مؤمن بسيسو
ثمة جدل يتصاعد باطراد في أوساط قادة ومفكري حركات الإسلام السياسي
غرد النص عبر تويتر
بين أنصار الواقعية السياسية الذين يدعون إلى التكيّف مع متطلبات الواقع السياسي، وابتدار صيغ مستجدة ترتقي إلى مستوى التحديات التي أفرزتها الأحداث العاصفة، وخصوصا في مرحلة انكفاء الربيع العربي وتداعياته القاسية؛ وبين دعاة اللاواقعية السياسية الذين حبسوا أفكارهم وتصوراتهم في قفص الجمود والتقليد، وتوقفت لديهم ديناميات الحركة والتطور لصالح رؤى ومواقف عقيمة أوردت حركاتهم القهقرى واستمراء البكاء على الأطلال.
تعيش حركات الإسلام السياسي في المنطقة العربية هذه الأيام ضمورا سياسيا وخمولا ميدانيا، ويعاني معظمها من ضبابية حادة في الرؤية إزاء سبل التعامل مع الأنظمة العربية في بلدانها، وتتنازعها جواذب اجتهاد في اتجاهات ومسارات مختلفة بين فترة وأخرى.
يصعب وضع هذه الحركات في سلة واحدة وإعمال ذات المعايير النقدية على الجميع في ذات الوقت، فالفروقات بيّنة بين تجربة وأخرى.
إلا أن واقع معظم حركات الإسلام السياسي يشي بقدر عالٍ من التشتت والاضطراب، ويعزز مناخات الجمود التقليدية التي رانت على فكر وتصورات هذه الحركات على مدى العقود الماضية، وحرمها دينامية الانفتاح على الواقع وتطورات الأحداث في إطار مراجعات نقدية، لم يتوسل أصحابها إلا بظاهرها القشري بحجة التمسك بالثوابت والمبادئ القديمة.
"واقع معظم حركات الإسلام السياسي يشي بقدر عالٍ من التشتت والاضطراب، ويعزز مناخات الجمود التقليدية التي رانت على فكر وتصورات هذه الحركات على مدى العقود الماضية، وحرمها دينامية الانفتاح على الواقع وتطورات الأحداث في إطار مراجعات نقدية، لم يتوسل أصحابها إلا بظاهرها القشري بحجة التمسك بالثوابت والمبادئ القديمة"
ومع ذلك، فإن معظم حركات الإسلام السياسي تشترك في العديد من الأخطاء الإستراتيجية التي شكلت عنوانا جامعا لإخفاقاتها السياسية والوطنية خلال السنوات الماضية.
ومن تلك الأخطاء أن هذه الحركات تعاملت مع أحداث ومخرجات الربيع العربي بسطحية مفرطة واستخفاف كبير، وانساقت وراء عواطفها التي زينت لها انطواء المحن ووردية الطريق، وأن المرحلة قد باتت مرحلتها بلا منازع، فخاضت المسار السياسي دون حسابات دقيقة، وقفزت قفزات غير محسوبة وجانبها التوفيق.
وبالتالي فإنها حرقت الكثير من المراحل في وقت كان يفترض فيه أن تستوعب شروط ومفاهيم وآليات العمل السياسي، وأن تتدرج في العمل العام والطريق إلى إدارة الدولة، بحكم انعدام خبرتها السابقة في ممارسة الحكم وشؤون الدولة.
ومن بين الأخطاء أيضا، أن بعض حركات الإسلام السياسي -التي فازت في الانتخابات ببلدانها- عجزت عن الانتقال من المرحلة الحزبية الضيقة إلى المرحلة الفسيحة التي تجعل منها خيار الجميع، وتمنحها القدرة على مخاطبة وتلمّس هموم وآمال وطموحات واحتياجات كافة الشرائح الاجتماعية في بلدانها، عبر سياسات عملية بعيدا عن لغة العواطف والشعارات.
ومن بين ذلك، عجز هذه الحركات عن استيعاب خريطة التحالفات الداخلية والخارجية، وقراءة المضامين والمواقف والممارسات السياسية الإقليمية والدولية بشكل سليم، فكانت حساباتها تبعا لقراءاتها الخاطئة، وكانت النتيجة السقوط في فخ المكائد والاستدراج الذي نُصب لها إقليميا ودوليا.
ومن أهم الأخطاء -التي سقطت في شراكها- عجزُها عن التفريق بين الثابت والمتغير، وبين الإستراتيجية والتكتيك، إذ هيمنت عليها مفردات الجمود عقودا، وبقيت حبيسة القناعات الصخرية والأفكار المقولبة التي ترى أن الباطل لا يأتيها من بين يديها ولا من خلفها.
لم تدرك حركات الإسلام السياسي أن التطورات المتسارعة -في واقع الفكر والتكنولوجيا على السواء- لا تُبقي لها حجة في إبقاء القديم على قدمه، واستنساخ ذات الآليات والأساليب بين يدي كل مرحلة على المستويات: التربوية والاجتماعية والسياسية.
وفي سياقات عملها الحركي وجهدها التربوي؛ لم تبتدر هذه الحركات -منذ عقود- مراجعة حقيقية تتوخى الفرز بين الأهداف والغايات المنشودة من جهة، وآليات ووسائل تحقيقها من جهة أخرى، فتحولت هذه الآليات والوسائل إلى أدوات مقيمة على الدوام في الحضن الحركي رغم ضعف جدواها، وبدا أنها أضحت أهدافا وغايات بحد ذاتها، مع ما يحمله ذلك من مخاطر كبرى على المسار التربوي والاجتماعي لهذه الحركات.
ولكي تلتحق حركات الإسلام السياسي بقطار المرحلة، وتستعيد حيويتها وثقة الشعوب بها التي فقدت جزءا مهمّا منها على مدار السنوات الماضية؛ فإن عليها الإسراع في اعتماد المعالجات التالية:
أولا: الفصل بين السياسي والدعوي: حتى اللحظة، فإن حركات الإسلام السياسي تُحجم عن الفصل بين السياسي المتغير والدعوي الأقل تغيرا والأكثر ثباتا، باستثناء حركة النهضة التونسية وحزب العدالة والتنمية المغربي.
"حين يختلط السياسي بالدعوي، وتخوض الكوادر الحركية الإسلامية المسارين معا؛ فإن السياسة تلوث أصحابها في كثير من الأحيان، أو تضعهم موضع النقد والتشريح والاتهام على أقل تقدير، بسبب الأوضاع والاجتهادات المتغيرة، واختلاف زوايا الرؤى وتقدير المصالح بين الحركات والأحزاب السياسية"
من الخطأ أن يعتقد البعض أن الفصل المطلوب يُحيل هذه الحركات إلى مربع العلمانية، أو يباعد بينها وبين القيم الدينية التي نشأت في رحابها وزينت بها أدبياتها الفكرية والسياسية والثقافية.
فالفرق بيّن بين الحركة السياسية اليومية التي تتفاعل مع الأحداث والقضايا المتلاحقة، في إطار بيئة سياسية معروفة تنطوي على المراوغة والدهاء والتلوّن والخداع؛ وبين الجهد الدعوي والعمل القيمي الذي يخاطب الناس والجماهير باسم الدين، ويتدثر فيه الناشطون بأردية الدعاة في أجواء إيمانية قيمية خالية من الشوائب والأكدار.
وحين يختلط السياسي بالدعوي، وتخوض الكوادر الحركية الإسلامية المسارين معا؛ فإن السياسة تلوث أصحابها في كثير من الأحيان، أو تضعهم موضع النقد والتشريح والاتهام على أقل تقدير، بسبب الأوضاع والاجتهادات المتغيرة، واختلاف زوايا الرؤى وتقدير المصالح بين الحركات والأحزاب السياسية.
ليس هناك من بأس في المزج بين السياسي والدعوي ما دامت الكوادر والقيادات جامعة للمكارم والصفات الإيمانية والقدرات والخبرات السياسية في آن، بعيدا عن الخدوش والثلمات والأخطاء التي تهزها هزا في أعين الجماهير، لكن الواقع اليوم ينبئ عن فقر مدقع في المبنى الصفاتي الجامع لهذه الكوادر والقيادات، ويجعل من الفصل بين السياسي والدعوي أمرا لازما وضرورة حتمية.
ثانيا: إعادة بناء التفكير الحركي: معضلة المعضلات لدى حركات الإسلام السياسي تكمن في نمطية التفكير الحركي، الذي تنبثق عنه المواقف والسياسات في مختلف المجالات.
راوحت التجارب الحركية لحركات الإسلام السياسي طيلة العقود الماضية في مكانها، واستنسخت ذات المناهج والأدوات والسياسات دون أي تغيير حقيقي.
وفيما لاحت لهذه الحركات الفرصةُ الذهبيةُ مع اندلاع ثورات الربيع العربي؛ فإن قدرتها على استثمار المتغيرات الحاصلة بدت ضعيفة للغاية، وبدلا من أن تحمل مشروع إنقاذ للأمة وشعوبها وإصلاح لواقعها المتردي في مختلف المجالات، فإنها تقوقعت في إطار البحث عن مصالحها الحركية أولا.
ولم تحلّق هذه الحركات في الفضاءات المفتوحة القادرة على جمع كل الأطياف والتيارات تحت راية الكرامة والسعي لتحقيق قيم الحرية والعدالة، بما يعود بأفضل الأثر على حاضر الأمة ومستقبل نهوضها، فسَهُلَ بذلك استهدافُها والانقلاب عليها.
ومردُّ ذلك هو الانغلاق على نمطية أحادية في التفكير السياسي والاجتماعي، والبقاء في أسر المعايير والمناهج والمفاهيم المرتبطة بها والدائرة حولها، والخوف من التجديد، والركون إلى الفكر القديم الذي تجاوزت الأحداثُ الكثيرَ من مبناه وآلياته ومعانيه.
ثالثا: إعادة صناعة القادة والقدوات: ينبغي أن تدرك حركات الإسلام السياسي أن الكثير من قياداتها لا يمكن وضعها في خانة القدوة القابلة للتأسي والاتباع، وأن العديد من العوامل والاعتبارات قد استهلكت صورة الكثير من هذه القيادات، وحرمتها من أن تكون نموذجا ملهما لقاعدتها الحركية من جهة، ولجماهير شعوبها من جهة أخرى.
والمقصود هنا لا يتعلق بقدح هذه القيادات في صميم صفاتها الأخلاقية، بل يتعلق بتواضع صفاتها وشمائلها الشخصية والقيادية، وانحسار مستوى الهمم والعزائم المحركة لها وتحققها بالمواصفات الإيمانية والخبرات السياسية الرفيعة التي تجعلها قادرة على نيل ثقة شعوبها، والصمود في وجه عواصف المحن والتحديات، وخوض غمار التنافس والصراع مع البيئة والمكونات المحيطة بعظام قوية لا تعرف الخور أو الانكسار.
"لكي تثبت هذه الحركات أهليتها السياسية؛ فإن عليها إرساء رؤية سياسية واضحة المعالم ومجردة من البعد الشعاراتي الفضفاض، وتوفير إجابات دقيقة عن كافة الأسئلة السياسية والاقتصادية التي تشغل بال الشرائح والمكونات الشعبية المختلفة في بلدانها، ولهذه الحركات أن تستفيد من تجربة حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا"
رابعا: ربط البرامج السياسية بالواقع: تحتاج حركات الإسلام السياسي إلى إعادة صياغة مواقفها وبرامجها السياسية بحيث تكون منسجمة مع أحداث وتطورات الواقع، فقد عانت مواقفُها وبرامجها السياسية من عُقدة العمومية المفرطة والشعارات البراقة، والافتقار إلى الحكمة والنضوج المطلوب.
ولعل تفحّص أدبيات حركات الإسلام السياسي بهذا الخصوص يكشف عن اختلال واضح في تحديد الأولويات السياسية، والكثير من قصَر النظر في التعاطي مع الأحداث السياسية وقضايا المجتمع، مما زجّها في مربع النقد والاتهام بضعف الفهم وعدم المسؤولية في كثير من الأحيان.
فوق ذلك، فإن التجارب المرة -التي مرت بها هذه الحركات على مدار السنوات الماضية- برهنت على خفّتها السياسية، وعجزها عن إنتاج خطاب سياسي واقعي في غمرة التحديات الكبرى التي واجهتها، وهو ما أضعف أسهمها الجماهيرية والالتفاف الشعبي حولها، وعزز قناعات خصومها القائلة بانتفاء قدرتها على ركوب بحر السياسة وتحمل مسؤولياتها الوطنية في بلدانها.
ولكي تثبت هذه الحركات أهليتها السياسية؛ فإن عليها إرساء رؤية سياسية واضحة المعالم ومجردة من البعد الشعاراتي الفضفاض، وتوفير إجابات دقيقة عن كافة الأسئلة السياسية والاقتصادية التي تشغل بال الشرائح والمكونات الشعبية المختلفة في بلدانها.
ولهذه الحركات أن تستفيد من تجربة حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا الذي انعتق من أسر الشعارات، وأقام برنامجه على المبادئ والأصول والكليات دون تحجّر في الأسماء واللفظيات، وتمكن من طرح برنامج سياسي واقتصادي واجتماعي رصين استطاع أن يثبت جدارته في الحكم عقدا ونيف.
كما تمكّن من امتلاك زمام أفئدة الجماهير التركية وحاز ثقة وتقدير مختلف تلاوينها السياسية والاجتماعية، وهو ما تجسد عمليا في الهبّة الشعبية التي دافعت عن حكم العدالة والتنمية وأسقطت المنقلبين على إرادتها الوطنية إبان الانقلاب الفاشل العام الماضي.
وباختصار؛ فإن حركات الإسلام السياسي ليست بحاجة إلى كثير من جلد الذات والغرق في بحار الجدل العقيم، بقدر ما تحتاج إلى همم عالية وعزائم كبيرة تحملها على سلامة تشخيص الأدواء والأخطاء الإستراتيجية التي ألقت بالكثير منها إلى هامش الأحداث، والشروع في تبني الصيغ والسبل الكفيلة باستدراك ما فات، والنهوض مجددا لما فيه صالح هذه الحركات ومستقبل شعوبها.
المصدر : الجزيرة