مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
الحج.. دروس.. وعبر
الحج.. دروس.. وعبر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد فإن الأعمال الصالحة تكمل الإيمان وتزيده، ولا يمكن أن يتم ويثبت في النفوس إلا بها، والحج من أكثر هذه الأعمال تأثيرا في الإيمان، وكثير من أعماله تعبدية لا تعللية، ولا يدرك الشخص حكمها، ولكنها تنبهه على الموت وما بعده، فيزداد إيمانا بذلك.
بداية الحج هي الخروج من الأوطان وسلوك هذه الفجاج العميقة ثم بعد ذلك يغتسل الشخص كما تغسل الجنازة ثم يلبس إحرامه كما يدرج في أكفانه، ثم يصلي كما يصلي المقرب للقتل، ثم يتهيأ بالتلبية لإجابة بارئه ومولاه ويتذكر بذلك إجابته إذا دعاه حين الموت، ويتجرد الشخص من مهامه كلها ومن أمور الدنيا كلها حتى من ملابسه ابتغاء مرضاة مولاه سبحانه وتعالى، وبذلك يتم الإقبال عليه فينادي بالتلبية راجيا أن يكتب الله له حجا مبرورا، الذي ليس له جزاء إلا الجنة كما ثبت في الصحيحين.
وإذا تجاوز نقطة البداية تذكر الشخص في مسيره إلى البيت الحرام أنه يسلك طريق الأنبياء، فما من نبي بعد إبراهيم عليه السلام إلا حج هذا البيت، والسالك طريق الحج عليه أن يذكر أنه حلقة من سلسلة طويلة فيها رسول اللهr وخيرته من خلقه، فلذلك عليك أن تلتزم بهديهم وسنتهم وتبتغي عند الله ما كانوا يبتغون.
فإذا رأيت كثرة القاصدين الوافدين معك من كل مكان كان هذا داعيا لتقوية الإيمان، فهؤلاء لا يمكن أن يجمعهم في صعيد واحد إلا الملك الديان، ولذلك يقولون في تلبيتهم: «لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك».
ثم إذا وصلت مكة وقطعت التلبية ودخلت هذا المسجد الحرام تذكرت أنه من هنا بدأت الإنسانية كلها، {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين}، فهو مبارك كما وصفه الله تعالى بذلك. لذلك كان رسول الله r يستلم الحجر الأسود ويقبله، وهذا البيت العتيق عتيق في الدنيا والآخرة، عتيق في الآخرة فهو مشرف عند الله تعالى معظم، وعتيق في الدنيا فلا تصل إليه السلاطين فالله جعله للناس كافة، والله جعل له عظمة في النفوس وهيبة فطر الناس عليها منذ خلقت السماوات والأرض.
وتشاهد أيضا أنه من عتق هذا البيت في الدنيا أن الله لم يأذن للبشر -إذنا كونيا- بعبادته، فالبشر عندما تنتكس فطرتهم يعبدون كل شيء، يعبدون الأحجار والأشجار وغير ذلك، وكل معظم لديهم يغالون في تعظيمه حتى يعبدونه من دون الله، ومع ذلك حال الله بينهم وبين عبادة البيت العتيق.
وتجد كذلك هذا الحجر الذي هو آية من آيات الله أنزل من الجنة وما زال من عهد آدم إلى وقتنا هذا موجودا تمر عليه القرون المتطاولة وهو باق في مكانه.
وتجد أيضا المقام: مقام إبراهيم الذي فيه موطئ قدمه عندما كان يبني الكعبة فيصعد به الحجر كلما تطاول البنيان كأنه سلم كهربائي، ومن عصر إبراهيم إلى عصرنا هذا وهو موجود كما هو، كذلك تجد من هذه الآيات البينات اطمئنان النفوس وأمنها في تلك البقاع، حتى عند غير العاقل من البهائم، من هذه الآيات البينات كذلك أن الله أوجب حجه على الناس فيأتونه في كل سنة فيقام فيه الموسم، فيأتي الناس من مشارق الأرض ومغاربها.
وهذه الآيات البينات هي التي بينها الله في قوله: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين}.
ولذلك جاء في الخبر أن الرسول r كان إذا دخل المسجد الحرام فرأى البيت العتيق قال: «اللهم زد هذا البيت تشريفا وتكريما وتعظيما ومهابة وبرا، اللهم زد من شرفه وكرمه وعظمه ممن حجه أو اعتمره تشريفا وتكريما وتعظيما ومهابة وبرا».
ولا شك أن المؤمن الذي يقفو أثر رسول الله r إذا علم أنه طاف سبعة أشواط بهذا البيت وكل الأنبياء من قبله، وأنه كان يمسح هذا الركن اليماني بيده ويقبل نفس الحجر الأسود الذي تقبله أو تلمسه بيدك، وهو الذي لمسه آدم ومن بعده من الأنبياء إلى رسولنا r لا شك أن هذا مما يزيد الإيمان، وكذلك إذا ذهب الشخص إلى الصفا والمروة فإنه يتذكر أنهما من شعائر الله، فقد قال فيهما: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} ولذلك قال رسول الله r حين اقترب من الصفا: «أبدأ بما بدأ الله به».
فإذا صعدتها تذكرت أن رسول الله r كان محصورا عليها في أربعين شخصا هم المؤمنون على وجه الأرض في دار الأرقم، وأن الله وعدهم أن يبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، وأن ينتشر حتى تخرج الظعينة من صنعاء إلى حضرموت لا تخاف إلا الله، ثم امتن الله عليهم بالإظهار والنصرة والانتشار، فتذكر هذه النعم كما أمرك الله بذلك فتقول كما قال رسول الله r: «لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده».
ثم إذا ذهبت إلى منى رأيت هذا الوادي المبارك الضيق الذي كان فيه إبراهيم خليل الله وكان يطرد الشيطان ويرجمه بالحجارة وفيه كانت قصة الذبيح فتذكر فيه التواضع الجم لرسول الله r حين امتنع أن يبنى له بيت بمنى يستظل فيه من الشمس، وقال: لا إنما منى مناخ من سبق إليها، ثم عندما تنطلق إلى عرفات تستشعر أن هذا الوادي الذي يسمى بطن نعمان هو الذي مسح الله فيه ظهر آدم بيده الكريمة فأخرج منه ذرية فسألهم وذلك في عالم الذر ألست بربكم؟ قالوا بلى جميعا، فالمؤمنون بقوا على ذلك العهد الذي أشهدوا الله عليه، وما زالوا يجددون العهد من كل سنة يتوافدون إلى هذا المكان.
ثم تتذكر هذا الموقف العظيم الذي هو أعظم يوم في السنة، لم يمر على الشيطان يوم في السنة أخزى فيه منه، ولا على العباد يوم أكثر مغفورا لهم فيه من هذا اليوم.
تذكر وقوف رسول الله r بالناس وما خاطبهم به، وتتذكر تجلي الباري سبحانه وتعالى ليباهي بعباده وملائكته فيقول: هؤلاء عبادي أتوني شعثا غبرا أشهدكم أني قد غفرت لهم، ثم إذا وصلت إلى المشعر الحرام ’’مزدلفة’’ وأنت كنت في مشعر حلال فعرفة هي المشعر الحلال لأنها خارج حدود الحرم، ومزدلفة هي المشعر الحرام لأنها داخل حدود الحرم، فتذكرت مبيت رسول الله r بها ووقوفه الموقف الذي ستقفه أنت بعد طلوع الفجر تكبر الله سبحانه وتعالى على ما هداك وما وفقك إليه من الحج فتذكر أن أهل الجاهلية كانوا يذكرون آباءهم ويتفاخرون بأنسابهم في هذا المكان فتذكر الله أكثر مما كانوا يذكرون آباءهم.
وبذلك يقوى منسوب الإيمان لديك حتى إذ فضت إلى منى وأسرت في بطن محسر وهو وادي النار تذكرت أيضا أنه هو الذي انتقم الله فيه من أصحاب الفيل الذين أرادوا هدم هذا البيت العتيق، ثم تصل إلى منى بحمد الله فإذا وصلتها ورميت جمرة العقبة تذكرت موقف رسول الله r عندها وأنك تسلك أثره.
ثم بعد ذلك إذا بدأت التحلل تذكر نعمة الله تعالى عليك لأنك أتيحت لك فرصة جديدة بعد هذه الرحلة إلى الآخرة التي تذكرك بالموت بكل ما فيه، وبالمحشر حيث جمع الناس في هذا المكان الضيق في عرفات ورأيت أنواع البشرية وأجناسهم يجتمعون من كل فج عميق، فتذكرت أن الله سبحانه وتعالى لا يعجزه حشرهم جميعا في الساهرة، تذكر ذلك الموقف العظيم التي تعلن فيه النتائج على رءوس الأشهاد، تتذكر مرورك وعبورك على الصراط وأنه جسر حقيقي وأنك اليوم تسير على جسر معنوي وهو المحجة البيضاء ليلها كنهارها، وأنه بقدر ثباتك على هذا الصراط الدنيوي يكون ثباتك على الصراط الأخروي، فاختر لنفسك وأنت تسير على صراط تتحكم فيه وأنت منه في سعة.
ثم تتذكر أن هؤلاء القوم الذين يجتمعون في هذا الحج سيتفرقون تفرقا لا لقاء بعده، فيا رب واقف بعرفة لن يقف بعدها بعرفة أبدا، ويا رب حاج في هذه السنة لا يأتي عليه هذا اليوم إلا وهو تحت التراب، لا تدري لعلك تكون منهم، فحاول أن تغتنم الفرصة وتقدم لنفسك ما ينفعها، حاول أن تتقي النار بأي شيء، حاول ولو بكلمة طيبة، حاول أن تجعل من بقية عمرك علاجا لما سلف منه.
فإذا نفرت من منى كان على يمينك الشعب الذي خلف الجمرة وهو الذي وقعت فيه بيعة العقبة كأول لبنة وضعت لبناء دولة الإسلام الكبرى، مما يحرك مشاعر الإيمان وينفض عنه الغبار.
فإذا لم تتعجل واستطعت أن تمر بمحصب بني كنانة حيث تحالفوا على حرب الله ورسوله فتذكر ما باءت به مؤامراة أعداء الله ورسوله من الفشل، وما حققه الله لرسوله من النصر والتمكين.
وفي الأخير إذا فرغ الناس من الحج وانصرفوا فإن الشخص سيتذكر أن كثيرا من الناس الذين ربما صبر على أذاهم وربما كافأهم بالأذى قد افترق معهم فرقة لا اجتماع بعدها أبدا.
وفي الختام نسأل الله سبحانه وتعاى أن يجعلنا أجمعين ممن يعقلون أمثال هذا القرآن ويفهمون ما ضربت له هذه الأمثال، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون}.
نفعنا الله بما علمنا وعلمنا ما ينفعنا وتقبل حجنا والحمد لله أولا وآخرا
*عن موقع الشيخ
أضافة تعليق