بسم الله الرحمن الرحيم
غثاء أحوى
بينا أقرأ في المؤتلف والمختلف للدار قطني بسنده إلى عمرو بن العاص – رضي الله عنه – أنه خطب الناس فقال :
" يا معشر الناس إيايا وخلال أربعة ؛ فإنها تدعوا إلى النصب بعد الراحة وإلى الضيق بعد السِعة وإلى المذلة بعد العز ! ؟
إيايا وكثرة العيال ، وإخفاض الحال ، وتضييع المال ، والقيل والقال من غير درك ولا نوال "
وكما أن هذه المعاني تطل على بريق شخصية هذا الصحابي الجليل فإنها تلفت الانتباه إلى سيرة هذا الزمان في الشعوب الإسلامية ، أو لنقل سيرتهم فيه ، أعداد ضخمة وأحوال راكضة على غير بصيرة والتبعات بين سقوط أو اضطراب أو ضعف وخذلان ..
"يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها "
فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟
قال: "بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعنَّ الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوهن"
فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال:
"حب الدنيا وكراهية الموت " رواه الإمام أحمد في مسنده ، وأبو داود في سننه
أما ما نشاهده من هوى جامح ، ورغبة ملحة في عفوية تلقي حديث الرسول – صلى الله عليه وسلم - " تكاثروا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة. " حديث صحيح .
فهو كعوارض الحلقوم وقصبتي الرئة والسعال وكثرة الرشح اختلال يجب أن يراه اختصاصي على الفور ، تشبث يصرف المتشبث عن كل ما هو خارج عنه ويعميه عن الوقائع والحقائق التي لا تخفى عنه !.
فهل المطبقين لهذا المعنى استرشدوا بقواعد التربية والأخلاق ؟ !
هل اهتموا بالتعادل الكيفي – من الكيف لا الكم – بحيث يباهي - صلى الله عليه وسلم - بالأنقياء الأتقياء المنتجين المعمرين للأرض ؟ أم بمن ؟؟
الأولاد نعمة من نعم الله ولكن اللذة بوجودهم شئ والسرور بهم شئ آخر وهذا يحدده الحس الاجتماعي السليم ، روي عن ابن عمر أنه سُئل عن جهد البلاء فقال : كثرة العيال وقلة المال .
أما ابن عباس - رضي الله عنه- حبر الأمة وترجمان كتابها فيقول :
إن كثرة العيال أحد الفقرين و قلة العيال أحد اليسارين و الفقران هما :
قلة المال التي تسبب العجز أو التقصير و كثرة العيال المرهقة لصاحبها ، و اليسارين هما كثرة المال و قلة عدد الأولاد .
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب – رضي الله عنه فيقول : قلة العيال أحد اليسارين .
والمتأمل في أقوال هؤلاء العِظام لا مفر له من إخضاع هواه لمراقبة العقل والحكم الموضوعي فليس من قبيل الصدفة أن يترادف المال والبنون ليكونا زينة الحياة الدنيا ! كما ورد في كتاب الله تعالى .
أما أن يكون الولد غيظاً ، ويفيض الأشرار فيضاً ! كما ورد في الأثر في آخر الزمان ؛ فلأن الاهتمام كان بالكم لا بالكيف وإلا من أين جاء هؤلاء الأشرار ؟ !
أتتعزى الإنسانية بكثرة أنهكتها الحروب ؟ أتتعزى الإنسانية عن عذاب أطفالها حفاة عراة مشردين ؟ يوماً ستنقضي غفلتهم ويمزق شبابهم الستار فعلى أي حال يكونون ؟ !
فإن شبوا بين براثن الشقاء والقسوة عكروا صفاء كأس المستقبل أفواجاً تُجدف وتلعن وتأتي كل محرم بلا خجل .
كثرة طاغية حاصدة لمقدرات الحياة فيضطرب المجتمع ،وتأتي الثانية في تحذير عمرو بن العاص – رضي الله عنه - إخفاض الحال مع تضييع المال بين وحش الغلاء وقلة الموجود وعته الإسراف ، فتطل الرابعة ، القيل والقال ، شائعات وأكاذيب وأراجيف مزلزلة من غير درك ولا نوال ، وكفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع ، والأمر والأدهى أن تتحول الحياة كما بدأ خطبته عمرو بن العاص – رضي الله عنه – لافتاً للانتباهِ قبل أن يكشف هذه الخلال
إلى النصب بعد الراحة وإلى الضيق بعد السِعة وإلى المذلة بعد العز ! ؟