صفقة مفاجئة
مكاسب الطرفين
موقف عباس وفتح
سلبيات الصفقة
التفاهم أو الصفقة -على الأرجح- التي تم إبرامها بين حركة حماسوالنائب محمد دحلان القيادي المفصول من حركة فتح مؤخرا، ومفاعيلها الإيجابية والسلبية على السواء؛ تهيمن على كافة تفاصيل المشهد الفلسطيني، وتقذف بمجرى الأحداث الفلسطينية الداخلية إلى منحى أكثر إثارة وخطورة خلال المرحلة القادمة.
صفقة مفاجئة
شكلت صفقة حماس/دحلان مفاجأة مدوية تركت صداها على الساحة الفلسطينية بشكل عام، وفي الأوساط الحزبية والفصائلية بشكل خاص، ليس لكونها جاءت بغتة دون مقدمات، وإنما لما شكلته من انتقال قسري ومفاجئ في طبيعة علاقة حماس وموقفها وسلوكها تجاه دحلان، في ظل الإرث الدامي الذي جلّل طبيعة هذه العلاقة سابقا.
لا تتوفر حتى اليوم تفاصيل كافية حول مضامين الصفقة المبرمة بين الطرفين، غير أن التسريبات السياسية والإعلامية حددت أهم ملامحها، فبدت أشبه ما تكون برزمة متكاملة أو خريطة طريق واضحة المعالم للإبحار بالأوضاع الداخلية لقطاع غزة، في ظل العواصف العاتية والتحديات المتعاظمة التي تتناوشه من كل اتجاه.
الصفقة التي تم إنجازها بين حماس ودحلان تشتمل على أبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية حسب المؤشرات والتسريبات القائمة، وتندرج تحت إطار خطة سريعة لتلافي آثار الحصار المفروض على القطاع، وحل أزماته المستعصية التي أرهقت كاهل أبنائه طيلة العقد الماضي.
ورغم حرص الطرفين على إبقاء بنود الصفقة قيد الكتمان فإن البعض تحدث بشكل تفصيلي عن توريد السولار الصناعي الخاص بتشغيل محطة الكهرباء، وفتح معبر رفح بشكل شبه دائم.
وتدشين منطقة تجارية حرة في الجانب المصري من الحدود المصرية/الفلسطينية، وتفعيل ملف المصالحة المجتمعية عبر إنشاء صندوق وطني يتكفل دحلان بتمويله بمبلغ قدره 150 مليون دولار، وفقا لبعض التسريبات.
أما الجانب الأخطر من التسريبات الذي يحجم الطرفين عن الخوض فيه؛ فيتعلق بدور دحلان السياسي وآليات التعاون السياسي والأمني بينه وبين حماس خلال المرحلة المقبلة.
إذ تحدثت تسريبات -لم يتم تأكيدها- عن تشكيل كيان أو لجنة لإدارة غزة بالتوافق، بحيث تتم دعوة كل الفصائل والشخصيات للمشاركة فيها، وإسناد مهمة إدارة العلاقات الخارجية والشأن الدبلوماسي وإدارة المعابر لدحلان، فيما يتم إسناد الدور الأمني لحماس، دون الإتيان على ذكر سلاح المقاومة والخوض فيه.
مكاسب الطرفين
لا يختلف اثنان أن دحلان يعتبر الرابح الأكبر من وراء الصفقة المبرمة مع حماس، وأن هذه الصفقة توصف بأنها "ضربة معلم" أو مكسب إستراتيجي لدحلان بكل معاني الكلمة.
"شكلت صفقة حماس/دحلان مفاجأة مدوية تركت صداها على الساحة الفلسطينية بشكل عام، وفي الأوساط الحزبية والفصائلية بشكل خاص، ليس لكونها جاءت بغتة دون مقدمات، وإنما لما شكلته من انتقال قسري ومفاجئ في طبيعة علاقة حماس وموقفها وسلوكها تجاه دحلان، في ظل الإرث الدامي الذي جلّل طبيعة هذه العلاقة سابقا"
على مدار السنوات الماضية؛ عاش دحلان عزلة حقيقية وحالة بُعد قسرية عن مشهد صناعة الحدث والقرار الفلسطيني، إثر فصله من حركة فتح وملاحقته قضائيا واضطراره للفرار من الضفة الغربية إلى دولة الإمارات، واجتراحه العمل السياسي والإعلامي من خارج الحدود الفلسطينية.
ورغم محاولاته الدؤوبة لاقتحام المشهد السياسي الفلسطيني بين الفينة والأخرى، استنادا إلى علاقاته الوثيقة مع بعض الدول العربية وخاصة الإمارات والسعودية ومصر؛ فإن دحلان بقي على هامش الحدث الفلسطيني، وعجز عن التأثير في مجريات صنع القرار أو تغيير الوقائع السياسية والميدانية، في ظل سيطرة محمود عباس (أبو مازن) وحركة فتح على مقاليد السلطة في الضفة الغربية، وإحكام حماس قبضتها على زمام الحكم بغزة.
وزاد الطين بلّة لدى دحلان ما قامت به السلطة في الضفة من إجراءات تضييقية طالت أنصاره والقيادات والكوادر التابعة له، وعدم السماح لهم بمزاولة الفعل والحراك السياسي والتنظيمي الذي يرى فيه أبو مازن وفتح خطرا على أمن واستقرار كيان السلطة، وتهديدا مباشرا لنفوذ فتح في مناطق الضفة.
تبعا لذلك، راقب دحلان تطورات المشهد الفلسطيني الداخلي المتأزم بين حماس وفتح من منفاه البعيد، ولم يجد ظرفا أكثر مثالية للتدخل المباشر من الظروف العصيبة الراهنة التي يمر بها قطاع غزة، الذي طفحت فيه المعاناة واستحكمت في جوانبه الأزمات، في ظل الإجراءات العقابية التي اتخذها مؤخرا أبو مازن بحق حماس وأهالي القطاع.
ولن يطول الوقت حتى يتكلل المشهد السياسي الفلسطيني بعودة قوية لدحلان إلى قلب العمل السياسي المتركز في غزة. وغني عن القول أن تمركز دحلان في غزة سيمنح تياره داخل فتح قوة كبيرة لإعادة بناء ذاته تنظيميا وجماهيريا، والتحول مجددا إلى قوة هامة ومؤثرة في مواجهة أبو مازن والتنظيم الأساسي لحركة فتح.
أما حماس فتعوّل كثيرا على صفقتها مع دحلان للخروج من ضيق الخيارات وشرنقة الحصار، الذي أورثها أحمالا ومسؤوليات ثقيلة لم تستطع الوفاء بها طيلة العقد الفائت، في ظل فقدانها شرعية التعاطي والعمل الإقليمي والدولي، باستثناء التعاطي القطري والتركي المعروف.
امتلكت حماس قدرة معينة في الماضي على المناورة والالتفاف حول الأزمات بفعل الدعم الإيراني والقطري والتركي، إلا أنها اليوم تبدو مجردة من أوراق القوة والمناورة في ظل الإجراءات القاسية التي اتخذها أبو مازن.
وكذلك أزمتها المالية الناجمة عن إغلاق الأنفاق والحدود مع مصر طيلة السنوات الماضية، والاتفاق التركي/الإسرائيلي الذي حيّد الدور التركي جانبا باستثناء الدعم النظري، والمحنة التي ضربت علاقة قطر بجيرانها الخليجيين مؤخرا.
ولأنها لا تستطيع الصمود طويلا بدون مخرج حقيقي يتولى رفع الحصار المضروب عليها أو تخفيفه على أقل تقدير؛ فقد وجدت حماس في الاستعداد المصري للتفاعل معها عبر بوابة دحلان ملاذها الأمثل لتفكيك أزماتها المستعصية، بعيدا عن مطالب واشتراطات "أبو مازن" وفتح التي ترى فيها سلبا للكثير من مظاهر حكمها ونفوذها في غزة.
ما تخشاه حماس من مطالب واشتراطات أبو مازن ليس واردا ضمن صفقتها مع دحلان، إذ تضمن لها الصفقة استمرار هيمنتها على الجهاز الحكومي والإداري في غزة، وعدم المساس بسيطرتها الأمنية والعسكرية عليها، دون أن يضيرها تولي دحلان مسؤولية العلاقات الخارجية والدبلوماسية التي تفتقدها عمليا منذ عقد من الزمن.
فوق ذلك، فإن حماس ترى أن الصفقة تمنحها اليد العليا فيما يخص مرحلة ما بعد عودة دحلان، وما يرتبط بها من تشكيلات إدارية جديدة عبر إخضاعها لمبدأ التوافق معها، وهو ما يزيل عنها الكثير من القلق والهواجس المرتبطة بالمرحلة المقبلة من وجهة نظرها.
موقف عباس وفتح
لا نبالغ بالقول إن عباس (أبو مازن) وفتح قد فوجئوا بصفقة دحلان/حماس كما فوجئ بها مختلف الفلسطينيين، إذ إن أبو مازن وفتح كانوا يسيرون ضمن خطة متدرجة لإخضاع حماس لشروط المصالحة، وحملها على تسليم مقاليد الحكم بغزة لحكومة التوافق الوطني، ويرون الدوائر تُضيّق خناقها شيئا فشيئا على حماس انتظارا للحظة النهاية، إلى أن جاء ما لم يكن في التوقّع والحسبان.
"لعل الموقف المصري الرسمي الراعي لصفقة دحلان/حماس، وسماحه بدخول السولار الصناعي لإعادة تشغيل محطة الكهرباء الرئيسية في غزة، هو أكثر ما أثار غضب أبو مازن الذي تشير أنباء إلى استعداده لشن هجمة مرتدة تستهدف إحباط الصفقة وتفريغها من مضمونها خلال الأيام القادمة، عبر تشكيل وفد فتحاوي رفيع للقاء القيادة المصرية"
موقف أبو مازن وفتح الحانق على صفقة دحلان/حماس يبدو طبيعيا في ظل الخلل البيّن الذي أصاب خطته الموضوعة لاستعادة غزة، والطريق الممهدة لعودة خصمه اللدود دحلان الذي يستحث الخطى من بوابة غزة بأسرع مما يتوقعه الكثيرون.
وما يزيد غضب أبو مازن ما يراه من تآكل شرعيته التمثيلية الناجمة من خروج غزة عن دائرة سيطرته المباشرة، والاتهامات الأميركية والدولية له بعدم اكتمال تمثيله السياسي والجغرافي للفلسطينيين اللازم لإنجاز مقتضيات التسوية مع إسرائيل.
ولعل الموقف المصري الرسمي الراعي لصفقة دحلان/حماس، وسماحه بدخول السولار الصناعي لإعادة تشغيل محطة الكهرباء الرئيسية في غزة، هو أكثر ما أثار غضب أبو مازن الذي تشير أنباء إلى استعداده لشن هجمة مرتدة تستهدف إحباط الصفقة وتفريغها من مضمونها خلال الأيام القادمة، عبر تشكيل وفد فتحاوي رفيع للقاء القيادة المصرية، وثنيها عن أي تعاون مع حماس أو منحها أي فرصة لاختراق جدار الحصار المضروب عليها.
بموازاة ذلك، فإن أبو مازن سيعمد إلى تكثيف إجراءاته المتخذة ضد غزة، وسيحاول جاهدا فرض مزيد من التأثير على القطاعات الرئيسية والخدمات الحيوية، بهدف تأليب أهالي قطاع غزة للخروج إلى الشوارع والصدام الميداني مع حماس.
وليس واضحا ما الذي ستؤول إليه الأمور في ظل إصرار أبو مازن وفتح على خطتهم الضاغطة على حماس وأهالي غزة، وإن كانت الأوضاع داخل غزة مفتوحة على مختلف السيناريوهات مستقبلا.
سلبيات الصفقة
تشتمل صفقة دحلان/حماس على العديد من السلبيات والمخاطر التي تمس جوهر القضية الفلسطينية، والعلاقات العربية، والموقف المصري، والنظام السياسي الفلسطيني، فضلا عن طموحات دحلان، والإرث الدامي بينه وبين حماس في غزة.
أول المخاطر والسلبيات يمس جوهر القضية الفلسطينية، إذ إن هذه الصفقة تقضي تماما على فرص استعادة الوحدة السياسية والجغرافية بين شقيْ الوطن الفلسطيني، وتجعل غزة كيانا مستقلا.
ومن شأن ذلك انكفاء غزة على ذاتها وطنيا، والانشغال بهمومها الخاصة ومعالجة أزماتها المتفاقمة، بعيدا عن الهموم والأزمات والقضايا الوطنية الجامعة، كالقدس واللاجئين والاستيطان والعدوان الإسرائيلي المستمر.
ثاني المخاطر والسلبيات يمس الجوار الإقليمي العربي، إذ إن إنفاذ الصفقة -وربما تطوير آلياتها- يحمل إضرارا بعلاقة أبو مازن وفتح بالدولة المصرية بشكل أو بآخر، في وقت يبدو فيه الفلسطينيون أحوج إلى إعادة ترميم وتحشيد الموقف المصري الداعم لقضيتهم، بعيدا عن التحيّز المخلّ أو الاصطفاف المذموم.
"ما تخشاه حماس من مطالب واشتراطات أبو مازن ليس واردا ضمن صفقتها مع دحلان، إذ تضمن لها الصفقة استمرار هيمنتها على الجهاز الحكومي والإداري في غزة، وعدم المساس بسيطرتها الأمنية والعسكرية عليها، دون أن يضيرها تولي دحلان مسؤولية العلاقات الخارجية والدبلوماسية التي تفتقدها عمليا منذ عقد من الزمن"
ولا يقتصر الأمر على مصر فحسب، بل إن بعض الدول العربية قد تبدي حساسية تجاه أي دور سياسي فاعل لدحلان في المشهد الفلسطيني، مما يساهم في إحداث تشويش -أو ربما شرخ- في جدار بعض المواقف العربية تجاه الفلسطينيين وقضيتهم الوطنية.
ثالث المخاطر والسلبيات يتعلق بارتهان مصير الصفقة للقرار أو المزاج المصري، فلا يوجد ضامن لاستمرار إنفاذ الصفقة سوى استمرار الدعم المصري لها، مما يعني أن تغير الموقف أو المزاج المصري تجاه حماس من شأنه أن يجعل أمر الصفقة في خبر كان.
رابع المخاطر والسلبيات يتعلق بطموحات دحلان وصفاته الشخصية، إذ إن دهاء الرجل وأدواره الأمنية المعروفة سابقا وراهنا، وامتلاكه سطوة المال والعلاقات الإقليمية والدولية الواسعة، يضفي الكثير من الشكوك على إمكانية استقرار علاقته طويلا مع أحد.
فهناك من يرى أن دحلان يعتبر صفقته مع حماس مدخلا لتصفية حساباته مع خصومه السياسيين، وجسرا للعبور إلى بحر طموحاته الواسعة في اعتلاء سدة الرئاسة والحكم.
وهناك من يعتقد أن تقاسم الأدوار بين حماس ودحلان حاليا هو شأن ظرفي بحت ويلبي مصلحة آنية لدى دحلان، وأن الرجل سيعمد إلى سحب البساط من تحت أقدام حماس، ويتولى إنفاذ أجندته السياسية والأمنية المعروفة في اللحظة المناسبة مستقبلا.
آخر المخاطر والسلبيات يطال الوضع الداخلي في قطاع غزة، فلا يخفى على أحد حجم العداوة والبغضاء التي ميّزت العلاقة المتبادلة بين حماس ودحلان وجماعته في مرحلة ما قبل الانقسام 2007، وهي مرحلة مجللة بالقتل وسفك الدماء وتخريب الممتلكات والمقدرات وكل أشكال الانفلات الأمني.
وفي الوقت الذي اتهم فيه دحلان وجماعته حماس بممارسة أعمال القتل بحقهم إبان أحداث الانقسام، فإن حماس تتهم دحلان وجماعته بالشروع في تنفيذ انقلاب عسكري ضد شرعيتها الدستورية، وتشكيل فرق ومجموعات خاصة لقتل وتصفية كوادر حماس، تمهيدا لإقصائها عن المشهد السياسي الفلسطيني.
وقد يكون من السذاجة بمكان تصوّر إمكانية طيّ صفحة الماضي بين عشية وضحاها، أو الاعتقاد بأن المصالحة المجتمعية قادرة على مداواة الجروح وإغلاق ملف الدم بشكل كامل ونهائي.
لا تبدو المشكلة في القيادات والكوادر الأساسية للطرفين، وإنما تكمن المشكلة في وجود عدد لا بأس به من العناصر المشحونة لدى الطرفين، والتي لا تبدو في وارد استسهال أو استيعاب الصفقة التي هبطت على رؤوسهم كالصاعقة.
فهناك من أولياء الدم من يأبى العفو وينادي بالقصاص، وهناك من يرى في دحلان عدوا تتوجب مواجهته، مما يجعل الأمر محفوفا بالمخاطر ومفتوحا على الاحتمالات السيئة خلال المرحلة القادمة.
في الختام..؛ إن فقه الموازنات السياسية يقضي بضرورة وأولوية تحقيق المصالحة بين حماس وفتح، دون أن يعني ذلك استثناء دحلان وتياره من المشهد الفلسطيني وفق رؤية وطنية جامعة لإدارة الشأن الداخلي والصراع مع الاحتلال.
وأيا يكن الأمر، فإن السلبيات التي تخشى حماس ترتّبها على إنجاز المصالحة مع أبو مازن وفتح، تبدو أقل بكثير من المخاطر والسلبيات المترتبة على إبرام أي صفقة مع دحلان، في وقت يعيش فيه الفلسطينيون وقضيتهم الوطنية أسوأ مراحلهم على الإطلاق.