دعائم من حديد
لستُ أختار من مادة الحديد سندًا قويًّا ضد الخُطوب، ولست ممن يُعوِّل على الحديد في ضروب القوة على شتى أنواع التصدِّي، ولست أبدًا أصنع رداء المقاومة من صهريج يحوي حديدًا، فما كان من معدن الصلابة هو لشد المتون على عمارات السكن ليس إلا.
لي وداعة وتواضُع في أن أُحِب قلمي حبًّا خالصًا فيه الكثير من القناعة لمادة الرصاص التي تَنقُل عني خواطري، لم أستَعِن بموادَّ أخرى أكثر تركيبًا في ممزوجات السيطرة والإحكام على الحرف؛ لأني ببساطة أُحِبُّ الطلاقة لكلماتي على ورقٍ خفيف السطور والدروب.
هاكم مني شذا وفائي، بَدءًا بحرفي ووصولاً إلى نسمات القبول منكم إن كان فيه رضا منكم بفحوى الحديث.. ولو أني صِرتُ أفضِّل الصمتَ بنحو ألف اختيار على أن أختار من الكلام ما يُبرِّر أحاسيسي وأقوالي، فهل صار الصمتُ عملةَ الاحتكام بالصبر والرؤية الثاقبة لما وراء ريحانات العِطر المُفدَّى من على صبحيات الأثير لغد أتمنَّاه مُشرِقًا وهادئًا ومسالِمًا، بعيدًا عن صخبِ الدنيا وضجيجها، فالكل يحتاج إلى سويعات من نهار يطمئن فيها على رُوحه ودِينه وصحته وكل ما هو تاج رأسه، هي حقوق يجب الحِفاظ عليها، ولو أن مزايا أخذ الحقوق أصبح في مضاربات عديدة لمطاردات الباطل والرداءة وسوء الحظ مع مَن خِلناهم السند والدعم، والود كل الود من لحظات تقاسمناها معهم، لا يُهِم، فالمهم من الأهم أصغر بكثير في أن نُفكِّر بعمق عما مضى وانقضى، المهم فيما نحن فيه وفيما سنكون عليه من مواضع تُرضي الله، ولا حاجة لنا أن نُرضي العباد، فذاك اقتراح زائد لن يَزيد القضية تماسُكًا ولا عطرًا ممزوجًا بصدق النوايا؛ لذلك كان تركيزنا في الأول هو في راحة بالِنا بعيدًا عن أصحاب أمراض القلوب، ولو أن العلاج مُستَعصٍ في هذا الزمن، ليس لغياب الدواء؛ ولكن لغياب طبيب الأرواح الطيبة في مسحة تقيّة من يده يَشفي بها العليل، فالدواء في أن يتخلَّى المريض عن أزمة ما في قلبه، فحتى لو استعصى الأمر، سيَظلُّ الإيمان هو الدواء الحقيقي والشافي لأسقام حارت البشريَّة في إيجاد حلٍّ مُقنِع لها.
أتوتَّر نوعًا ما وأنا أتحدَّث عن فواصل من الحياة هي موجودة فعلاً، لكني مُجبَرة على التعريج عليها ولو بسطر واحد من أسطري، لا لشيء سوى لاستخلاص دعائم القوَّة مما نُواجِهه من عراقيل وصعوبات ستتبدَّد رويدًا رويدًا إلى بلورات كالثلج تتدحرج أسفًا من أعالي القمم، هكذا هو حال التهور والخيلاء المُضلِّلة، مآلها أسفل السافلين، ويا عجبًا لمن يختار له دحرجةً لولبيَّة على مسارع النزول! لكن إلى أين؟
حقيقة، ليست تسعى لصعود فيه لنا من الإعجاب ما سنُصفِّق له طويلاً، ولكنه هبوط اضطراري على أرضية الهوان.
عفوًا لتفكير أخذني إلى ما لا أريد التوقف عنده، فوَفْقًا لمدارك الإنسان الفَطِن، هناك من الدعائم من كانت ركيزة ولَبِنة يُعوَّل عليها في الصعود للقمة، فليس في تسارُع الخطى واختزال السلالم يكون الانفلات في سرعة للتسلُّق للعُلا، ولكنه التأمل العقلاني لمكامن القوة فينا من دعائم العقيدة الصحيحة التي تُوجِّه سلوكَنا وتفكيرنا باتجاه النقاء والتقوى والطيبة، إلى هناك حيث الأمان والنجاح الحقيقي والتوفيق ..فما هي شاكِلته؟
هو ذاك الترفع بإيمان صادق وحُبٍّ كبير لله - عز وجل - في أنه لن يُصيبنا إلا ما كتبه لنا، ففي هذا الاقتناع توكُّل في تقبُّل الحياة كما هي بشتى ألوان التعاطي معها من خير وشر، وحق وباطل، ليكون ذاك التمييز بين النواقض هو أساسَ رسالتنا في هذا الوجود.
فنحن لم نُخْلق عبثًا، ولم نُخلَق هراء دونما واجبات نؤدّيها وأوسمة نتقلَّدها، إنه الشرف لكل مسلم في أن يعطي ما عنده ليُصحِّح ما في الحياة من تَجاوزات، يا له من دور ثمين فيه الكثير من الأجر والثواب، وإلا فما حاجتنا لصلاة وزكاة وحج وصوم، وقلوبنا لا تَنبِض حبًّا في أداء الرسالة الحقة، وهي الوقوف على دعائم من حديد لتأدية الواجب المطلوب منا على بوابة التشريف؟! لكل مسلم لكل واعٍ بضرورة حمل المشعل نيابة عمن غادروا الدنيا بتركهم بصمات من ذهب، نحن الآن نقف على دعائم من حديد، ولو تفوَّقنا في مهمّتنا نُخلِّف وراءنا دعائمَ من ذهب لأجيال ستَجِد لها معالمَ على الطريق، ولن تَضِل الخطى ما دامت تقتفي الأثرَ بعين يَقِظة ومُتبصِّرة، ليست هناك ميوعة بل معدن من قوة تَستمِد عطاءها من كتاب الله - عز وجل - ومن سُنَّة نبيّه - صلى الله عليه وسلم - هو درب الخَلَف لخير السلف بمسافة الوفاء والحِفاظ على الأمانة، على دعائم من حديد.