تصحيحات الزمن
سميرة بيطام
مع كل بسملة فيها استغفار، مع كل بسملة فيها إقرار أن أدعَ العنان لقَلمي؛ أن يَكتُب أحرفًا مرّةً مِن إرادتي، ومرة من إرادته،حروف الحقيقة المرَّة لا تعطيني كل الحق أن أمتلك ما أكتب، حتى ولو كان الفكر فكري، حتى لو كان العزم عزمي، حتى ولو كان التميُّز تميزي، حتى لو كان خَرقي لحدود الرداءة عن تفوُّق، حتى لو كان تحديق بصري في اللا حق واللا عدْل، فإني لا أستطيع الاستئناس بأحبابي، لكن أستطيع أن أبكي - وعن صدق - لما أنا فيه من عذاب الروح وغُربة الفُرقة في أن أجد للاغتراب أحقية على أرض تَنعم بكامل الحرية، وبسماء تجوب المعمورة على ضوء فانوس مُتوازن.
شربي لقهوة التركيز يجعلني في عزلة عن واقعي، هو فيصلي في أن أتعاطى مع قاموس الحقيقة بكل وجاهتها، لا أعي أي خطورة فيما أعيشه ما دمتُ أكتُب ليمتدَّ حقي في الكتابة ليس لآخِر صفحة، وإنما لآخِر قارئ يؤمن أن في الدنيا مُغالطات بافتعال البشر؛ فالله خلق كل شيء بقدر.
قبل أن أكمل كتابتي، تحياتي لك - أيها القارئ - هي تحية خاصة إن قرأت ما أكتُب عن وعي وإدراك لما تريده حروفي مِن واقع ضعتُ في بنوده؛ لأني لم أجد أي تفسير لسلوكيات البشر في ظلام مخادعة الضمير في لحظات غفلة مقصودة أو غير مقصودة، لا يُهم.
لم أجد أي تفسير لسلوكيات البشر في ظلام التنكُّر، تهتُ في تسبيحاته لأبحث عن نور الحق، مشيتُ في هذا الظلام آلاف الخطوات، بل أميالاً، كلَّ يوم أَكبَر فيه لا شيء يُقنعني أن لدنيا اليوم صورةً بهية، كل ساعة أفهم فيها لم أفرح بأحقية الحرية في أن أقول الحق بالحق وللحق، لم يسمع أحد صوتي؛ لأنه يوقظ الندم مِن سبات مراجعة الذات لذات الذات لمُحاوَلة استدراك ذاتية الذات على الفِطرة.
أنا لم أولد هكذا، كانت لي قراءات مُسبقة مِن نعمة التميز، أنا لم أطمح هكذا دونما سفينة رحلة الطموح؛ لأني اشتريتُ مجدافَيها مِن سوق التواضع والبساطة وحبِّ التوكُّل على الله.
قدتُ سفينتي إلى آخِر محطة بعرق المعاناة وصبر التصبُّر، توقفتُ لأصُحِّح خطوات في مساري، لكني لم أقدر؛ لأن الزمن كان سباقًا في إرادة ما أكتب، كانت له إرادة في تصحيح ما بدَر مني مِن أخطاء.
ليعلم كل واحد مِنا أننا حينما نُخطئ لا نشعر أحيانًا بالخطأ، ولا نتنبه لإرادتنا باتجاه الحماقة، حتى ونحن نكبر لا نعي العمر الحقيقي لنا؛ فالمِحَن تجعلنا نكبر بسرعة البرق، ناهيك عن عمر الأيام والساعات.
لكم - عن وعْي مِني، قبل أن يغيب الوعي في هذه الدنيا الزائلة - أني أصبحتُ أَثق كثيرًا في القلم؛ لأني أريد منه أن يُحررني مِن عقدة الندم عما صدر مني مِن أخطاء، صحيح لا تكفي الكلمات للتصحيح مثلما لا تكفي الاعتذارات، لكن أبقى بشرًا، وأبقى أني كبرت في زمن الفتن والمُغالَطات والمتناقضات، ثم تميُّزي يَمنعني أن أستنجد ببني جلدتي ليساعدوني للنهوض مِن كبوتي، لكن أظنُّها قبل كل شيء مفارَقة في أن يَستنجد التقي بالضعيف في لحظة ضعف، هي مفارَقة في أن يتجرَّد القوي من رداء المقاوَمة ليَتشبَّث بسواعد مِن فلّين دائمًا يَطفو على سطح الماء خاويًا، لا لشيء سوى أنهم أبَوا أن يَكبَروا في الحق، وعلى قامات الصدق، يشترون ثياب السترة تَقيهم حرَّ النار لغدٍ عسير، كنتُ أنشدُ أنشودة الأمل بصَوتي، وكنتُ أنا مَن يضَع نوتات الأنشودة وبلحْن القوة، لكن فجأة وجدتُ نفسي لا أُتقِن الإنشاد، بالرغم من أن الكلمات كلماتي واللحن لحني! لكن في لحظة أمل تدخَّل الزمن في فشلي؛ ليُصحح لي نوتة الثقة، لم أمنعه؛ لا لشيء سوى أن تصحيحات الزمن أقوى مِن أي تصحيح، حتى وأنا أعيد اللحن مِن جديد، وبِنوتة الثقة أدركتُ أن تصحيحات الزمن لا دخل للبشر فيها؛ لأنها توءم للقضاء والقدر.
فيا زماني، صحِّح نوتات لحني؛ فإني بِنوتة الثِّقة في ثبات؛ لم أكن أدري أن لتصحيحاتك وقْعًا على حروفي في أنك للتصحيح أقدر، تعبتُ مِن اختبار الألحان فلم أجد فسحةً لصحَّة ألحاني، تركتُ لك المجال واسعًا فكان في تصحيحك السؤدد، كان أوهَن البيوت بيت العنكبوت، وكان القبر أدوَم البيوت، لذا أردتُ منك تصحيحًا صحيحًا؛ فالله لا يُقابل إلا بصحة الأفعال.