوى الثاني، يشكّل استقرار أشكال متنوعة وإن كانت غير مكتملة من الممارسات الديمقراطية، وجوهره المستوى من الانفتاح، وذلك بتكرار المشهد الانتخابي الرئاسي والتشريعي والمحلي بانتظام من المشرق إلى المغرب، الذي رتب أحياناً غير المتوقع من النتائج.

المحاسبة الشعبية
وثالثاً برزت على نحو تدرّجي ثقافة محاسبة شعبية باتجاه النخب الحاكمة، دفعتها في بعض الحالات إلى تبرير سياستها في سياق خطابات رسمية ديمقراطية الملامح وصياغة برامج إصلاحية حكومية، أما المستوى الرابع والأخير للانفتاح السياسي في العالم العربي، فيرتبط بإعادة اكتشاف القوى السياسية للشارع ودينامية التعبئة الجماهيرية في دول كالمغرب ومصر ولبنان واليمن.

الطريق طويل
بيد أن كل هذا لا يعني أننا أمام مشهد تحول ديمقراطي، ببساطة لأن معادلة السلطة مازالت بيد النخب الحاكمة التي تحول بمزيج من القمع والاحتواء عبر التعددية المقيدة والرعوية من دون تداولها.

وإذا ما استثنينا العراق وفلسطين حيث امتزج إلى حد بعيد تداول السلطة بانهيار النظام العام الذي كان سائداً، تتداخل تكوينات النخب بكثافة مع مؤسسات الدولة على نحو يكرّس الإدارة السلطوية للمجتمع ويتلاشى معه عملياً الخط الفاصل بين ما هو سياسي (نخبة الحكم) وبين ما هو تنفيذي (الدولة بمؤسساتها السيادية وأدواتها البيروقراطية).

ويغيب المشهد الديمقراطي العربي أيضاً لأن الوضعية الهشة والهامشية لأحزاب المعارضة، التي تعمل خارج دوائر الحركات الإسلامية، لم تتغير.

الليبرالية واليسار
وغابت الأحزاب الليبرالية واليسارية عن الوجود العلني في ظل الترتيبات السلطوية الضاغطة، فلم تطوِّر قواعد شعبية حقيقية وتكلّست بالتالي نخبها وخطاباتها وبرامجها.

الأخطر من ذلك، هو أن بعض تلك المؤسسات الحزبية انخرط في الحياة السياسية في ظل نمط التعددية المقيّدة، الذي يميّز الأنظمة شبه السلطوية.

وأخذت تلك المؤسسات، كالمعارضات المغربية والمصرية واليمنية قراراً استراتيجياً بالمشاركة، على الرغم من محدودية فاعليتها وأضحت من ثم تواجه معضلات الاحتواء وفقدان المصداقية.

كذلك تصدّر الأنظمة شبه السلطوية جزءاً من أزمة شرعيتها إلى أحزاب المعارضة التي يرتب غياب قدرتها على الدفع باتجاه تحولات جذرية في النظام السياسي تراجع ثقة المواطنين بها وسحبهم بعيداً عنها.

حيوية الإسلاميين
أما الإسلاميون فهم على النقيض، مصدر لحيوية غير مسبوقة، وتختلف حركات مثل التجمع اليمني للإصلاح والحركة الدستورية الإسلامية في الكويت والإخوان المسلمين في مصر وحزب العدالة والتنمية في المغرب، باختلاف البيئات السياسية العاملة بها ومنطلقاتها التاريخية، لكنها جميعاً تتميز بالتماسك التنظيمي وقدرتها على تجديد نخبها وتطويرها لرأسمال اجتماعي قابل للاستثمار أمام صناديق الانتخاب من خلال الوجود المستمر في الساحات الدينية والخيرية، لكن مشاركة الإسلاميين في الحياة السياسية تطرح عليهم تحديات عميقة جلّها يدور حول متوالية الالتزام الإيديولوجي-البراغماتية وثنائية الرؤية الاستئثارية بحجة سمو المرجعية والمنطلق في مقابل الاعتراف غير المشروط بالتعددية واحتمالية التداول، وهنا يقلل التأرجح البادي على خيارات الإسلاميين من فاعليتهم في الدفع نحو توسيع الهامش الديمقراطي.

معضلة التوازن
فمن جهة، يواجه الإسلاميون تحدي البحث عن توازن قابل للاستقرار وصالح للتطبيق العملي بين متطلبات المشاركة ومقتضيات الالتزام الإيديولوجي. استراتيجياً وحركياً، تستدعي السياسة العربية بتعدديتها المقيدة وهيمنة النخب الحاكمة عليها من الإسلاميين، تبنّي مواقف وسطية إزاء قضايا المجتمع الرئيسية، تتفاوت بالقطع مضامينها من خبرة إلى أخرى، وتضغط عليهم لتطوير توافقات براغماتية مع النخب وحركات المعارضة العلمانية إن أرادوا تجاوز محدودية مشاركتهم الراهنة.

في المقابل، تدفع القناعات الإيديولوجية للإسلاميين، ومن وراءها خشية حقيقية من فقدان تميز خطابات وبرامج تياراتهم، وكذلك من خطر إبعاد قطاعات واسعة مؤثرة في قواعدهم الشعبية يجيرها الالتزام الديني، إلى التركيز على المرجعية الإسلامية للمُتبنى من مواقف والمدعوم من سياسات حتى إن تعارض ذلك مع أولوية بناء التوافق.

ولا شك في أن مهمة البحث عن توازن بين البراغماتية والالتزام الإيديولوجي تزداد صعوبة، بل قد تتعثر عندما يفقد خيار المشاركة السياسية وهجه وطاقته الإقناعية لدى بعض قيادات الإسلاميين وقواعدهم الشعبية على خلفيه حصاده الضعيف، والنتيجة هي إما الإقدام المحتمي بالمرجعية والشريعة على ارتدادات حركية عن سابق مواقف وسطية، كما شاهدنا على سبيل المثال في دعوة مسودة برنامج حزب جماعة الإخوان المصرية إلى استحداث هيئة دينية ذات وظائف تشريعية واستبعادها المبرر فقهياً للأقباط والنساء من رئاسة الدولة، أو الشروع كحال حزب العدالة والتنمية بالمغرب في جدل مستفيض لا نهاية سريعة له بشأن الجوهر المؤسس للفعل السياسي للتيارات الإسلامية والأوزان النسبية للبراغماتي والإيديولوجي، ومن ثم بشأن أولويات المشاركة على نحو يفرض حالة عالية التكلفة من الغموض الاستراتيجي.

المشاركة السياسية
من جهة أخرى، أضحى الإسلاميون في حاجة ماسة إلى صياغة مقولات جديدة تبرر تمسكهم بالمشاركة السياسية وتعمل إزاء تكلفتها العالية ومردودها المحدود، على إقناع القواعد الشعبية برجاحتها كخيار استراتيجي لا بديل عنه، هنا يدلّ تحليل بيانات وأحاديث الآونة الأخيرة لقيادات الإسلاميين على حضور مجموعتين متميزتين من المقولات التبريرية؛ تركز إحداهما على فوائد الحدّ الأدنى المتمثلة في توظيف المشاركة السياسية وآلياتها، خصوصا تلك المرتبطة بالمؤسسات التشريعية والعمل البرلماني لدفع قمع النخب الحاكمة وأجهزتها الأمنية والحفاظ على تماسك القواعد من خلال التعبير العلني عن مطالبها، وإعطائها زخماً ليس له أن يتحقق بعيداً عن دينامية السياسة.

أما المجموعة الأخرى فتتمحور حول ما يمكن وصفه بدوافع الحد الأقصى المحملة برغبة الإسلاميين في الظهور كفاعلين سياسيين مسؤولين ملتزمين بالمشاركة، تحت أي ظرف وساعين دوماً إلى دفع عجلة التغيير السلمي والإصلاح التدرجي، ومن ثم التشكيك بمصداقية نقد النخب والمعارضات العلمانية لهم كتيارات تهدد السلم المجتمعي ولا يؤتمن لعواقب ممارساتها. الثابت، أيضاً، هو أن ثمة علاقة طردية تربط تعويل الإسلاميين المتصاعد على مقولات الحد الأدنى بلحظات الصراع مع النخب الحاكمة كما توضح الخبرة الراهنة لجماعتي الإخوان في مصر والأردن، بينما تبدو صياغة الدوافع القصوى للمشاركة أقرب للتحقق خلال مراحل الاسترخاء النسبي في علاقة النخب-الإسلاميين كحال الحركة الدستورية في الكويت والعدالة والتنمية المغربي.

تحديات كبرى
بيد أن وجود الإسلاميين بدوره يضع الساحة السياسية أمام تحديات كبرى، فعلى الرغم من أنهم وفي سياق صياغات وجود متعددة - من الحزب ذي الوجود القانوني إلى الجماعة المحظورة إلى الجمعية السياسية - حينما شاركوا في الانتخابات إن على المستويين القومي والمحلي أو على مستوى القطاعات النقابية لم ينقلبوا على الآليات الديمقراطية، لكن الحركات الإسلامية في العالم العربي لم تُختبر كحكومات منتخبة ديمقراطياً سوى في تجربة «حماس» الحديثة العهد والشديدة الخصوصية.

نعم، دخل الإسلاميون البرلمانات ومجالس النقابات وخرجوا منها من دون أن يصدر عنهم أي محاولة لتضييق مساحات الممارسة التعددية، لكنهم لم يقللوا قط من لا ليبراليتهم في قضايا الحريات الفردية والمدنية ولم يبحثوا -باستثناء تجربة أحزاب اللقاء المشترك في اليمن وبدايات للتوافق بين العدالة والتنمية والاتحاد الاشتراكي في المغرب- عن توافقات عبر إيديولوجية مع المعارضات الليبرالية واليسارية.

يمثل ضعف الهيئات التشريعية والقضائية وعزوف أغلبيات واضحة في المجتمعات العربية عن المشاركة في الحياة السياسية معضلات أخرى تقلل من فرص التحول الديمقراطي. ففي حين لا تملك البرلمانات في الأغلب الأعم سلطات رقابية حقيقية وتتبع في فعلها إرادات نخب الحكم، يتم تهميش القضاء المستقل والمحايد في ظل طغيان المؤسسة الأمنية وشيوع العمل بالقوانين الاستثنائية في العديد من الحالات.

المشاركة الشعبية
أما غياب المشاركة الشعبية فهو إن أمكن تفسيره جزئياً من خلال الرجوع إلى سوء الأوضاع المعيشية (الفقر، البطالة، الأمية) وما ترتبه من نظرة إلى النشاط السياسي كفعل كمالي، لكن حركات وأحزاب المعارضة وفاعلي المجتمع المدني تتحمل الشق الأكبر من مسؤولية الإخفاق في الدمج التدريجي لقطاعات أوسع من المواطنين في الحياةالسياسية.

فشلت القوى الليبرالية واليسارية بل والإسلامية في إنتاج نقاش عام حقيقي بشأن الديمقراطية، يربط بين فرص التحول باتجاهها وبين إمكانات تحسين الظروف الاقتصادية والاجتماعية، كما عجزت عن صياغة مشاريع للتغيير تتجاوب مع تطلعات الأغلبيات الفقيرة والمهمشة بطرح قضايا من شاكلة إعادة توزيع الثروة والعدل الاجتماعي.

أخيراً، ما لبثت الثقافة السياسية العربية تعاني وباء الشمولية الذي أورثتنا إياه عقود طويلة من القمع والتضييق على الحريات.

ولا تقتصر إفرازات وباء الشمولية العربي على تبرير العنف والإرهاب، بل تتعداهما إلى فرض نظرة استعلائية تجاه ظواهر المجتمع والتاريخ تتناقض في التحليل الأخير مع جوهر الفكرة الديمقراطية، ومثال ذلك نزوع العديد من الليبراليين واليساريين العرب إلى تفسير نجاحات الإسلاميين في الانتخابات باختزالية ملحوظة، إما كتعبير عن وعي جماهيري زائف أو كظاهرة انتقالية مآلها إلى الزوال مع اتساع آليات المشاركة والمنافسة السياسية.

مصدر الاستعلاء الشمولي المناقض للفكرة الديمقراطية هنا، هو تجريد الحقيقة المجتمعية من مضمونها وتأويلها القسري بصورة لا تحفّز على إدراك رشيد لمضامينها ولا تلاءم سوى قناعات الذات الناظرة.

كما ينطبق الأمر نفسه على دفع بعض الأصوات الإسلامية والمحافظة بخصوصية العالم العربي الثقافية والحضارية في معالجة قضايا الإصلاح والتحول الديمقراطي.

يفرض الإسلاميون أحياناً على مجتمعاتنا إطاراً كليّاً يدّعي احتكار الحقيقة ويختزل ظواهر الاجتماع والسياسة المركبة في ثنائيات تبسيطية تفضيلية من شاكلة الأصيل والوافد، النافع والضار، الخير والشر، ومثلما يجافي تعامل العلمانيين الاختزالي مع دور الدين في السياسة واقع المجتمعات العربية، لا ينبغي تأويل نجاحات الحركات الإسلامية الانتخابية باعتبارها بينة انتصار الحق على الباطل.
تلك هي بعض معوقات التحول الديمقراطي في العالم العربي كما تتبدى اليوم، استمرارها لا يدعو إلى القنوط فقط، بل يرسم صورة أكثر واقعية لمشهد الحراك السياسي الراهن وصيروته المستقبلية.

- ويغيب المشهد الديمقراطي العربي أيضاً لأن الوضعية الهشة والهامشية لأحزاب المعارضة، التي تعمل خارج دوائر الحركات الإسلامية، لم تتغير.

- أما الإسلاميون فهم على النقيض، مصدر لحيوية غير مسبوقة، وتختلف حركات مثل التجمع اليمني للإصلاح والحركة الدستورية الإسلامية في الكويت والإخوان المسلمين في مصر وحزب العدالة والتنمية في المغرب، باختلاف البيئات السياسية العاملة بها ومنطلقاتها التاريخية، لكنها جميعاً تتميز بالتماسك التنظيمي وقدرتها على تجديد نخبها وتطويرها لرأسمال اجتماعي قابل للاستثمار أمام صناديق الانتخاب

- دخل الإسلاميون البرلمانات ومجالس النقابات وخرجوا منها من دون أن يصدر عنهم أي محاولة لتضييق مساحات الممارسة التعددية، لكنهم لم يقللوا قط من لا ليبراليتهم في قضايا الحريات الفردية والمدنية ولم يبحثوا -باستثناء تجربة أحزاب اللقاء المشترك في اليمن وبدايات للتوافق بين العدالة والتنمية والاتحاد الاشتراكي في المغرب- عن توافقات عبر إيديولوجية مع المعارضات الليبرالية واليسارية

- ولا تقتصر إفرازات وباء الشمولية العربي على تبرير العنف والإرهاب، بل تتعداهما إلى فرض نظرة استعلائية تجاه ظواهر المجتمع والتاريخ تتناقض في التحليل الأخير مع جوهر الفكرة الديمقراطية، ومثال ذلك نزوع العديد من الليبراليين واليساريين العرب إلى تفسير نجاحات الإسلاميين في الانتخابات باختزالية ملحوظة، إما كتعبير عن وعي جماهيري زائف أو كظاهرة انتقالية مآلها إلى الزوال مع اتساع آليات المشاركة والمنافسة السياسية.

* كبير الباحثين في مركز «كارنيغي» للشرق الأوسط التابع لمؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، بيروت.
*عن الصحوة نت
أضافة تعليق